نحبهم حتى الموت، بل وبعد الموت، نقسو عليهم أحيانا لأننا نريدهم أن يحققوا أحلامنا التى لم نستطع تحقيقها، نحلم بأن يكونوا أفضل منا وأن تتحول انكساراتنا فى الحياة إلى انتصارات بأيديهم، نريد أن نصحح بهم أخطاءنا، وقد تدفعنا كل هذه المحاولات إلى قتلهم دون أن نشعر.
نظر الأب إلى يده، كرهها ولو طال لبترها، كيف لهذه اليد التى تحنو وتعطى أن تضرب فتقتل، لم تكن المرة الأولى التى يضرب فيها والد ريم مجدى بطلة المصارعة ابنته ليحفزها على الجدية أكثر فى التمرينات حتى تحقق بطولات أكثر وأكثر، لم يتمكن هو نفسه من تحقيقها.
لم يكن الأب يتخيل أن ضربه لابنته قد يتسبب يوما فى موتها، وأن تأتى لحظة تنفجر فيها ابنته من شدة ضغوط الحب والحرص فتلقى بنفسها من السيارة لتزهق روحها أمام والدها الذى قتلته الصدمة.
بالتأكيد فإن هذا الحادث أصاب كل الآباء والأمهات كما أصابنى بالرعب والخوف، فالكثيرون منا اعتادوا على تعنيف أبنائهم وضربهم أحيانا، بمنطق "بنضربهم لمصلحتهم"، وهى العبارة التى نستخدمها حين نفقد أعصابنا أثناء التعامل مع أبنائنا، فهل تخيل كل منا موقف هذا الأب بعد أن ألقت ابنته نفسها من السيارة وحملها وهى تنزف حتى ماتت بين يديه.
من المؤكد أن الأب حينها تمنى لو أن شللا أصاب يده قبل أن يضرب ابنته، ولو عاد به الوقت كان سيغير من أسلوب تربيته لابنته وشقيقاتها، لكن الوقت والزمن أبدا لن يعود، ليظل الأب حتى آخر حياته معذبا، يسحقه الألم والندم على لحظة تمنى أن يموت قبلها حتى لا يراها.
وبالرغم من أن الأب ادعى أن سيارة طائشة صدمت ابنته أثناء عبورها الشارع وتركتها جثة هامدة ولاذت بالفرار، ورغم الشكوك حول شهادة الأب، خاصة بعد تقدم زوجته ببلاغ تؤكد فيه أن ابنتها ألقت بنفسها من السيارة بعد مشادة كلامية وقعت بينها وبين والدها أثناء التمرين، قام على إثرها الأب بضربها بقدمه، ثم صفعها على وجهها أثناء العودة إلى المنزل بالسيارة، بعد أن اتهمها بالانشغال بمواقع التواصل الاجتماعى وإهمال التدريب، فرغم كل هذا لا شك أن دموع الأب ندما وحزنا على ابنته وعلى ما اقترفه بحقها كانت صادقة، وأن عذابه لا يوصف ولن ينتهى، حتى وإن لم ينكشف أمره ولم يعاقبه القانون.
الكثير من الآباء والأمهات قد يتعاطفون مع الأب، رغم الحزن الشديد على الطفلة البطلة الرياضية ريم مجدى، التى لم تكمل عامها الخامس عشر، الكثيرون سيتخيلون إحساسه ومشاعره، ربما لأن أغلبنا يقع فى نفس الأخطاء أثناء التعامل مع أبنائه، وقد يتطور الأمر فى أوقات كثيرة إلى استخدام العنف بدرجات متفاوتة، ربما لأننا نعانى كثيرا من عناد أبنائنا ونفقد القدرة على التواصل والتفاهم معهم، للوصول إلى لغة مشتركة فى ظل التفاوت الفكرى الشاسع بيننا وبينهم، ربما لأنه بداخل كل منا عقدة يريد أن يساعده أبناءه فى التخلص منها بنجاحهم ووصولهم إلى مالم يصل إليه.
وقد يسخط الكثيرون أيضا على هذا الأب، وتتردد عبارات من عينة: "مش يحمد ربنا إن بنته بطلة حصلت على ميداليات وبطولات عالمية" ، وهم على حق، ولكن أحيانا ودون أن نشعر نجبر أبناءنا وأنفسنا على اللهاث فى سباق التفوق سواء الرياضى أو العلمى، دون أن نفكر فى مشاعرهم وحجم الضغوط التى نفرضها عليهم وعلى أنفسنا، حتى نفيق على كارثة ومصيبة كتلك التى وقع فيها والد ريم من شدة حرصه على استمرارها فى سباق التفوق الرياضى، وانشغاله بكل الوسائل التى تكفل لها هذا، فنسى مع هذا الانشغال والحرص أن يشعر بمشاعر ابنته وأن يدفعها للتفوق بطرق أخرى من التشجيع والحب والتحفيز، وهو الخطأ الذى يقع فيه أغلبنا ونحن نسعى ونحلم بنجاح أبنائنا، فننسى أن نحتضنهم وننظر إلى وجوههم، ولا ننتبه لمخزون الضغوط والأحزان فى نفوسهم، حتى يفيض بهم الحزن فيصدمنا بما لا نتوقعه وما لم يخطر ببالنا، فتنقلب حياتنا وحياتهم فى لحظة إلى مأساة مثل مأساة ريم ووالدها، فكيف لهذا الأب أن يكمل حياته وهو يرى فى يده آثار دماء ابنته، وكيف له أن ينظر فى عيون باقى أبنائه وزوجته.
نركز نحن الآباء والأمهات دائما فى مشاعرنا نحو أبنائنا، ونبرر لأنفسنا ما نفعله بهم، نظن أن حبنا الفطرى لهم لا يحتاج لإثبات، وحرصنا على مصلحتهم لا يحتاج لدليل، وهو الخطأ الذى نقع فيه جميعا، وعلينا جميعا أن نعيد النظر فى طريقة تعاملنا مع أبنائنا، وأن نسرع بأخذ هدنة من هذا السباق الذى نعيش ونجعلهم يعيشون فيه، قبل أن نتحول إلى قتلة يقتلون أبناءهم بالحب ويخنقونهم بالحرص.