المعارض التركى البارز فتح الله جولن يكشف وجه أردوغان القبيح تجاه مصر.. ويؤكد: أراد الهيمنة عليها من خلال "الإخوان".. وما يصدر منه هذيان.. والجيش التركى يشعر بالإهانة وسيفتح عليه أبوابا لم يتوقعها

جولن: ماجرى فى تركيا "مسرحية" لجأ إليها أردوغان للسيطرة على الجيش والانفراد التام بالسلطة المعارض التركى يشكر مصر لرفضها إدراج حركته كجماعة إرهابية الشرطة والقضاء والإعلام تحت سيطرة أردوغان والشعب لم يتحرك بسبب القمع والرعب كشف فتح الله جولن المفكر والمعارض التركى الأشهر، أسرار كراهية الرئيس التركى رجب طيب أردوغان لمصر ووجه القبيح تجاهها، ومحاولاته الخبيثة للهيمة عليها. وأكد مؤسس حركة "الخدمة" التى أعلنها الرئيس التركى رجب طيب أردوغان منظمة إرهابية للانتقام منها بعد معارضتها لسياسته القمعية وكشفها ملفات فساد تتعلق بأسرته ووزرائه، أن ماجرى فى تركيا "مسرحية" لجأ إليها أردوغان للسيطرة على الجيش والانفراد التام بالسلطة، وهو ماحدث بالفعل بعد أيام قليلة من محاولة الانقلاب. ويعد جولن أحد أشهر الشخصيات التى اثارت جدلا سياسيا عالميا خلال العام الحالى، واتهمه الرئيس التركى بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة التى جرت فى تركيا شهر يوليو الماضى، كما أعتبره أردوغان العدو الأول له بعد ان اختلف مع سياساته واضطر للعيش فى ولاية بنسيلفنيا الأمريكية. وتحدث جولن، خلال حوار أجراه الزميل أميـر لاشــيـن، بجريدة "الأخبار" المصرية، ما أثير حول نيته مغادرة أمريكا والاستقرار فى مصر وعن مزاعم وجود ارتباط فكرى بين جماعته وجماعة الإخوان ولماذا لم يتحرك الشعب التركى ضد أردوغان، رغم نسفه للديمقراطية التركية واتباع سياسات قمعية خلفت وراءها عشرات الآلاف من السياسيين والعسكريين والصحفيين؟، وهل من الوارد أن يتحرك الجيش التركى بعد تدخل أردوغان فى شئونه واستبدال قياداته بآخرين موالين له ولحزبه؟. وإلى نص الحوار.. • اتهمكم أردوغان بقيادة انقلاب ضده فى تركيا لكنكم وصفتم ماجرى بأنه مسرحية ما دليلكم أن ما حدث مسرحية؟ - إننى أقول هذا بناء على المعلومات التى تناثرت هنا وهناك، لكنى لا أتَّهم أحدا بشخصه.. فقد قُدِّر لى أن أشاهد كل الانقلابات التى جرت منذ العام 1960، وعايشت أجواءها كلها، وكنت هدفا للبعض منها وعانيت كثيرا بسببها، لذلك أعرف ما يمكن أن يطلق عليه »انقلابا» نوعا ما. وبناء على كل ما عايشته خلال الانقلابات السابقة يمكننى القول إن هناك لعبة ما فى تفاصيل هذا الانقلاب المزعوم، فمثلا لم يبدأ أى واحد من الانقلابات السابقة بإغلاق للجسور، ولا تتم الانقلابات فى وضح النهار أو فى ساعات الذروة من الليل، والتى تكون الجماهير فيها لا تزال فى الشوارع كما حدث فى الأخير. لكن وصفنا له بالمسرحية لا يعنى أبدا الاستهانة بالأرواح التى راحت ضحية لهذه الأحداث، سواء من المدنيين أو من أفراد الشرطة والجيش،فأنا أدعو الله أن يتقبلهم عنده من الشهداء. قد تختلفون معى فى وجهة النظر هذه، لكن اسمحوا لى أن أقول: إن الانقلاب له منطق معين، فهو يبدأ بمن هم على رأس الهرم، لأنهم الهدف النهائي. لكن الأمور لم تجر على هذا النحو فى تلك الليلة، مما يعنى أن الانقلاب نفسه لم يكن هدفا، وإنما الهدف هو إخراج الأحداث فى صورة انقلاب لتحقيق أهداف أخرى من ورائه، ما كانوا ليحققوها فى الظروف العادية. ولذلك قاموا بهذا الانقلاب الصورى فألقوا القنابل فى مبانٍ فارغة، وبدلا من الذهاب إلى أماكن المسئولين بدأوا يهاجمون الشعب، ولم يحدث أى مساس بأى سياسي، لذا رأينا السياسيين يستعرضون عضلاتهم على شاشات التلفزة لساعات طويلة، بينما الأحداث تجرى على أشدها فى الشوارع بين الجماهير وأفرادٍ وآليات من القوات المسلحة.. لم تحدث أية مداهمة لأى مبنى تليفزيونى سوى مبنى التلفزيون الرسمى TکT بشكل عرضى ولفترة محدودة، فى الوقت الذى كانت تبث فيه قنوات التلفزة الأخرى خطاباتِ وتصريحات المسئولين الحكوميين ونداءاتهم للشعب وتحريضهم له على الخروج لمواجهة الجيش. لهذا كله شككت فى كونها انقلابا حقيقيا، إذ لم يكن واحدا من الانقلابات التى عشتها من هذا القبيل. أضف إلى ذلك، العدد المحدود جدا من الآليات كالدبابات ومركبات الجنود التى تواجدت فى الشوارع، واعتلتها الجماهير فى مشهد استعراضى كأنها أُرسلت لذلك. بل إن بعضا من المدنيين اقتحموا هذه الدبابات وقاموا باستخدامها وقيادتها، مما يلقى نوعا من ظلال الشك على نوعية هؤلاء المدنيين، وطريقة تواجدهم فى هذه الأماكن تحديدا فمنذ بداية الأحداث فَهِم َكل من له عقل ممن رأوا هذا المشهد ولديهم اطلاع على ماهية الانقلابات، أو شاهدوا إجراءاتها من قبل، أن ما يحدث ليس من الانقلاب فى شيء. كما أن الجنود الذين كانوا يتواجدون فى الشوارع لم يكن لديهم علم بطبيعة المهمة المكلفين بها، فقد قيل لهم: »إن هناك تطبيقات عسكرية»، لذلك كانوا لا يعرفون إلى أين يتجهون، بل إن أحد الجنود عندما سئل عن وجهته أجاب: »إن هناك إرهابيا سنذهب إلى اعتقاله، وانتظِروا منا الخبر». • عدد الجنرالات المعتقلين على خلفية هذا الانقلاب المزعوم يبلغ نحو 150 جنرالا، تحت قيادتهم مئات الآلاف من الجنود والضباط وضباط الصف، بينما لم يتواجد فى الشوارع من هؤلاء الجنود سوى بضعة آلاف حسب الروايات الرسمية فأين ذهب بقية الجنود والضباط؟ ولماذا لم يكونوا فى مسرح الأحداث؟ - لقد قضيت سنتين من عمرى أؤدى واجب الجندية فى صفوف الجيش التركي، ولدى إلمام بطبيعة العمل فى هذه المؤسسة، ومدى الجدية والانضباط فى تلقى الأوامر والتعليمات من القيادة، وكل الذين أدوا واجبهم الوطنى فى الجيش يعلمون هذا. فإذا قيّمنا كل هذه الأمور تقييما شاملا فسيتبين لنا أنه عمل مدبر من قِبَل أناس لا يتحلون بجدية الجندية،وأنه أشبه بسيناريو أُعدّ خصيصا لتحقيق أهداف معينة. • بناء على هذا التحليل، مَنْ فى رأيكم كاتب هذا السيناريو؟ ومَنْ الذى قام بإخراجه؟ هناك من ردد بأن هذا العمل قام به »القوميون-العلمانيون»، ومنهم من ذكر »الكماليين المتطرفين»، ومنهم من ذكر ثلاث فئات، ومنهم من ذكر خمسا.. وهناك جهات ذكرت أنه تم الدفع بمجموعة من المتدينين فى المقدمة ليكونوا فى الواجهة ويحمّلوهم المسئولية. على كلٍّ لابد من إجراء تحقيق شامل عادل ونزيه للكشف عن ملابسات هذا الانقلاب وفضح من ورائه. ولكن إجراء تحقيق بهذه الأوصاف فى ظل الأوضاع الراهنة فى تركيا أمر يصعب تحققه، اللهم إلا إذا انعقدت لجنة دولية للتحقيق فى الأمر، ساعتها يمكن الوصول إلى نتائج سليمة. ومن جهة أخرى لابد أن ننظر إلى الأمور بنظرة أكثر شمولية حتى نقف على المخططين الاستراتيجيين لهذه المحاولة، ومن هم المستفيدون منها بدلا من الغرق فى التفاصيل. لقد مر وقت ليس بالقليل على الأحداث حتى الآن، ومع كل هذه الإجراءات التى اتخذوها نستطيع القول: إن الجهود المبذولة بغرض الكشف عن المخططين والمنفذين الحقيقيين لا تسير بصورة جدية حتى الآن. بل على العكس فرغم أن الذين قاموا بمحاولة الانقلاب الفاشلة هذه على حد قولهم أفرادٌ من وحدات الجيش العسكرية إلا أن إجراءات الاعتقال والفصل من الأعمال، وسحب الجوازات ومصادرة الأموال وتأميم الشركات والتعذيب فى السجون، ومعاملة الأبرياء من المعتقلين معاملة المجرمين، بل والإفراج عن عدد كبير جدا من المجرمين الحقيقيين من ذوى الأحكام بعفو عام لاستيعاب عدد آخر من الأبرياء، كل هذه الإجراءات تمتد لتطال قطاعا كبيرا من المدنيين أكبر بكثير ممن استهدفتهم داخل الجيش. فقد استهدفت قرابة مئة ألف من المعلمين والقضاة والمدعين العامين وأفراد الشرطة والعمال وأصحاب الحرف وأعضاء الجمعيات الخيرية والإعلاميين.. حتى طالت الأطفال وكبار السن والنساء والمرضي، ولا تزال تلك الانتهاكات مستمرة دون توقف بذريعة الانقلاب. وكل هذه العمليات تكشف للمراقب أن النية مبيتة على الاستمرار فى التغطية على الفاعل الحقيقى وعدم الكشف عنه، فمؤسسة الجيش من أكثر المؤسسات فى البلاد انضباطا ودقة فى تطبيق التعليمات والأوامر، وليس من الصعب الكشف عن أصغر قضية فيها وتحديد أطرافها، لذا نرى من التناقض أن يتم الزج بهذا العدد الكبير من المدنيين فى السجون والمعتقلات واتهام مجموعة كبيرة أخرى بأنهم وراء هذا الانقلاب فى قطاعات مدنية مختلفة منذ اللحظات الأولى للانقلاب، وألا يتم فى الوقت نفسه الإفصاح عن أسماء المتورطين. أو الكشف عن الفاعلين والمدبرين لهذا الأمر من أفراد الجيش، وإعلان أسمائهم للرأى العام على الرغم من مرور هذا الوقت الطويل. هناك جهة فى الجيش تُدعى »مجلس السلام الوطني» يُعزى إليها محاولة الانقلاب الفاشلة، ولكن إلى الآن ليس لدينا أى معلومات عنها، كم عددهم؟ وما ارتباطاتهم؟ من الذين استخدموا الدبابات والطائرات؟ وممن تلقوا أوامرهم؟ ومن حرض طلاب المدارس العسكرية السذج حتى خرجوا إلى الشوارع على هذا النحو؟ من استغل عواطفهم البريئة وقام بحشدهم؟ من احتجز الجنرالات من هيئة الأركان بل ورئيس الأركان نفسه؟ تداولت وسائل الإعلام تصريحات متضاربة فى كل هذه الأمور، تسمع أن فلانا هو من وراء هذا الانقلاب، ثم فى اليوم التالى يتحدثون عن بطولته فى إفشال هذه المحاولة. وهكذا كلما زادت التصريحات زادت معها التناقضات بدلا من العكس. يقولون إن كل الأمور باتت تحت السيطرة، فما دام الأمر كذلك فلماذا لا يعلنون النتائج بشفافية على الرأى العام؟ تجارب سابقة • برغم كل هذه الأمور التى ذكرتموها لابد أنكم قد تشكلت لديكم قناعة حول الفاعلين الأصليين، فإلام توصلتم فى هذه القناعة من خلال تجاربكم السابقة وتوقعاتكم الحالية؟ - لست مطلعا على كافة التفاصيل، هناك ادعاءات تتردد فى الأوساط الإعلامية لم يتبين لى مدى صحتها تشير إلى أن مجموعة من »العلمانيين القوميين» هم من وراء هذه المحاولة، وأن هناك اعتقالات لبعض من المعروفين بتأييدهم لـ»دوغو برينتشك» رئيس حزب الوطن القومى المتطرف الذى كان معتقلا على خلفية قضية الأرجنكون، وتم الإفراج عنه بعد تفاهمات مع الحكومة الحالية. ومن جهة أخرى كتبت مجلة »فوكس» (Focus)الألمانية استنادا إلى مصادر من الاستخبارات الإنجليزية أن هذه العملية قام بتدبيرها مجموعة من السياسيين بغرض إدانة حركة الخدمة، وأعتقد أنه فى القريب العاجل سترشح معلومات ودلائل أخرى تشير إلى الفاعلين الحقيقيين. لكن وحتى تظهر تلك الدلائل فالحكومة هى المسئولة أمام الرأى العام المحلى والعالمى عن البحث والتدقيق الجاد لكشف ملابسات هذه الأحداث، والإفصاح عن المخططين والمنفذين الحقيقيين لهذه المحاولة. لكن يبدو أن الحكومة لا تسعى سعيا جديا فى هذا المجال، فعمليات القبض والاعتقال العشوائية، والاستمرار فيما يسمى بمطاردة »الساحرات»، والدعايات الإعلامية التحريضية، وسائر ألوان الظلم والاضطهاد وأعمال التعذيب الوحشية والانتهاكات الجسدية، بالإضافة إلى تعرض عائلات المقبوض عليهم والمعتقلين من نساء وأطفال ومرضى وكبار السن لصنوف شتى من الإيذاء، كل هذا يشى بأن الحكومة ليس فى نيتها الكشف عن المخططين والمنفذين الأصليين لهذه العملية. • لماذا الخدمة؟ - إن محبى الخدمة والمتطوعين فيها قد نأوا بأنفسهم عن الانخراط فى العمل السياسي، وابتعدوا تماما عن كل ما يمت بصلة للإسلام السياسي.لكنه بعد وصول المنتمين إلى فكر الإسلام السياسى إلى سدة الحكم، وتمكنهم من مراكز القوة وصناعة القرار بدأوا ينظرون إلى كل الحركات ذات المرجعية الإسلامية، والناشطة فى المجتمع المدنى بأنهم يجب أن يعلنوا لهم ولاءهم، ويقوموا بمبايعتهم على غرار نظام البيعة التقليدى المشهور فى التراث الإسلامي. فالشخص القابع الآن فى سدة الرئاسة زار كثيرا من الشخصيات عندما كان بصدد تأسيس حزبه عام 1999،وقد زارنى أيضا لطلب الدعم وتلقى النصائح، وقدمت له بعض التوصيات بناء على ما أبداه لى من جدية وإخلاص، لكن تبين لاحقا أنه كان مخادعا، فقد حكى عنه بعد مدة أحد الذين رافقوه فى هذا اللقاء أثناء مغادرته وهو فى المصعد قوله:» ينبغى القضاء على هؤلاء أولا.» وهذا يعنى أنه ما كان يُكِنّ لنا أى ود من الأساس، وأن تصريحاته فى مدح حركة الخدمة والثناء على أنشطتها ما هى إلا مراوغات من سياسى احترف الخداع. لقد كان دعمنا له فى البداية بناء على ما قطعه على نفسه تجاه الشعب التركى من وعود، فقد وعد بدعم الحريات واحترام القانون وتعديل الدستور، وتعزيز الديمقراطية والسعى قدما فى سبيل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتلبية المتطلبات المتعلقة بذلك فى ملفات الديمقراطية والحقوق والحريات واحترام الإنسان. لكن مواقفه تغيرت كليا عقب الاستفتاء العام على الدستور عام 2010. فقد علق الوعد بتعديل الدستور على دعمنا له فى النظام الرئاسي، ثم طووا ملف تعديل الدستور هذا كليا، وطالبونا بالدعم العلنى للنظام الرئاسي، وتأييدهم مطلقا فى كل مواقفهم، وأن ندور معهم فى تقلباتهم حيث داروا. لم يستطيعوا أن يفهموا أن دعمنا لهم أو انتقادنا لأدائهم ليس مرتبطا بهم بقدر ما هو مرتبط بمبادئنا التى نتمسك بها دائما. لقد قلبوا لنا بعدها أفصحوا عن وجههم الحقيقى تجاهنا، لم يتحملوا أن يكون هناك اتجاه فى البلد له تأثير فى الرأى العام بمقتضى نشاطاته وفعالياته المجتمعية ولا يمكنهم التحكم فيه، لذا قرروا التخلص منا تماما. بدأوا أولا بتوفير مؤسسات بديلة للخدمة من أموال الشعب ومن ميزانية الدولة، وبذلوا كل ما فى وسعهم فى سبيل ذلك، سواء فى الداخل التركى أو على مستوى العالم. ولما فشلوا فى ذلك لأنهم لم يكن لدى أفرادهم الروح نفسها التى يتحلى بها أبناء الخدمة المتطوعون فيها قرروا الاستيلاء على هذه المؤسسات التى أنشأها المجتمع بنفسه. وبدلا من حيازتها وإدارتها إدارة حكيمة من طرف الدولة أعلنوا إفلاسها وأغلقوها ثم وزعوها فيما بعد على المقربين منهم، وهم الآن يحاولون الشيء نفسه فى الخارج، لكن باءت كل محاولاتهم تلك بالفشل، لأن الله لا يصلح عمل المفسدين. سلطات واسعة • إذا كان أردوغان لديه كل هذه السلطات الواسعة، فلماذا يلجأ إلى مثل هذه الوسائل لماذا يدبر مسرحية الانقلاب حسب قولكم؟ - إن القائمين على شأن البلاد الآن يسعون منذ خمس سنوات بذرائع مختلفة لتوسيع صلاحياتهم، وجمع كل السلطات فى يد واحدة،تمهيدا لإقرار النظام الرئاسي. وقد بدأوا هذا عن طريق الإعلام، فأنشأوا آلية معروفة الآن باسم » الحوض الإعلامي»، نقلوا من خلالها كثيرا من وسائل الإعلام المستقلة أو المملوكة لأفراد لا يُظهرون الدعم لهم إلى ملكية رجال أعمال موالين، من خلال إفلاس مالكيها الأصليين، أو الحجز على ممتلكاتهم. حتى القنوات الإعلامية التى استطاعت أن تحافظ على حياديتها بالرغم من تلك الإجراءات كلها، قاموا بإرهابها مستغلين فى ذلك أحداث »جيزى بارك» التى وقعت فى تقسيم. وبدلا من تقديم الفسدة والمرتشين إلى العدالة بعد انكشاف فضائح الفساد فى 17-25 ديسمبر 2013،زعموا أن الخدمة هى من قامت بهذه العملية بغرض إحداث انقلاب مدنى على الحكومة، وبدأت ماكينة الإعلام سالفة الذكر تشتغل على هذا الموضوع، واستغلوا حينها الفرصة وقاموا بتغييرات شاملة فى جهازى الشرطة والقضاء، أبعدوا فيها كل من كانوا يجرون التحقيقات فى هذه القضايا من القضاة والمدعين العموم، وقاموا بعزل وإبعاد كثير من غيرهم، وعينوا مكانهم موالين لهم، حتى صار الجهازان الشرطى والقضائى تحت وصايتهم تماما. ثم اتجهوا بعد ذلك إلى المؤسسة العسكرية يطالبون بتطهيرها على حد زعمهم مما يطلقون عليه »الكيان الموازي»، وقد قاموا قبل ذلك بتصفية بعض الجنرالات بعزلهم من مناصبهم أو اعتقالهم فى القضيتين الشهيرتين اللتين أطلق عليهما »أرجنيكون» و»باليوز» (المطرقة)، واعتقدوا أن الأمور ستتم بنفس السهولة التى حدثت فى جهازى الشرطة والقضاء، لكن المؤسسة العسكرية طالبتهم بتقديم الأدلة على انتماء هذه القوائم المعدة سلفا للخدمة، وأصرت على العمل فى إطار القوانين فى مقاومة منها لدخول المؤسسة العسكرية تحت وصاية الحكومة، والحفاظ على استقلاليتها.لذلك لم يكن أمامهم من سبيل إلا تدبير محاولة من هذا النوع لبسط النفوذ الكامل على مؤسسة الجيش. وإن الناظر لما آلت إليه الأمور والإجراءات بعد الانقلاب فسيجدها تسير جميعا فى هذا الاتجاه، فإعادة هيكلة الجيش، وإدخال عناصر مدنية إلى مجلس الشورى العسكرى لأول مرة، وعزل الآلاف من مختلف الرتب وتسريحهم من مناصبهم،وتعيين موالين مكانهم وإغلاق المدارس والكليات العسكرية ما كان ليتم دون وقوع عملية من هذا النوع. • عكست وسائل الإعلام خلال بثها لمهرجانات الديمقراطية عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة توحد المعارضة مع أردوغان فكيف ترون ذلك؟ - قبل محاولة الانقلاب الأخيرة كانت السلطة قد أحكمت قبضتها بما يعادل 95 % تقريبا على وسائل الإعلام فى البلاد، وتحول الإعلام إثر ذلك إلى أداة للدعاية للحزب الحاكم وعلى رأسه أردوغان. وبعد المحاولة الانقلابية بات كل من يفكر فى معارضة السلطة أو التعليق على أدائها يصنف فى عداد الخائنين.فعدد كبير الآن من كبار الصحفيين أو الكتاب الذين كانوا يعبرون عن رأيهم فى أداء الحكومة إما فى المعتقلات أو قيد الإقامة الجبرية ولا يسمح لهم بمغادرة البلاد. ففى مناخ جنونى كهذا هل تعتقد أن هناك من يتجاسر على المعارضة أو حتى يناقش الأحداث بموضوعية دون أن يكون أمنه وسلامته وسلامة عائلته معرضة للخطر؟ إن الدعاية الإعلامية الكاذبة فى أوروبا أيام هتلر وموسولينى كانت هى العامل الأول والرئيسى فى حشد الجماهير نحو أهداف بشعة، وسيأتى يوم تكتشف فيه جماهير شعبنا كيف أنهم تم تضليلهم واندفعوا إلى ارتكاب بعض الحماقات بسبب تلك الدعاية التحريضية الكاذبة، وإلى أن يحين هذا الوقت سيبقى عدد كبير منهم للأسف ضحايا هذا التضليل الإعلامى المحرض. • قلتم إن أكثر المستفيدين من هذه العملية هو أردوغان، وهذا يعنى أن هناك مستفيدين آخرين، فمن هؤلاء حسب رأيكم؟ - عقب فشل المحاولة الانقلابية جرت عمليات تصفية واسعة فى صفوف المؤسسة العسكرية قبل التحقيق فى أحداثها والكشف عن ملابساتها، وتم استدعاء مجموعة من العسكريين الذين أدينوا وتمت محاكمتهم فى محاولات انقلابية من قبل، ليحلوا محل هؤلاء المُسَرَّحين. من جهة أخرى أفادت بعض التقارير التى أعدها الخبراء أن عمليات التصفية والتسريح شملت أيضا كل من لم يدعم السلطة الحالية فى محاولاتها جر البلاد إلى مغامرات مجهولة العواقب،حتى ولو كانوا من مؤيديهم. إننى لست على علم بكافة التفاصيل والمجريات لكن يمكننى القول: إن هناك آلافا من العسكريين الذين ليس لهم علاقة بالانقلابات ولا يؤيدونها قد جرى تصفيتهم، وإذا ما نظرتم إلى هوية هؤلاء الـمُسَرَّحِين ونوعية الذين حلوا محلهم فى رتبهم يمكنكم حينئذ الاطلاع على المستفيدين. صمت الجيش • هل تعتقدون أن الجيش التركى سيظل صامتا إزاءتلك الممارسات التى تم القيام بها فى الشوارع؟ - من واجب الحكومة أن تسارع بالكشف عن الذين قاموا بهذا العمل وتقديمهم للقضاء، وبذلك ستتم تبرئة من لم يشارك فى الانقلاب وتُنْفَى عنهم التهم. لكن الواقع يشهد بأن الإجراءات المتبعة والممارسات التى تجرى على الأرض تسير عكس هذا الاتجاه. لقد وقعت منذ البداية أحداث مؤسفة، فقد تعرضت سمعة الجيش التركى للإهانة من خلال عرض صور على شاشات التلفزة الموالية للحكومة لضباط رفيعى المستوى فى صورة مهينة، وعليهم آثار التعذيب أثناء التحقيق معهم. كما تم ضرب أحد الجنود الذين كانوا يتواجدون فى الشارع حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، فى حين أن هذا الجندى لم يكن على علم أساسا بسبب خروجه إلى الشارع. وبالتأكيد مثّلتْ كل هذه الممارسات إهانة للعسكرية الوطنية، ولا شك أن كل من شاهدها أو اطلع عليها من أفراد القوات المسلحة مهما كانت هويته قد أصيب بنوع من الأذى وخدش الكرامة. اللافت فى الأمر أنه كان هناك فئة بين الجماهير التى خرجت بإخلاص لإنقاذ الوطن من شر الانقلاب كما صُوّر لها تقوم بالسيطرة على الشوارع، وتمارس هذه الأعمال الوحشية، يظهرون بين الناس وكأنهم أفراد من شعبنا العاديين، فى حين أن مكانة الجيش فى نفوس الشعب التركى لا تسمح له بممارسة هذه الأفعال. • أشارت بعض التحليلات والكتابات ان الفئة التى انخرطت فى صفوف الجماهير يبدو عليها أنها مدربة ومجهزة سلفا للقيام بهذه الأفعال، فملابسهم وطريقة تعبيراتهم وخطاباتهم تشبه إلى حد كبير تعبيرات وملامح المنظمات المتطرفة من أمثال داعش والقاعدة وغيرهما. هذا فضلا عن أنهم كانوا مدربين على قيادة آليات ومركبات صعبة كالدبابات، ممن لا يتسنى للمواطن العادى أن يكون على دراية بها. والسؤال هنا: هل قاموا بدعوة هؤلاء الذين أعدوهم من قبل ليلعبوا دورا فى هذه المسرحية؟ - لا أستطيع أن أخمن ماذا يمكن أن يقوم به الجيش بعد هذه المرحلة؟ لقد كان الجيش هو المؤسسة الوحيدة التى لا تزال تحافظ على تقاليدها وثقافتها رغم الضغوط التى مورست عليها. تعيش السلطة الحالية الآن حالة من جنون القوة، لذا تتسم إجراءاتها وعملياتها التى تقوم بها إزاء الجيش حاليا بالسرعة، ومن شأن هذه التحولات السريعة التى تقوم بها أن تأتى بنتائج عكس ما تتوقع، وتمهد لظهور نوع آخر من المشاكل لم يكن فى حسبانهم، لأن اتخاذ قرارات بلا دراسة أو تأن وروية تجاه مثل هذه المؤسسات الجادة يفتح أبوابا من المشاكل يستمر أثرها حتى زمن طويل. إن تركيا بحكم موقعها الجغرافى تكتسب أهمية كبيرة فى المنطقة، ومن جانب آخر فعضويتها فى كيان دولى كبير كالناتو يضفى عليها طابعا آخر من الأهمية ويفرض عليها فى الوقت نفسه شروطا معينة، لذا فإن هذه الأهمية وهذا الوضع سيحتم على المجتمع الدولى دورا تجاه تركيا، حتى لا تنزلق فيما انزلقت فيه دول الجوار من الفوضى والاضطراب. كما آمل أن تُلقى ثقافة »الدولة» بثقلها فى هذا الموضوع وتدفع المسئولين إلى التعقل لإنهاء هذا الوضع المتردى الذى لا يفتأ أن يخرجنا من دوامة للأخطاء ليدخلنا فى دوامة أخري، وألا يجعلوا الجيش ميدانا لتصفية حساباتهم مغلبين فى ذلك مصالح دولتهم وأمتهم على المصالح الشخصية الضيقة، حتى لا يؤدى عدم الحرص فى هذا الخصوص إلى الإضرار بمكانة الجيش وسمعته التى يستحقها. انتفاضة الشعب • كيف تفسرون عدم انتفاضة الشعب التركى ضد هذه الإجراءات التعسفية التى يمارسها أردوغان وحكومته؟ - أحب أن أوضح هنا نقطة مهمة وهى أنه ليس فى ثقافة الشعب التركى ولا من أعرافه فكرة التمرد، خاصة إذا كانت هذه الإجراءات التعسفية التى تُمارَس ضده تتم من قبل الدولة، فإنه يميل إلى تقبل الأمر الواقع حتى ولو لم يكن راضيا عنه. أضف إلى ذلك أن الإجراءات التعسفية الأخيرة لم يشهد لها التاريخ التركى القريب مثيلا، ففرض الوصاية الكاملة التى تحدثنا عنها على وسائل الإعلام، وتحويلها إلى جهاز يضخ الدعاية السوداء ضد أى فئة أو فصيل يحاول الاعتراض حتى ولو كان من المقربين منهم بالأمس، ومصادرة المؤسسات الإعلامية، والزج بالصحفيين المستقلين فى غياهب السجون والمعتقلات، والتضييق على كل الوسائل التى يمكن أن يعبر فيها الإنسان عن رأيه حتى وسائل التواصل الاجتماعي، كل هذا أدى فى النهاية إلى أن أصبحت وسائل الإعلام الحكومية الموالية ومن يدور فى فلكها هى المصدر الوحيد للمعلومات؛ ومن ثم فالشعب الذى يتابع هذه الوسائل لا يمكنه تقييم الوضع إلا فى ضوء هذه المعلومات المفلترة التى تقدمها له وسائل إعلام أردوغان وفريقه؛ إذ ليس له من سبيل آخر يمكنه من الاطلاع على حقيقة ما يجرى من أمور. وبعد فضائح الفساد فى ديسمبر عام 2013 والإجراءات التى اتخذوها فى سلكى القضاء والشرطة التى تحدثنا عنها آنفا لم يكتفوا بذلك بل وجهوا نوابهم فى البرلمان لإصدار قانون أسموه» الاشتباه» أو الشبهة المعقولة، وهو قانون يتيح للقضاء إصدار مذكرات اعتقال فى حق من تحوم حوله »الشبهات» دون وجود أدلة تدينه.