تحت البرد القاسي، والطقس السيء، وموجة لاتحتمل من الصقيع، يصاحبها عاصفة من الرمال والأتربة تضرب البلاد في موسم شتاء لايرحم، خرجوا إلى العراء بحثُا عن لقمة العيش، يلتحفون مالديهم من ملابس متواضعة ومهترئة علها تحمي أجسادهم المنهكة من قسوة الجو.
فقراء، يمتهنون أعمال بسيطة، على اختلافها لكن جميعهم «أرزقية على باب الله»، يقتاتون من الرزق الزهيد الذي يحصلون عليه «اليوم بيومه»، أحدهم ترك ورائه «أفواه جائعة»، يخرج يوميًا ليعود إليهم ربما بلقيمات تسد البطون، وآخر يعول نفسه، يبتغي الرزق الحلال، وحتى لايمد يده ويطلب المساعدة، وهناك من تخلى عن أحلامه الوردية وخلع ثوب الطفولة مبكراً بعدما جارت عليه الأيام.
«البقاء في المنزل وعدم الخروج إلا في حالة الضرورة القصوى» كانت نصيحة الأطباء للمواطنين مع قدوم تلك الموجة السيئة من الطقس لتجنب أضرارها، لكنها بالنسبة لهم «رفاهية» لايعرفونها، فالحصول على قوت يومهم هو أقصى ضرورة مهما كانت حالة الجو «شتاءً أو صيفًا»، فيقولون: «أجسادنا اعتادت على الشقاء والتحمل.. والراحة والدفيء لم نعد نعرفها».
طفل يعمل تحت برودة الجو بعد هروبه من المنزل: «أمي قالت لجوزها اكسره وأنا أجبسه»
يهرول مسرعًا نحو المقهى القريب من موقف السيارات بميدان «السيدة عائشة»، لحظات ويأتي حاملاً كوب من القهوة، يلف أنامله الصغيرة حوله كمحاولة للحصول على قليل من الدفيء في مساء يوم شديد البرودة، يمسكه بعناية خشية أن يسقط حتى يوصله إلى «معلمه» صاحب سيارة الأجرة «الميكروباص» التي يعمل «تباعًا» عليها.
جسده نحيل، يرتدي بلوفر مهتريء من الصوف، الأتربة والعوادم تركت أثارها على وجهه الطفولي الذي احتفظ بابتسامة حذرة، أطرافه تميل إلى الزرقة من شدة البرد.. يستند «حسين» الذي لم يتخطى عامه الـ14 إلى «الميكروباص» بينما يتجه بنظره نحو «فرشة» لبيع لعب الأطفال، يسرح بخياله قليلاً مع أحلام وردية حُرم منها قبل أن يوقظه صاحب السيارة بصوته الأجش: «حمل العربية يابني».
«أنا بكره أمي» كلمات صادمة تفوه بها «حسين» في بداية حديثه، ليكمل: «جوز أمي كان بيضربني على طول، وهي كانت بتقوله اكسره وأنا أجبسه، أنا بكرهها»، مشيراً إلى أن تلك المعاملة القاسية من زوج والدته وتحريضها لزوجها على ضربه، دفعته إلى ترك المنزل قبل 5 أشهر: «دي مش أم، كانت بتسيب جوزها يبيع ويشتري فينا أنا وأخويا ناصر اللي أكبر مني بسنة، هو استحمل وفضل معاهم، بس أنا سبتلهم البيت ومشيت، أمي عندها 6 ولاد من جوزها غيري أنا وأخويا».
ظروف قاسية يعمل فيها الصغير، فبخلاف الإهانة التي يتعرض لها وإرهاق العمل، تزيد برودة الجو وموجة الصقيع التي تضرب البلاد من معاناته: «لازم أشتغل وأتحمل مهما كان الجو عامل إزاي، أنا اللي بصرف على نفسي بعد ماسيبت بيت جوز أمي، وعمري ماهرجعلهم، معقول أرجع للضرب والبهدلة».
يقول «حسين» إن الشيء الوحيد الجيد في حياته هي أسرة صديقه «علي» الذي يكبره بـ3 سنوات ويعمل سائق، بعد أن احتوته وجعلته يعيش معهم بمنزلهم عقب تركه منزل زوج والدته: «أحن عليا من أهلي اللي من دمي، بنام مع علي صاحبي على سريره وأمه بتأكلني وأخته الكبيرة هي اللي بتغسلي هدومي، هما اللي ليا دلوقتي».
