ظهور السيدة مريم العذراء – في أى مرة من مرات التجلى المزعومة - لم يكشف عن قوة النسيج الوطنى المصرى، ولم يكن صحيحا أنه نفى أى توترات طائفية تعيشها مصر، ففى التجمعات الحاشدة التى إلتفت حول الكنائس التى قيل أن العذراء مريم تجلت من فوقها وقف الجميع فى إنتظارها،لا فرق بين مسلم ومسيحى،اعتقد البعض أن هذا يمثل نفيا قاطعا لكل ما يقال عن الفتنة الطائفية فى مصر، وعن حالة الإحتقان الهائلة التى يشهدها المجتمع.
إن السيدة مريم العذراء لم توحد المصريين، بل أظهرت كم نحن مختلفين ومتناحرين وفى حاجة عاجلة إلى عمليات ترميم إنسانية ودينية، أمام الكنائس تمسك الأقباط بإظهار مسيحيتهم، قاموا بتوزيع مطبوعات بها تماجيد للسيدة العذراء مثل ترنيمة "السلام لك يا مريم"، وقاموا بعزف ألحان كنسية مميزة منها لحن "خين إفران" ومعناه "ياالله"، ولحن "أكسيا" ومعناه "مستحقة، لم يكن العزف فرديا، فقد كون الشباب القبطى مجموعات للغناء والرقص مرددين التراتيل والترانيم.
المسلمون احتفلوا بالسيدة العذراء على طريقتهم أيضا، أمسكوا بالقرآن الكريم وبدأوا فى قراءة سورة مريم، فهى المرأة الوحيدة التى وضع اسمها على إحدى سور القرآن الكريم التى تصل إلى 114 سورة، ورغم أن هناك سيدات كثيرات لعبن دورا مهما فى الدعوة الإسلامية وفى حياة الرسول مثل السيدات خديجة وعائشة وفاطمة رضى الله عنهن جميعا، إلا أنهن لم ينلن تكريم تخليد أسماءهن بوضعها على سور القرآن، وهو ما يؤكد أن التكريم كان إلهيا ولم يكن بشريا بأى وجه من الوجوه، فهى سيدة النساء جميعا، وهى المرأة التى اصطفاها الله وطهرها واصطفاها على نساء العالمين.
الفروق بين المسلمين والأقباط فى الإحتفاء وإنتظار السيدة العذراء، كانت أقل حدة من الفروق بين طوائف المسيحية، البروتستانت وإنطلاقا من عقيدتهم أنكروا ظهور العذراء جملة وتفصيلا، فهم يذهبون إلى أن الكتاب المقدس لم يرد به أى نص أو آية تدل على أن العذراء ستظهر مرة أخرى، صحيح أن الكتاب المقدس أشار إلى أنها مكرمة وعظيمة، لكن مسألة التجلى هذه لم تكن مطروحة مطلقا.
يستسلم البروتستانت إلى التفسير العلمى والنفسى لظهور العذراء، فتجليها ليس إلا نوعا من الأوهام التى يستعصم بها أصحاب المشكلات والهموم والمظلومين فى الأرض، سواء كانوا أقباطا أو مسلمين، مطمئنين أنفسهم إلى أن ظهورها فيه إشارة إلى إقتراب رفع الظلم، فهى تظهر حتى تخفف عنهم همومهم وأحزانهم وتقف إلى جوارهم ممثلة للسماء فى مواجهة جور أهل الأرض، ويدلل الدكتور القس إكرام لمعى كما قال لى على أن الظهور ليس إلا وهما لدى الفقراء والمظلومين بأنها تظهر فقط فى مناطق الفقراء مثل الزيتون والوراق وعزبة النخل وشبرا، ولا تظهر مثلا فى المناطق الراقية مثل الزمالك والمهندسين ومصر الجديدة وأرض الجولف.
