ندرك أن العنوان سيثير الكثير من الزوابع والاجتهادات المتباينة، بعد أن يذهب البعض إلى البحث التاريخى فى نظرية "الأنسنة" والأطروحات الفلسفية فى هذا الشأن، وأيضاً مفهومها وتعريفها ومناط تناولها وبداياتها مع عصر النهضة، وبعد التحرر من سيطرة الكنيسة على حركة المجتمع والتاريخ فى أوروبا، لكننا فى هذا الصدد لا نبحث فى هذه الأطر، خاصة أن الفكر العربى بدأ يتجه صوب هذه النزعة الإنسانية التى ترد أصل الأعمال المجتمعية إلى تلك النزعة الإنسانية للحياة، وهو الاتجاه الذى يبحث فيه المركز الوطنى للدفاع عن حرية الصحافة والإعلام، على خلفية أن الإنسان فى المجتمع يحتاج دوما إلى استنهاض البواعث الإنسانية فى كل حركة للمجتمع من أجل الارتقاء بالوطن، باعتباره مجتمعاً إنسانياً بكل حاجاته الإنسانية.. والأنسنة فى اللغة تعنى "أنسنَ الإنسانَ ارتقى بعقله فَهَذَّبه وثَقَّفه، أو عامله كإنسانٍ له عقل يميّزه عن بقيّة المخلوقات.. فهى تعنى أنه لابد من تثقيف المواطن وأنسنته للرقى بهذا المجتمع".
أما "الشيطنة" فإن عملية شيطنة المجتمعات ليست صعبة، فهى لا تتطلب سوى بعض الممارسات الشيطانية، ما يؤدى إلى نشر معلومات مغلوطة لدى الآخرين، وبالتالى وضع تلك المجتمعات المسالمة فى خانة المجتمعات الشريرة، لذا فإن البعض يحاول من خلال رسم صورة معكوسة للمجتمع للوصول إلى أهدافه المشبوهة، والتى تتمحور فى تكريس العنف فى تلك المجتمعات، لإحداث حالة من النفور والابتعاد أو للتخلى عن بعض الالتزامات الأخلاقية التى فرضتها بعض المعاملات المجتمعية، فمثلا قلة صغيرة تمارس أعمالا أو تأتى أقوالا من أجل خلق حالة من الرعب ونشر الفوضى، ما يحدث نوعاً من التوجس فى المجتمع، لذا قيل "الخير خاص والشر عام".
لذلك فإن المركز الوطنى للدفاع عن حرية الصحافة والإعلام سوف يعلن تباعاً عن بعض الدراسات والأطروحات فى هذا الصدد من أجل "أنسنة" قراراتنا وحياتنا، وجعل رؤانا دائماً فى إطار من هذا التوجه الانسانى فى قضايا مختلفة، مثل أنسنة الإعلام فى مواجهة الإرهاب، وأنسنة المجتمع، وأنسنة الإدارة.. وغيرها.
رأينا أن لجنة الإفراج عن الشباب المحبوسين احتياطياً وتجاوز حبسهم العامين، بعد تعديل القانون فى هذا الشأن، وهى اللجنة التى شكلها الرئيس عبد الفتاح السيسى بعيد المؤتمر الوطنى الأول للشباب بشرم الشيخ، وهو القرار الذى عنى بالإنسان والوطن وهى الصورة الموسومة بأنسنة القرار، حيث غلب البعد والنزعة الإنسانية على القرار الخاص بتشكيل تلك اللجنة ومناط عملها وحدوده، والذى كان البعد الرئيسى فيه هو هؤلاء الشباب الذين لم يتورطوا فى أعمال عنف ضد الدولة، لأن العنف يعنى شيطنة الدولة، وهو الفعل الشيطانى من أولئك المتربصين باستقرار المجتمع، وتحويله من مرحلة "الأنسنة" إلى مرحلة "الشيطنة"، حيث يصاب المجتمع فى هذه الحالة بالخوف والتوجس والرعب أيضا، وهو التفسير المنطقى لنظرية الخصومة والعداوة، فالخصومة تعنى الاختلاف الذى يمكن النظر إلى أبعاده ومحاججتها، وهو الأمر الذى تقره تلك اللجنة مستبعدة كل من قام بفعل "العداوة" ضد الدولة، وهو الفعل الإيجابى الذى يستهدف تقويض الدولة وشيطنة المجتمع.