طالب بكلية التجارة يبيع «الفيشار»: «بحلم بالسفر للخليج.. وبكره الواسطة»
شاب أنيق الهيئة، ملابسه مهندمة، ذو ابتسامة لاتفارق وجهه توحي بقدر كبير من الرضا رغم ضيق الحال، بوسط ميدان «الجيزة» يقف «علاء»، الطالب بالفرقة الثانية بكلية التجارة جامعة القاهرة، أمام عربته يبيع «الفيشار» الذي تفوح رائحته الشهية فتجذب المارة كما يجذبهم بوجهه البشوش.
لغة مهذبة يتحدث بها الشاب صاحب الـ19 عامًا، تختلف كثيراً عن تلك التي ينطق بها غيره من الباعة المتواجدين بالميدان الشهير، فأكثر من 8 سنوات هي مدة عمله على ذات العربة الصغيرة بالميدان لم تكسبه لغة الشارع، وهو مايثير الدهشة والفضول لدى بعض زبائنه، ليرد عليهم قائلاً: «أنا تقديري جيد جداً في الكلية، وليا ترتيب على الدفعة، وكمان بتكلم إنجليزي كويس».
«الجو برد ولا حر مش مهم أنا اتعودت، لازم أشتغل عشان أساعد والدي وأشيل عنه» يقولها «علاء»، مضيفًا أن اليومية التي يكسبها تصل إلى 30 جنيهًا يعطيها لوالده ويحصل فقط على مصاريفه الشخصية، ويتابع: «بشتغل حوالي 12 ساعة وبرجع البيت مقتول، يدوب بتعشى وأنام».
فرص عمل بالسياحة بمدينتي الغردقة وشرم الشيخ عرضت على «علاء»، نظراً لإجادته للغة الإنجليزية التي اكتسبها من قرائته للكتب والروايات الإنجليزية منذ كان صغيراً، بحسب قوله، بجانب مظهره الجيد، لكنه رفضها جميعًا ليظل بجانب والده: «مقدرش أسافر وأسيب أبويا، لأن أنا وأخويا اللي بنساعده وبنشتغل معاه عشان نصرف على أمي وإخواتي البنات الثلاثة وكمان عشان الدراسة، هنا أنا بشتغل أيام الأجازة، ووقت الامتحانات أخويا هو اللي بيقف مكاني».
«السفر إلى الخليج» حلم يراود الشاب الجامعي بعد إنهاء دراسته، فيقول: «نفسي بعد ماأخلص الجامعة أسافر برة مصر، وياريت لدولة في الخليج، فلوسها حلوة»، الواسطة و«الكوسة» الموجودة في معظم الوظائف هي مادفعته إلى حلم السفر خارج مصر: «كان نفسي أشتغل محاسب في بنك، أنا شاطر في المواد العلمية وتقديري كويس، بس كل أصحابي اللي اتعينوا كان معاهم واسطة، ناس من زبايني واصلين قالولي ياعلاء خلص انت بس دراستك وهنعينك في وظيفة، بس أنا بكره الواسطة».
«رجب» جاء من المنيا إلى قاهرة المعز: «كله يهون عشان خاطر محمد»
قبل 7 سنوات، جاء من مدينة مغاغة بمحافظة المنيا إلى قاهرة المعز، بحثًا عن الرزق الذي شح بقريته الفقيرة، طوال تلك المدة ظل «رجب» الشاب الأسمر صاحب الـ 26 عامًا، والذي مازال محتفظًا بلهجته الصعيدية، يقف في نفس المكان بميدان «السيدة عائشة» أمام عربة «كارو» ملك لـ«معلمه» محملة بنوع من الخضار، لأكثر من 12 ساعة يوميًا، يواجه تعبه وإرهاقه بـ«الحمد لله» مع ابتسامة رضا بالحال، ويشد من أزره تذكر ابنه الرضيع: «كله يهون عشان خاطر محمد».
