تصاعدت فجأة الأزمة النوبية وبرزت إلى سطح الأحداث بعد أن سيطرت على "نوبة نوتو.. وتعنى باللغة النوبية أهل النوبة" حالة من الغضب بسبب ما أسموه "نكوصا من الدولة بتعهداتها معهم"، خاصة فى إعادتهم إلى أراضيهم بعد تهجيرهم فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى، عندما شرعت الدولة فى بناء خزان أسوان والسد العالى، وكان وعد الدولة بتعويضهم وإعادتهم إلى أراضيهم، حيث تم الانتهاء من بناء هذا المشروع الوطنى .
خرج النوبيون الغاضبون بسبب عرض أراضيهم للاستثمار ضمن مشروع المليون ونصف المليون فدان، فقطعوا الطريق وعطلوا المصالح فى صورة لا تتفق أبدا وتاريخ النوبيين الوطنى، الذين عانوا منذ تهجيرهم بالاغتراب - وما أسوأ أن تحس بالاغتراب داخل وطنك - فهم الذين قدموا لوطنهم كل تضحية وفى مقدمتها أراضيهم التى عاشوا عليها وتلونت أجسادهم بسمرة تلك الأرض، ورحلوا عن بيوتهم التى عاشوا فيها يتحملون مشاق الحياة عندما يأتى الفيضان فيجرف تلك البيوت، ثم يعودون بعد الفيضان لبنائها لارتباطهم نفسيا وعاطفيا بهذه الأرض التى يدركون أنها تعيش فيها.
تفرقوا فى ربوع مصر بين محافظات قنا وأسوان والإسكندرية ومدن القناة والقاهرة وغيرها، لكنهم رغم معاناة التشتت حافظوا على قيمهم وتراثهم الفلكلورى ولغتهم الفريدة، وقدموا لمصر على مدار تاريخهم مواقف وطنية عديدة، بعيدا عن إلصاق التهم المختلفة بهم لدرجة أن وصفهم بعض ممن لم يفهموا الفكر النوبى ولم يعرفوا التاريخ النوبى أنهم دعاة انفصال عن الدولة المصرية، لأنهم لو كانوا دعاة انفصال ما غضبوا على أراضيهم وبيوتهم وأحلامهم وارتباطهم العضوى بمصر الوطن .
وهنا يحضرنى ذلك الدور التاريخى للنوبيين فى حرب أكتوبر المجيدة عندما حقق الجيش المصرى أعظم انتصار عسكرى فى التاريخ الحديث، فقد استطاعت إسرائيل فك رموز الشفرة الألكترونية للجيش المصرى، وهو ما راح يهدد الانتصار العسكرى المصرى، ولم تشأ الحرب أن تنتهى حتى يكتب التاريخ شهادة جديدة فى وطنية نوبيى مصر، عندما قرر الرئيس الراحل محمد أنور السادات الاستعانة باللغة النوبية التى لا يتحدث بها ولا يجيدها أو يفهمها إلا أهل النوبة لتكون بديلة للشفرات المستخدمة فى الجيش المصرى، ولم تكن مفاجأة للقيادة المصرية آنذاك أن وجدوا النوبيين يتدافعون للقيام بهذه المهمة الوطنية، وبالفعل قامت القيادة العسكرية بتوزيع الأبطال من النوبيين على كل التشكيلات على الجبهة وداخل غرف العمليات المختلفة وداخل غرفة العمليات المركزية للمعركة.. وبالفعل تم استخدام اللغة النوبية كلغة إشارة مشفرة فى هذه الحرب، وتاه العدو الإسرائيلى إذ لم يستطع فك رموزها وطلاسمها، وأدركت إسرائيل ذكاء العقل المصرى وبحثت فى الأسرى المصريين لديها وكل بطل بشرته سمراء يكيلونه العذاب من أجل أن يبوح بأسرار تلك اللغة التى وصفوها "بالعجيبة"، وحتى الجنود النوبيين تحملوا تعذيب العدو الإسرائيلى لهم دون أن يبوحوا بأسرار الشفرة الجديدة التى استخدمت لأول مرة فى تاريخ الحروب فى العالم.
والأزمة النوبية لا تختلف كثيرا عن أزمات سابقة مماثلة مثل تهجير سكان مدن القناة أثناء العدوان الإسرائيلى على مصر، وعندما انتهت الحرب عملت الدولة بل وتحقق لهم العودة إلى ديارهم وأراضيهم، وحققت لهم الدولة مطالبهم كاملة وعوضتهم عن فترة التهجير، ولم يزعم أحد أن أهل القناة دعاة انفصال أو تفتيت للمناداة بحقوقهم، ولم تبخل الدولة عن تعويضهم زمن الهجرة، وملكت لهم الأراضى والبيوت التى هجروا إليها، كما أعادت تشييد المناطق التى هُجروا منها.
وبعد جهاد نوبى طويل تكلل الأمر بمادة دستورية هى المادة 236 والتى جاء فيها "تكفل الدولة وضع وتنفيذ خطة للتنمية الاقتصادية، والعمرانية الشاملة للمناطق الحدودية والمحرومة، ومنها الصعيد وسيناء ومطروح ومناطق النوبة، وذلك بمشاركة أهلها فى مشروعات التنمية وفى أولوية الاستفادة منها، مع مراعاة الأنماط الثقافية والبيئية للمجتمع المحلى، خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون."
ويرى المركز الوطنى للدفاع عن حرية الصحافة والإعلام أنه لابد من توخى الحذر وعدم وصف النوبيين بأوصاف تخرجهم عن الوطنية، وعلى الدولة التى تلتزم سياسيا واقتصاديا بدعمهم باعتبارهم جزء من نسيج الجسد المصرى، فقد أصبح عليها التزاما دستوريا بتحقيق تنميتهم وإعادتهم إلى حيث أرضهم التى هجروا منها، وديارهم التى رحلوا عنها وأحلامهم التى لازالوا يتمسكون بها.
وعلى أبناء النوبة أن يتأكدوا أن الدولة المصرية لا تأكل أولادها، وعليهم أن يستمعوا إلى رسائل الدولة فى هذا الشأن حتى يتحقق لهم ما يريدون .
ويرى المركز الوطنى للدفاع عن حرية الصحافة والإعلام أن يصبح أبناء النوبة هم الأولى بالرعاية فى تملك هذه الأراضى، ثم ما يتبقى يتم طرحه للاستثمار، لأن القضية الاجتماعية دائما قبل الاستثمار والاقتصاد، وتقوم الدولة بدعمهم اقتصاديا واستثماريا فى هذه الأراضى، والتى نراها الحلول الأكيدة فى حل أزمة النوبة، وبذلك نجنب الوطن قضايا تتحول إلى أزمات كبيرة، خاصة أن هناك من يستغل تلك الأزمة وتأجيجها وإشعالها.