كما أسسوا محاكم خاصة تتكون من قضاة مقربين أطلقوا عليها محاكم »الصلح والجزاء»، يحال إليها هؤلاء المعتقلون بناء على تلك الشبهة المعقولة، فصارت القوانين والمحاكم والاعتقالات بذلك أداة للعقوبات السياسية. وفى سلك الشرطة أيضا قاموا بالتخلص من خيرة رجال الشرطة الذين تلقوا تدريبات عالية المستوى فى أوروبا وأمريكا، ولديهم خبرة عالية فى الكشف عن الجرائم والتعامل مع مرتكبيها ومنع العمليات الإرهابية قبل حدوثها، فضلا عن رعاية القوانين واحترام حقوق الإنسان، واستبدلوا بهم آخرين من المقربين. وبدلا من أن تكون الشرطة جهازا لخدمة الشعب، يمثل الحقوق والعدالة صارت أداة فى يد الحكومة تبطش بها كما تشاء، وعاد التعذيب مرة أخرى إلى السجون والمعتقلات بعدما كانت حديثا يتناقله الناس عن الماضي. وفى هذا الجو المرعب الذى بات يخيم على البلاد لا يمكن أن يجازف الناس ويفكرون بالخروج. فسابقا كانت الجماهير تخرج بكثرة للاعتراض حتى على المشاكل البسيطة كما خرج الناس للحفاظ على البيئة فى منتزه »جيزى بارك» بتقسيم، عام 2013، وجرى قمعهم بشدة على يد حكومة الحزب الحاكم الذى كان يتزعمها أردوغان آنذاك. ومن بعدها خفت حدة هذه الاعتراضات حتى تلاشت تماما بسبب الإجراءات التى قاموا بها والقوانين التى سنّوها. والآن وبعد محاولة الانقلاب دع عنك فكرة توجيه النقد إلى الحكومة بل بلغ التعسف حدا أن يعدّوك من الخائنين إذا لم تشترك معهم فى الهجوم على خصومهم، وتبنى خطابهم. • ولست أدرى هل يكون من المنطقى فى مناخ كهذا أن نتوقع من أبناء الشعب أن ينزلوا إلى الشوارع لإدانة هذه الممارسات التعسفية التى تمارسها الحكومة؟ - إن الكفر قد يدوم لكن الظلم لا يمكن أن يدوم. إن دائرة الظلم فى البلاد آخذة فى الاتساع، وبالتأكيد ستطال شرائح أكبر من المجتمع، وهو ما بدأ يحدث بالفعل، ووقتا ما سيشعر الشعب التركى بالحاجة إلى التعبير عن رأيه تجاه هذا الظلم، وسيسعى لإسماع صوته للآخرين. صفقة سياسية • هل تعتقدون أن الولايات المتحدة ستسلمكم إلى نظام أردوغان مقابل صفقات سياسية بين الطرفين؟ إن موضوع المطالبة بتسليمى ليس أمرا جديدا ظهر بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، بل قام رئيس الجمهورية الحالى عقب فضائح الفساد فى ديسمبر 2013 الذى كان حينها رئيسا للوزراء بمطالبة أمريكا علنا أمام حشود من مؤيديه بتسليمى لهم، ورغم مرور زمن طويل على هذه التصريحات الجماهيرية لم تتخذ الحكومة التركية أى إجراءات رسمية فى هذا الشأن. وحسب ما أوردت بعض وسائل الإعلام فقد كان المسؤولون الأتراك فى معظم لقاءاتهم التى تجمعهم مع نظرائهم الأمريكيين يبحثون معهم هذا الطلب، ويقدمون لهم بعض الحوافز لتحقيق ذلك، وأحيانا يربطون هذا الملف ببعض المصالح الاستراتيجية المشتركة. لكن المسئولين الأمريكيين لم يعيروا اهتماما لهذا الابتزاز، كما أن المنظومة القضائية هنا تعمل بشكل حيادى ومستقل، ولا تخضع لهذا النوع من الابتزاز والتهديدات. ولا أظن أن أمريكا ستغامر بسمعتها فى ملفات حقوق الإنسان والعدالة لا سيما على أراضيها من أجل إرضاء رغبات شخصيات متقلبة كهذه. لقد أرسلوامؤخرا إلى هنا تقارير ملفقة تم ترتيبها فى وقت مسبق تمتلئ بمزاعم لا دليل على صحتها. أعتقد أن المؤسسات القضائية تدرس تلك التقارير، وتناقش ما إذا كانت تتضمن وثائق جادة. ولكن أرى أن القناعة السائدة لدى المتابعين لهذا الشأن فى أمريكا أنه لا يوجد أدلة مقنعة تقتضى تسليمى لهم. وأجدها مناسَبة لأكرر ما سبق ورددته سابقا فى جميع لقاءاتى الإعلامية: لتؤسَّسْ لجنة دوليةمن قِبَل أطراف محايدة، تكون مهمتها التحقيق فى ملابسات ما جرى فى تركيا، على أن يوفروا لهؤلاء المحققين المناخ الآمن بحيث يضمنون سلامتهم الشخصية هم وعوائلهم، وساعتها سأرضى بكل النتائج التى تقرها اللجنة، وإذا كان من بينها إدانتى فسأعود بكل طواعية إلى بلادى مسلما نفسى للعدالة لتتخذ فى حقى ما تشاء. وأعتقدأن هذا طريق أيسر من الضغوط وممارسة أساليب وطرق سياسية ملتوية. • إذا كان هناك احتمال أن تسلمكم الولايات المتحدة، فهل تفكرون فى القدوم إلى مصر؟ - مصر تتمتع بمكانة مهمة فى العالمين العربى والإسلامي، ولا شك أن زيارتها والجلوس بين علمائها رغبة عزيزة لكل طالب علم، وقد بلغتنى أنباء عن توجيه بعض الوجوه الثقافية والسياسية دعوة لاستقبالى فى مصر، وهذا موقف يستحق الإشادة والثناء وتوجيه الشكر لمن فكروا فيه. وبهذه المناسبة، لا يسعنى إلا أن أتقدم بجزيل الشكر والتقدير للقيادة المصرية على موقفها النبيل والشهم حيث وقفت حائلا ضد استغلال تركيا لمنظمة التعاون الإسلامى فى محاولاتها لإدراج الخدمة ضمن الكيانات الإرهابية، فهذه الوقفة الحازمة من مصر ذات الثقل فى المجتمع الدولى لا يمكن أن تنسي، بل هى جميل لن أنساه ما حييت. لكن كما ترون فأنا هنا أعيش منزويا مع بعض من طلابى نتدارس معا كتب التراث الإسلامي، ولا أغادر المبنى الذى أسكن فيه إلا لحاجة ملحة كالتداوى أو تلقى الرعاية الصحية، وفى الوقت نفسه لا أريد أن أكون سببا لأى فرد أو دولة فى أى أزمة يمكن أن تقع، كما لا أتصور نفسى مصدرا للحرج لأى بلد أتواجد فيه ولا سيما بلدا عزيزا على قلبى كمصر. إذا قررت الولايات المتحدة ترحيلى من هنا أو تسليمى إلى تركيا لأية اعتبارات فستكون وجهتى القادمة هى تركيا فحسب بكل تأكيد. وإلا فأنا لا أفكر فى مغادرة هذا المكان الذى أقيم فيه والتوجه إلى بلد آخر، وأنا هنا أردد مع الشاعر »نفعي» قوله: »لم نلق من الدنيا صفاء، ولا نتوقع من أهلها شيئا، ولا حاجة لنا سوى باب ربنا». • كيف تفسر التناقض الحاصل فى شخصية أردوغان، ففى الوقت الذى يطبّع العلاقات مع إسرائيل من جديد يصرح بعدائه لمصر إدارة وشعبا فى كل محفل؟ - إن هذه الشخصية التى تدير البلاد فى تركيا حاليا تعيش فى أوهام السلطنة والخلافة. فرغم عدم تصريحه بذلك على الملأ، فإنه يحلم بإمارة المؤمنين، وكثيرا ما يلقبه المقربون منه بالسلطان أو أمير المؤمنين لأنهم يعلمون أنه يحب أن يُدعى بذلك، وهو أيضا يرى نفسه أهلا لقيادة العالم الإسلامي، ومن ثم كان يظن أن العالم الإسلامى سينقاد لرغباته تلك. إنه يتكلم عن الدعاء فى قبر صلاح الدين الأيوبى والصلاة فى الجامع الأموى وكأنه يتكلم عن أجزاء من سلطنته. لقد قدم الدعم للمنظمات الإرهابية التى تقاتل على الأرض السورية أملا فى إسقاط النظام هناك وخضوع البلاد له. كما كان يحلم أن يفرض هيمنته على مصر إبان حكم الإخوان ظنا منه أنه سيتمكن من ذلك. وعندما أخفق وخابت مساعيه بدأ ينقل هذا الملف داخليا يجتذب به أصوات الناخبين وبدأت آلته الإعلامية تقدمه على أنه نصير المظلومين وصوت المستضعفين فى كل مكان، فى حين أنه لم يقدم لهم شيئا يذكر سوى شعارات جوفاء. لكن المرير فى الموضوع أنه اتخذ من مصر هدفا فى كل محفل أو مناسبة ينال منها، ويحرض مؤيديه على توجيه العداء لها، وهناك تقارير إعلامية تقول إنه قد توجه إلى ما هو أبعد من ذلك. إن الشعبين التركى والمصرى تربطهما روابط وعلاقات وثيقة تشكلت عبر قرون ممتدة من الزمان، لذلك فإننى أعتبر ما يجرى الآن من تصرفات وتصريحات غير مسئولة من الجانب التركى فى حق الجانب المصرى نوعا من العبث والهذيان. لكنى على ثقة بأن هذا العبث سيتوقف عند نقطة معينة، وسيواصل الشعبان مسيرتهما الأخوية من جديد، فى ظل وعى كل منهما بأهمية المكانة التى يتمتع بها كل من البلدين. لقد تاجروا بقضية سفينة »ماوى مرمرة» واستغلوها فى محافلهم الانتخابية أيما استغلال، كسبوا بإعلان عداوتهم لإسرائيل التعاطف الداخلى وحصدوا كثيرا من الأصوات، الشعب التركى عاطفته الإسلامية تجاه قضايا أمته جياشة، لقد أنكرنا عليه فى هذه القضية »ماوى مرمرة» أن يتصرف وهو مسئول عن قيادة البلاد تصرف الناشطين السياسيين، وبحكم مسئوليته كان عليه أن يتخذ التدابير اللازمة لحماية أرواح مواطنيه، وألا يعرضها للهلاك بدفعهم إلى مغامرة غير محسوبة العواقب، لقد تألمت كثيرا لهذه الأرواح الطاهرة البريئة التى استشهدت فى هذا العمل واستنكرت على من قاموا بهذا الفعل غير الإنساني. كان هذا رأيى ولم أتردد فى إعلانه، حفظُ الأرواح مقدم على حفظ الدين، لقد كان كلامى ساعتها موجها إلى الحكومة، أخذوا هذا الكلام وحرفوه عن سياقه، وبدأت ماكينات إعلامهم تشتغل على التشويه والتخوين والاتهام بالعمالة لإسرائيل، ووجدوها فرصة للمتاجرة بهذا الملف واستغلال مظلومية إخواننا من الفلسطينيين لحصد الأصوات فى الداخل التركى ومغازلة العالم الإسلامى بشعارات جوفاء فى حق القضية الفلسطينية ونصرة إخواننا الفلسطينيين فى حقوقهم المشروعة، بينما التعاون مستمر على أشده بينهم وبين إسرائيل فى الخفاء. إنهم وبعد استغلالهم لهذا الملف أيما استغلال لإحراز بطولات دونكوشوتية وهمية تراجعوا عن كل شروطهم واختاروا طريق التطبيع مع إسرائيل، ولم يقدموا لغزة أى شيء يذكر، وضيعوا حقوق الضحايا الأبرياء الذين قضوا فى هذه العملية،فلم يفكوا الحصار عن غزة، ولم تجر محاكمة الجناة فى المحاكم الدولية على النحو الذى كانوا يشترطونه. والأعجب أنهم راحوا يسوّقون هذا التطبيع فى تركيا ودول المنطقة على أنه انتصار لهم، ومما يحز فى النفس أيضا إغلاقهم لجمعية كيمسة يوكمو التى كانت تقوم بدور مهم فى تقديم المساعدات المالية والطبية لإخواننا فى غزة. فكل ما سبق يبين لك مدى ما تنطوى عليه سريرتهم من خداع ومراوغة لا يليقان بالمؤمن حقا. "الخدمة" والإخوان • هناك من يؤمن بأن حركة الخدمة قريبة من خط الإخوان؟ - إذا كان المقصود بخط الإخوان هو الإسلام السياسي، فنحن منذ بدايتنا بعيدون كل البعد عن هذا الخط، لم يكن قط أبناء الخدمة طالبى سلطة أو ساعين إليها، ولم يدر فى خلدنا قط أن نكون فاعلين فى إدارة البلاد من أى زاوية.