عناء الغربة بعيداً عن «أهله وناسه» وهو لم يتخطى الـ20 عامًا كان ثماره زواجه من «مريم» ابنة عمه وحب عمره، و«محمد» طفلهما الذي لم يتجاوز 4 أشهر: « اتجوزت بنت عمي بعد ماجيت القاهرة بـ3 سنين، كانت وقتها بنت 14 سنة، معظم البنات عندنا بيتجوزا في السن ده، أجلنا الخلفة سنتين بعد الجواز، وبعدين ربنا رزقنا بمحمد 4 شهور».
«لو الجو برق ورعد مش برد بس.. بنزل أشتغل، مينفعش أقعد، باخد 100 جنيه في اليوم وأنا محتاجها عشان ربنا يكرمني وأعرف أجيب مراتي وابني من البلد يبقوا معايا هنا ومفضلش في الغربة لوحدي» ويشير«رجب» إلى أنه ترك زوجته وابنه في قريته، وتجلس «مريم» في منزل والدها وقت غيابه، بينما يعمل هو شهرين متواصلين ويسافر 7 أيام لزيارتهما.
يتمنى الشاب العشريني أن يستقل بعمل خاص به، فأكثر مايعاني منه هو تحكم صاحب عربة الخضار به وعدم قدرته على رفض أوامره حتى لو كانت على حساب كرامته: «مقدرش أرفض حاجة للمعلم، بنفذ كل اللي يطلبه مني حتى لو فيه إهانة ليا، يعني من شوية رحت جبت الخضار على العربية وجريتها بنفسي من الحطابة للسيدة عائشة زي ماأكون حمار، ولو قلتله لأ هيمشيني».
عجوز يعاني من حساسية بالصدر: «التضامن قالولي لما تكمل 65 سنة تعالى خد معاش».. «يصرفهولي لما أموت أحسن»
على بعد أمتار قليلة بذات الميدان الشهير، يجلس «الحاج محمود»، بلحية شيباء كثة، وعظام وجه بارزة، ملتحفًا بمعطف متواضع عله يقيه برودة الجو القاسية ويحمي جسده النحيل من طقس سيء يضرب البلاد، بهمة ونشاط يبدأ في رص بضاعته «عدد من لعب الأطفال زهيدة الثمن» على فرشته البسيطة، بجانب أنبوب اسطواني لمليء «الولاعات» الفارغة والتي تنتشر في المناطق الشعبية.
«العمل في مثل هذا الجو القاسي» كان خياراً وحيداً أمام الرجل الذي اقترب من عامه الـ60، فالمكوث في المنزل كما نصح الأطباء «المواطنين» بمثابة «رفاهية» غير متاحة لـ«الحاج محمود» فهو «أرزقي على باب الله» ومصدر دخله الوحيد من تلك الفرشة البسيطة، بعدما رفضت وزارة التضامن الاجتماعي منحه المعاش الذي أقره الرئيس السيسي «450 جنيهًا»: «قالولي مش من حقك تاخد معاش إلا بعد ماتكمل 60 أو 65 سنة» مضيفًا: «يصرفهولي لما أموت أحسن».
يعيش «الحاج محمود» مع أخته الوحيدة التي تكبره بعدة سنوات ولم تتزوج، بعدما انفصل عن زوجته التي أنجب منها ابنتين أكبرهما لم تتخطى الـ10 سنوات: «اتجوزت مرة واحدة وأنا عندي 40 سنة، مكنتش عارف أتجوز قبل كده لأن مكنش معايا فلوس والحالة كانت ضيقة، وطلقتها لأنها كانت بتتناقر معايا على طول، جبت منها بنتين واحدة 8 سنين والثانية 6 سنين عايشين مع أمهم».
«معاش من التضامن الاجتماعي» هو كل مايحلم به الرجل العجوز، لكي يعيش حياة كريمة ولاتمتد يده إلى طلب المساعدة من أحد، خاصة أنه يعاني من حساسية بالصدر أصيب بها من عمله في «تبليط» الأرضيات والأسقف: «كنت صنايعي شاطر بس من يوم التبليط ماجبلي حساسية وأنا سبت الشغلانة وماشي ببخاخة للنفس، ودلوقتي اليومية اللي بتطلعلي من شوية لعب الأطفال بحمد ربنا عليها وأهي بتكفيني، ربنا بيكرم من عنده، ساعات واحدة تعدي عليا تاخد مني لعبة ثمنها 7 جنيه، تمد إيديها في شنطتها وتديني 20 جنيه وتمشي، المهم الواحد يقول الحمد لله والرزق بإيد ربنا».