وفور تشكيل اللجنة، برئاسة الدكتور أسامة الغزالى حرب، وضمت فى عضويتها عدداً من المهتمين بالشباب، وتم تسليم القائمة الأولى، حسبما تردد - من هؤلاء الشباب، والتى تحتوى على 83 اسما لتتولى الرئاسة الإجراءات اللازمة نحو الإفراج عن هؤلاء الشباب، حيث من المنتظر أن تتخذ الرئاسة قراراتها فى هذا الشأن خلال الساعات القادمة، فور تشكيل هذه اللجنة فوجئنا بحالة هجوم شديدة عليها وعلى أعمالها، وبالبحث تبين لنا أن الهجوم الأول كان بقصد "شيطنة" تلك اللجنة لإعاقة عملها، ومن ثم فشل اللجنة فى مهمتها الإنسانية، ورغم الغصة التى ملأت حلق رئيس اللجنة إلا أن الإصرار لديه وأعضاء لجنته على المضى قدماً فى طريق إنهاء مهمتها الإنسانية بامتياز نقدره لهم.
وأما الصورة الثانية للهجوم على اللجنة فكان من أسر المحبوسين دون أن يدركوا المعايير التى قامت عليها هذه اللجنة، ولهذا السبب الأخير نرى فى المركز الوطنى للدفاع عن حرية الصحافة والإعلام أن تصبح هذه اللجنة وعلى ذات المعايير لجنة دائمة تبحث فى هذه النواحى الإنسانية، وإعداد القوائم فى هذا الشأن.
ونرى أن تشكيل لجنة لهذا الغرض لا يتعارض مع القانون أو مع مؤسسات الدولة المختلفة، باعتبار أن كل هذه المؤسسات يجب أن تنطلق من "أنسنة" المجتمع، وعلى اعتبار أن القانون أهم وأوضح مثال وعمل إنسانى فى التاريخ يقوم على "أنسنة" المجتمع، فالقانون هو الذى يحدد حركة الإنسان فى المجتمع، ويحدد علاقاته مع غيره ومع المجتمع ومع الدولة.
ولقد أحسن مصدر القرار صنعاً، وأحسنت اللجنة عندما "أنسنت" العمل الذى تقوم به فى صورة جوهرية بالبحث فى ملفات هؤلاء الذين لم يرتكبوا جرائم عنف ضد الدولة أو ضد الإنسان المصرى دون تمييز، ونرى أن يعقد لهؤلاء الشباب المقترحة أسماؤهم ورشة عمل لمدة أسبوعين مع سياسيين وعلماء النفس والاجتماع لإزالة ما ترسب فى إنسانيتهم من غضب وألم وتأكيد التزاماتهم نحو المجتمع، وهو ما يوصف بإعادة إدماجهم فى المجتمع إعلاءً لإنسانيتهم، وتأكيداً لإنسانية القرار، وأنسنة المجتمع.
وفى ذات السياق ندعو مجلس النواب إلى إعمال صلاحياته لتعديل القانون ليتفق مع المستجدات الآنية والمستقبلة فى هذا الصدد، بحيث لا تصبح تلك اللجنة فى مرتبة أعلى من الأحكام القضائية، خاصة أن لدينا قضاءً معروفاً بنزاهته واستقلاليته، وهو ملاذ كل مظلوم من أعمال الإدارة التى تبغى أمان الوطن، فى القيام بتلك المهمة يمكن أن يكون هناك ضحايا من المظلومين الذين يتوجب على الدولة البحث فى مظلوميتهم طالما أنهم ليسوا فى خندق "العداء" مع الدولة.