البابا شنودة هو الذى أظهر ضراوة الخلاف مع البروتستانت في واحدة من ظهورات العدرا في سنواته الأخيرة ( توفى في العام 2012) ، فى البداية لم يكن حاسما فى مسألة الظهور من عدمه، كان عائدا من رحلة علاجية له فى أمريكا،دع عنك تندر البعض على البابا شنودة،من أنه طالما يعتقد فى ظهور العذراء، وهذا الظهور فى حد ذاته يأتى لعلاج المرضى، فلماذا تركها البابا فى مصر، وذهب يطلب الشفاء فى أمريكا؟، ولماذا لم يسلم نفسه للعذراء كى تعالجه طالما أنه يوقن بقدرتها على شفاء المرضى، وسلم نفسه للأطباء الذين يتعاملون بالعلم ولا يعتمدون على المعجزات؟
لكن تأمل فقط ما قاله البابا وهو فى المطار عندما سئل عن ظهور العذراء، قال أنها تحب مصر، لم يقل ظهرت ولم يقل لم تظهر، لكنه فى عظته الأسبوعية يوم الأربعاء الذى أعقب ما تررد عن تجليها، أكد ظهور العذراء، وهاجم المشككين والمتشككين فيها وخص البروتستانت بالهجوم، قال البابا نصا: الإخوة المسلمين يؤمنون ببتولية العذراء وأن الله اصطفاها على سائر العالمين، وأغلب المسلمين يحبون ويكرمون العذراء مريم أكثر من بعض البروتستانت المسيحيين.
وكما مارس البابا شنودة تمييزا طائفيا فى تفسير الظهور أخرج به البروتستانت من المسيحية تلميحا وليس تصريحا، فإنه مارس تمييزا آخر يدخل فى باب الخرافة أكثر عندما قال نصا أيضا: البسطاء يستطيعون رؤية العذراء أما المعقدون فلا يرونها، ومن لا يؤمن بظهورها فإنها بدورها تمنعه من رؤيتها.
ظهور العذراء كان له تفسيرا طائفيا آخر، فأمام أحد الكنائس التى قيل أن العذراء ظهرت فيها، قال رب أسرة مسيحى بدا عليه الإرهاق والتعب، أن ظهور العذراء يأتى ردا على الدكتور محمد عمارة الذى يتهم الإنجيل بأنه محرف، فظهورها يكذبه ويجعل ما يقوله ليس إلا نوعا من الأوهام، والآن فماذا يقول فى هذه المعجزة المؤكدة؟
إن ظهور السيدة العذراء المزعوم وحد الأجساد المتعبة لكنه لم يوحد القلوب المتنافرة والعقول المتناقضة، وإذا كان البعض يرى أنها جاءت لترفع المعاناة عن ظهور الأهالى الذين تتعبهم آلام الفتنة الطائفية، فهل معنى ذلك أن الأحداث الطائفية ستنتهى؟
أعتقد أن شئيا من ذلك لا يمكن أن يحدث، فالنار تحت الرماد، وظهور العذراء وحده ليس كافيا لأن ينهى التوتر الطائفى الذى تعيش مصر به وعليه، رغم كل ما يقال عن وحدة النسيج، والتلاحم الوطنى الذى لا يمكن أن يفصمه شئ.
لقد قال البابا شنودة أن مريم العذراء تجلت خمس مرات فى مصر فى الخمسين سنة الأخيرة، كان أعظمها تجلى الزيتون فى العام 1968، ويجزم من يعتقدون فى ظهور العذراء أنها تأتى فى أوقات الأزمات التى يمر بها المصريون، جاءت بعد هزيمة 67، وجاءت أكثر من مرة فى عهد الرئيس مبارك لما شهده من أزمات طاحنة أهلكت الحرث والنسل، وهو تفسير شعبوى متعصب، فهى تظهر للمصريين فقط، والبابا يفسر ذلك بأنها تحب مصر وتحن إليها لأنها زارتها مع المسيح عليه السلام هاربة به ممن أرادوا قتله.