لقد كان همنا الأول والوحيد ابتغاء مرضاة الله من خلال العمل على إنشاء جيل يتحلى بالعلم والفضيلة لنعالج بهذا الجيل ما تفشى فى أمتنا ومجتمعاتنا من أدواء الجهل والفقر والنزاعات. لقد كان أحد النواب فى بدايات تأسيس الجمهورية التركية مصيبا حينما عبّر فى إحدى خطبه قائلا: إن الحكام هم انعكاس لما يحمله أفراد المجتمع من قيم، فإذا كان الناس كالحليب فإن حكامهم هم زبدته، فالمجتمع الذى يتشكل من أفراد فضلاء لا شك أن حكامهم سيكونون كذلك أيضا. هذه رؤيتنا التى تبنيناها، ومن ثم قام أبناء الخدمة بفتح مساكن للطلبة ومعاهد تحضيرية ومدارس وجامعات، وشجعوا القادرين على التكفل بالفقراء من الطلاب من خلال توفير المنح الدراسية لهم، وفتح مراكز مجانية للمطالعة والمدارسة والتقوِّى فى موادهم الدراسية، لحض المجتمع على تعليم أبنائه، وإزالة العوائق من أمام أولياء الأمور غير القادرين فى سبيل تعليم أبنائهم، للقضاء على مشكلة الجهل. كما قاموا أيضا بحثّ الأغنياء على توسيع نشاطاتهم الاقتصادية فى الداخل والخارج، وتوفير مزيد من فرص العمل للقضاء على مشكلة الفقر. فتخرّج من هذه المدارس أجيال متسلحة بالعلم والمعرفة، يجيدون لغات مختلفة ولديهم اطلاع على ما جد فى العالم المعاصر من علوم وتكنولوجيا. وحصل طلاب هذه المدارس على الجوائز الأولى فى أولمبياد العلوم والرياضيات والمخترعات الحديثة، وصارت هذه المدارس ماركة فى مجالها فى داخل وخارج تركيا، حيث توسعت نشاطاتها لتمتد إلى 170 دولة. وقد لاقت فى كل الدول التى حلت فيها ترحابا كبيرا من المسئولين وأبناء الشعب لما لمسوه من جدية واحترافية فى المجالين التربوى والتعليمي. وقد أسهمت هذه المؤسسات التربوية فى تأسيس روح الوفاق بين الأقطاب المتنازعة، ففى البوسنة مثلا جمعت مدارسنا بين البوسنى والصربى والكرواتى فى صف واحد وهم الذين كانوا بالأمس متحاربين، وأسهمت بذلك فى تقليص الخلافات وتعزيز الاتفاقات، مما نتج عن ذلك كله اهتداء أبناء الخدمة إلى تأسيس منتديات للحوار والتعارف والتقارب بين الحضارات والثقافات والأعراق والأديان، عملا بقوله تعالي:» لتعارفوا». إن أرضية الإخلاص وبذل الجهد والتضحية التى أسسها إخواننا بعرقهم ودموعهم ودأبهم اجتمع عليها من الأعراق والأطياف والثقافات والأديان مالم يجتمع على أرضية أخرى من قبل، ذلك لأنهم يتوخون خدمة الإنسان أيا كان لونه أو عرقه أو دينه دون تفرقة أو تمييز، ولشعور المجتمعات بإخلاصهم فى هذا المجال تعاونوا معهم وأفسحوا لهم قلوبهم وأوطانهم. فى الستينيات جاءنى أحد أقطاب الإسلام السياسى فى تركيا، وعرض على المشاركة فى تأسيس حزب سياسي، لكنى رفضت عرضه وأصررت على مواصلة العمل فى المجال المجتمعي، وبعدها عُرضت علينا فرص كثيرة للانخراط فى العمل السياسي، وطلبوا منا ترشيح من نراه مناسبا لتولى وزارات بعينها، لكنا لم نستجب لذلك أيضا. لو كانت لنا مآرب سياسية لكنا قد قطعنا فيها شوطا كبيرا، أو لكان لنا حزب سياسى مستقل، لكن كل هذا يتناقض مع رؤانا وأفكارنا التى نؤمن بها. ومن ثم لم يكن لنا علاقة بأى حزب ولم ندعم فى حياتنا سوى المبادئ الإنسانية والديمقراطية التى نؤمن بها؛ لذلك كانت الأحزاب السياسية هى التى تخطب ودنا بالتقرب إلى ما نؤمن به من قضايا مجتمعية، ومن كان صادقا منهم فى التقرب إلى هذه القيم والمبادئ كان يلقى منا الدعم والتأييد أيا كانت مرجعيته وخلفيته التى جاء منها. فبالأمس دعمنا تورغوت أوزال وهو وسط اليمين، وبعده بعض إجراءات ومشاريع بولنت أجاويد وهو يساري، ثم كان دعمنا لحزب العدالة والتنمية فى بداياته الأولي، وذلك لأن كل هؤلاء كانوا يتحدثون معنا بنفس اللغة التى نتحدث بها. أقول كل هذا لأبين أننا لم نقف يوما فى موقف قريب من خط الإسلام السياسي، ولا يعنى هذا أننا ننكر عملهم فى هذا المجال ما داموا مخلصين للأطر الديمقراطية.بل إن مبدأنا الرئيسى هو احترام أفكار كل العاملين فى الحقل الإسلامى الوسطى المعتدل مهما كانت انتماءاته، لكن خياراتنا فى البعد عن هذا الخط منذ البداية هو ما سِرنا عليها وسلكنا طريقها، ولا نفكر فى تغيير هذا المسار بعد ذلك أيضا. • كيف ترون مستقبل تركيا؟ - إننى على يقين بأن المستقبل سيتغير إلى الأفضل، فهذه الممارسات العابثة التى تجرف بمقدرات الأمة نحو المجهول ستتوقف عند نقطة معينة. كما أننى أعقد الأمل على صحوة الشعب التركى واستفاقته من غفلته، فالأوضاع الجارية الآن من مظالم وانتهاكات واضطرابات محلية وخارجية ستدفع تركيا إلى الانعزال عن محيطها، وهو ما لا ينبغى أن يكون. فمكانة تركيا العالمية والجيواستراتيجية والمعاهدات والاتفاقات التى وقعت عليها تركيا مع جميع الأطراف تقتضى ألا تستمر تركيا فى هذه الأوضاع حتى لا تفرض عليها عقوبات دولية تضر بالشعب وبسلامة أراضيه. لذلك يحدونى الأمل بأن يتحكم المنطق السليم، وأن يُغلّب منطق الدولة على منطق الأشخاص المغامرين، وتحتكم البلاد إلى أعرافها المتبعة فى مثل هذه الأحوال، وتعود إلى المسار الديمقراطى الذى بدأت تنتهجه فى بدايات حكم العدالة والتنمية، سعيا إلى تحقيق متطلبات شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى فى بدايات الألفية الثالثة.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;