ليس هناك إحساس أبشع من أن تدخل أم على ابنها فتجده منتحرا ومعلقا فى سقف حجرته، مشهد كفيل بقتل أى أم أو أب، تفشل معه كل محاولات التخيل لهذه الإحساس، أبعده الله عنا جميعا.
أن ترى ابنك الذى تعيش من أجله وتذوق مر الحياة وتتحمل ضغوطها حتى توفر له ما يعينه عليها، الأمل الذى تحيا من أجله، وعمرك الذى تأمل أن يمتد بعد رحيلك مشنوقا مخنوقا فاقدا لروحه وروحك.
كيف لإنسان أن يتحمل تلك الصدمة، ما الذى يدفع طفلا للإقدام على قتل نفسه، ما الإحساس الذى انتابه وأوصله لهذه الدرجة من كراهية الحياة، حتى ظن أن الموت بهذه الطريقة سيكون أرحم وأفضل .
50 طفلا أنهوا حياتهم بأيديهم وقرروا الانتحار منذ بداية العام الحالى طبقا لإحصائية رصدتها المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة، و3 أطفال انتحروا خلال الأسبوع الماضى فقط، اختلفت الأسباب أو اختفت أحيانا والنتيجة واحدة.. طفل انتحر !!!
"أشعر بالذنب لأنى اعتدت الكذب على والدى، ولا أستطيع أن أكمل الحياة..سامحونى".. كلمات تركها الطفل "على" الطالب بالصف الخامس الابتدائى والذى لا يتعد عمره 11 عاما من محافظة بنى سويف قبل أن يشنق نفسه فى مروحة سقف غرفته، ويفاجئ والديه بمشهده معلقا فاقدا للروح دون أن يعرفا السبب.
وقبل هذه الواقعة بأيام قليلة، نشر طالب بالصف الثالث الثانوى رسالة على حسابه الشخصى بموقع التواصل الإجتماعى "فيس بوك"، ودع فيها أصدقاءه وأقاربه معلناً إقدامه على الانتحار، قائلا:" حانت لحظه الوداع، أنوى الانتقال إلى خالقى"، وفوجئت الأم بعد عودتها من العمل بابنها معلقا فى سقف الغرفة. وفى الواقعتين لم يعرف الوالدان سببا مباشرا دفع أبناءهما للانتحار.
حتى حينما انتحر طالب بالصف الأول الإعدادى بمحافظة القليوبية بعدما عنفه والده لأنه أخذ 5 جنيهات دون أن يخبره، لم يتخيل الأب أن يكون رد فعل ابنه على هذا الموقف الذى قد يمر به مئات الأطفال هو الانتحار والتخلص من حياته.
كما لم تتوقع أسرة الطفل مدحت الذى لم يتجاوز عمره 13 عاما بالبحيرة أن يشنق نفسه فى المروحة بطرحه، خوفا من عقاب والدته بعد مشاجرة مع شقيقته الكبرى وقيامه بضربها.
بينما انتحر طالب آخر بالصف الأول الثانوى الزراعى شنقا، داخل غرفته بالشرقية، بسبب احساسه بالفشل بعد تكرار رسوبه، ونشهد كل عام حوادث انتحار عشرات ومئات الطلاب بالثانوية العامة سواء بسبب صعوبة الامتحانات أو عدم الحصول على الدرجات التى تنتظرها الأسرة من ابنها أو ابنتها بعد أعوام من الشقاء وشد الحزام بسبب دروس وضغوط الثانوية العامة.
أسباب كثيرة ومواقف أكثر قد تمر بيننا وبين أبنائنا، سواء كنا أغنياء أو فقراء أو متوسطى الحال، نظنها عادية ولا نتخيل أن أى منها قد يكون قشة تقسم ظهور أبنائنا وتدفعهم للانتحار، بعد سلسلة من الضغوط قد لا نشعر بها، ولا نرى معاناتهم حتى نراهم معلقين فى أسقف منازلنا، هنا قد يفكر كل منا ويراجع مواقفه ويتذكر مواقف كثيرة لم ينتبه إليها، بسبب ضغوط الحياة التى تسحقنا وتسحق أبنائنا تحت عجلاتها.
تأخذنا رحلة الحياة وشقاؤها واللهث وراء توفير لقمة العيش ومتطلبات الحياة ومشكلاتها فتنهكنا وتعصف بهدوئنا، فلا نجد وقتا لأبنائنا، نظنهم لا يحتاجون منا سوى توفير ما يأكلونه ويشربونه ويلبسونه وينفقونه، فنجرى ونلهث وننسى أن ننظر إليهم، أن نضحك فى وجوههم، أن نقول لهم أنهم أهم ما فى حياتنا، ننسى أن نأخذهم فى أحضاننا ونقول لهم أننا نحبهم أكثر من أنفسنا، وقد نتذكر كل هذه الأشياء فقط حين يضيعون منا.
نغفل عنهم ونظنهم أصغر من أن يشعروا بضغوطنا، نلومهم كثيرا إذا ما عجزنا عن توفير ما يحتاجون، وأحيانا حين نوفره لهم، يدفعون ثمن غلاء الأسعار، وضغوط العمل، ورغبتنا فى أن يكونوا أفضل منا، ندخلهم رغما عنهم فى سباق عبثى للحصول على درجات أكبر فى نظام تعليمى فاشل، نقسو عليهم لتحقيق أحلامنا فيهم، نريدهم كما نرغب ولا ننظر إلى ما يريدون وأحيانا لا نجد وقتا حتى كى نسألهم عن أحلامهم.
لا نفهم أن ما نشكوه من سوء أخلاقهم أو عنادهم وكذبهم محاولات كى يلفتون انتباهنا، كى نقترب منهم، ونتحدث معهم، فى زمن لا نجد فيه وقتا حتى للجلوس مع أنفسنا.
كثيرا ما ننقل لهم إحساسا بأنهم عبء يضاف إلى أعبائنا، تطحننا ظروف الحياة ومشاغلها فنقسو ونجور عليهم، حتى نفاجئ بهم وقد كرهوا الحياة ورحلوا إلى عالم آخر، وحينها لن نستطيع أن نأخذهم فى أحضاننا، أن نقول لهم ما شغلتنا الحياة عن قوله، لن نستطيع أن نضحك فى وجوههم أو نخبرهم بأننا نحبهم، حينها سندرك أن هذه الأشياء البسيطة أهم بكثير مما نلهث فى البحث عنه وتوفيره.