فإذا كانت العذراء تظهر لمن يحتاجون إليها؟ فلماذا لم تظهر لأهالى فلسطين وهم فى أشد الحاجة لها؟
وإذا كانت تظهر فى الأرض التى تحبها، فلماذا لم تظهر فى أرض فلسطين على سبيل المثال؟،وهل هى تحب مصر أكثر من فلسطين التى ولدت وماتت فيها والتى صلب فيها إبنها طبقا للعقيدة المسيحية ورفع منها إلى السماء طبقا للعقيدة الإسلامية؟
ثم لماذا لم تظهر فى عصر الرئيس السادات، وهو العصر الذى شهد أكبر صدام سياسى بين الرئيس والبابا شنودة؟
أم أنها كانت غاضبة من الرئيس السادات، لقد قيل أنها ظهرت بعد نكسة 67 لأنها أرادت أن تقف إلى جوار الرئيس عبد الناصر لمواقفه من الأقباط ولعلاقته الجيدة مع البابا كيرلس، وهو أمر مرفوض، فإذا كانت تظهر فى عهد رئيس يراعى الأقباط من أولادها، فلماذا ظهرت فى عصر الرئيس مبارك وهو بكل الأحوال لم يكن عصرا سعيدا على الأقباط؟
ليس من شأنى أن أقتحم الخلاف اللاهوتى حول ظهور العذراء من عدمه، ولن أكون حزينا أو غاضبا إذا ثبت أن العذراء ظهرت وتجلت، ولكنى أنظر إلى حالة الإستخدام العامة لمثل هذا الظهور، وهو إستخدام يحتاج إلى مزيد من التأمل والتروى فى الحكم عليه.
إن جموع المنتظرين لمريم العذراء أهانوها وانتقصوا من شأنها من خلال نوعية الهتافات التى رددوها وهى من نوعية "بص شوف العدرا بتعمل إيه"... و" الست العدرا منورة"... و"العمود منور ليه عشان العدرا واقفة عليه"، كلها تعبيرات مبتذلة وتصلح لتشجيع فريق كرة قدم، أو تحية ساحر الكرة المصرية أبو تريكة عندما يتجلى فى الملعب ويحزر هدفا، فيصيح الجمهور من وراءه "بص شوف أبو تريكة بيعمل إيه"، لكنها أبدا لا تليق بقداسة وعظمة ومكان ومكانة السيدة العذراء.
فجماهير بهذا القدر من الإبتذال أعتقد أن العذراء مريم لن تكون حريصة أبدا على أن تتجلى لهم، خاصة أنهم نفعيون ذهبوا إليها وكل منهم يحمل همومه الصغيرة ويطمع فى أن تخلصه السيدة مريم منها، وهو ما يعكس منتهى العجز وقلة الحيلة عند من وقفوا فى إنتظار من يعتقدون أنه يأتى ....رغم أنه فى الواقع لا يأتى أبدا.
لقد قيل أن ظهور العذراء في أوقات كثيرة يكون له أهداف سياسية،ومن يقفون وراء هذا التفسير ويدعمونه يؤكدون أن هناك نوعا من التنسيق الأمنى فى إخراج مسرحية الظهور بهذه الطريقة لإلهاء الملايين التى تتابع الحدث وتشاهده عن القضايا الكبرى التى تعتصر مصر، هناك من يريد أن يغطى على كل المشكلات والأزمات التى تعصر الناس وتعتصرهم بخرافة أسطورية، يعرف من صنعها أنها ستكون قادرة على جذب المصريين جميعا إليها، وعندما تأتى الخرافة فلا مكان ولا قيمة لأى عقل.
التسليم بهذا االتفسير فيه إفراط فى الإستسهال، لكن ما معنى إحالة أحد الكهنة فى الكنيسة الأرثوزكسية إلى التحقيق الداخلى ذات مرة لأنه أعلن بجرأة أن العذراء لم تتجلى، إن هناك حالة من التغييب يتم إستخدام رجال الكنيسة فيها، وهم لا يعترضون على هذا الأمر حتى لو كانوا خلاله أداة طيعة فى يد الأمن، فالأمن بالنسبة للكنيسة من توابع ولى الأمر الذى لابد أن تطيعه وتسمع لما يقوله ربما دون نقاش.
هذا التفسير يمكن أن يأخذ به من يريد وأن يرفضه من يشاء، لكن على هامشه لا يمكننى أن أشكك بسهولة قد تصل إلى درجة السطحية فى تجلى العذراء، وأن أصفه بأنه خرافة أو مجرد لونا من الدجل الذى يتملكنا، لأن الأقباط فى نهاية الأمر لا يتعاملون مع هذا الظهور على أنه أمر معجز فقط، فقد قدمت لهم العذراء كما يقولون عندما تجلت خدمات جليلة.
منها مثلا ما حدث فى أول ظهور لها عرفته الكنيسة الأرثوزكسية، فقد ظهرت للأنبا ثيئوفليس البابا الثالث والعشرين فى تاريخ الكنيسة حيث كان على وشك السفر إلى دير المحرق لتكريس الكنيسة المشيدة بإسمها هناك، وقد أخبرته فى رؤية له بعد ظهورها له بكل الأماكن التى زارتها فى مصر ومعها السيد المسيح ويوسف النجار، وأخبرته بتفاصيل الرحلة كلها من فلسطين إلى مصر إلى آخر نقطة فى المنطقة التى أقيم فيها دير المحرق والعودة إلى فلسطين، وأوضحت له الطريق الذى سارت فيه العائلة المقدسة ذهابا وعودة إلى مصر، وعلى إثر هذه الرؤية قام البابا بكتابة كتابه عن الرحلة المقدسة الذى اعتمدته الكنيسة الأرثوزكسية كمصدر رئيسى لرحلة العائلة المقدسة داخل مصر.
أعانت السيدة مريم العذراء بظهورها كذلك الأنبا إبرام بن زرعة السريانى البابا الثانى والستين فى تاريخ الكنيسة على أن يعرف القديس سمعان الخراز ويعرف المنهج الروحى الذى من خلاله نقل جبل المقط بمدينة الفسطاط فى زمن المعز لدين الله الفاطمى، حيث تم نقل جبل المقطم فى القرن العاشر عندما طلب المعز من الأنبا إبرام أن ينقل الجبل من مكانه إلى مكان آخر كما يقول الكتاب المقدس: إن كان لكم إيمان مثل حبة خردل فقولوا لهذا الجبل أن ينقل فيتقل.
لم يكن ظهور السيدة العذراء أمرا خاصا بها إذن، ولكنه كان يحدث مرتبطا بظرف بشرى وبحاجة تؤرق الناس وتأخذ عليهم حياتهم كما حدث فى 1968 وكما حدث كثيرا بعد ذلك، فالمعجزة لم تحدث أبدا لوجه الله، بل كان وراءها ما يحركها ويسهم فى صنعها.
إننا ارتضينا بمعجزات الأنبياء التى حدثت فى حياتهم وتم إخبارنا عنها دون أن نراها، لأنهم فى النهاية أنبياء أرسلتهم السماء بكلمتها وتأييدها لتوصيل رسالتها، وذلك تحديدا الذى لا يجعلنا لا نصدق بسهولة أى معجزة أو كرامة تظهر بعدهم، فالبشر يعيشون حالة من العجز الدائمة والمستمرة، ولأن زماننا يخلو من المعجزات فقد ساهم البشر فى صنعها وصياغتها والترويج لها، ولا فرق فى ذلك بين تجلى العذراء ومعجزات القديسين فى تاريخ الأقباط وكرامات ومعجزات الأولياء المسلمين الذين تنتشر أضرحتهم فى كل مكان دون أن نعرف لهم أصلا أو فصلا، لكنها عادتنا فنحن نصنع الخرافة ونصدقها، نصنع الولى ونتقرب إليه، نصنع العجل ثم نعبده.
إننى لا أقول أن معجزات تجلى العذراء تتم فبركتها، فهناك من يستطيع أن يحلل ويفسر ويفحص الحدث وما يعقبه من أحداث ويتحمل هو مسئولية هذا الحكم العاصف، لكننى أذهب إلى أن معجزة ظهور العذراء تحدث داخل من رأوها ثم اعتقدوا أنها كانت واقعا، وفى كل مرة يتم تضخيم المعجزة، فالتضخيم فى النهاية سيكون مفيدا، فكلما كبرت المعجزة كانت فرصة تصديقها أكبر.
لقد تجلت العذراء فى مصر منذ أربعين عاما، وهو التجلى الذى يأتى على أنه الأهم والأكبر فى تاريخ التجليات المريمية، كان الظرف الذى رآها فيه المصريون مناسبا، بلد مهزومة ومنسحبة إلى الخلف وهو ما يتكرر الآن فالبلد على وشك الإنفجار من جميع النواحى.
وعليه فإذا أردتم أن تتجلى العذراء فليس عليكم إلا أن تقرروا ذلك، فهى لا تتأخر عمن يريد أن يراها، فالعذراء وكما كل القديسين والأولياء يعيشون فى داخلنا، نحن الذين نمنحهم حق التجلى ونحن الذين نحجب عنهم حق الحياة...هذا وفقط.
محمد الباز ..فى انتظار أم النور التى لا تاتى