عندما لم تساعدنا الحياة على تحقيق الأحلام والهوايات، تترك هذه الأحلام غصة فى القلب، ويحاول الآباء تعويضها فى الأبناء، فهل يمكن أن نعوض ما فاتنا فى أولادنا «طوعا» منهم أو «كرها» منا، إذا كان كرها وقتها يصاب الأبناء بخيبة الأمل وتراجع العزيمة والهمة، وغالبا يقل دافعهم على الإنجاز عندما يقدمون على فعل أو عمل شىء لا يرغبون فيه ما يشكل لديهم ضغطا نفسيا كبيرا.
جميع الحالات التى أقدم فيها الأطفال والمراهقون على إنهاء حياتهم بسبب الضفط النفسى الواقع عليهم، كان الآباء جزءا من المشهد العام بقصد أو بدونه، وشغلوا جزءا داخل إطار الصورة التى سيطرت على مخيلة الابن فى اللحظة الفارقة، الصورة التى ترتبط بالسلطة والتسلط واستخدام الآباء لأولادهم كدروع بشرية يحتمون بهم فى الخلافات الزوجية وفى تحقيق أحلامهم المؤجلة، والنتيجة فجوة بين الأبناء والآباء وحرب تكسير عظام بين السلطة العليا ترى من حقهم فرض الولاية، والسيطرة دون الوعى بالتغيرات التى حدثت فى المجتمع مؤخرا، وأطفال ومراهقون يريدون الحق فى اختيار مسار حياتهم وفق ميولهم ورغباتهم، والنتيجة هى مقاومة الأبناء لهذا القهر بعدة طرق وأساليب، أولها الضغوط النفسية والأمراض العضوية ويمكن أن تنتهى بالتخلص من الحياة.
حكاية بطلة المصارعة لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة ولكنها حلقة ضمن سلسلة مليئة بحكايات حدثت خلف أبواب بيوتنا، النماذج كثيرة
نشاهدها ونسمع عنها يوميا، فهذا إمبراطور البيزنس الذى كرس جل اهتماماته كى يكمل ابنه المسيرة، والطبيب الشهير الذى لا يرضى بديلا فى أن يشاركه المكان والسمعة إلا الابن والمهندس وصاحب الورشة وموظف السكة الحديد الذى يريد توريث ابنه المهنة حتى لا تخرج الأسرة من البيت التى وفرته الهيئة لموظفيها أثناء الخدمة فقط، والبواب الذى يرى فى ابنه الامتداد الطبيعى له، ومن يجبر أبناءه على ممارسة الهواية أو الدراسة التى تكمل الواجهة الاجتماعية للأسرة ناهيك عن اختيار نوعية الطعام والملابس وتشجيع الفرق الرياضية.
«سارة» حكايتها لابد أن تدرس فى مراكز البحوث الاجتماعية، وتقدم هذه المراكز توصيات تنشر على الملأ فى كل وسائل الإعلام، وتقوم بتوعية الآباء بترك مساحة الاختيار لأبنائهم، هذه الفتاة حصلت على مجموع يؤهلها للدراسة بكلية نظرية هى تريد الدراسة بها، لكن الأب الذى يعمل فى مجال بيزنس المقاولات، وصاحب الهيبة والكلمة العليا والوجه الصارم والأمر الناهى فى الأسرة وجد فى وحيدته الوريث الشرعى لمشروعه، وأصر على التحاقها بكلية الهندسة بإحدى الجامعات الخاصة.
فى السنة الأولى، تفوقت الفتاة كالعادة فى المواد العامة، وفى السنة التالية بدأت دراسة المواد العملية وانتظمت فى حضور المحاضرات واطلعت على المراجع، إلا أنها ولعدة سنوات كانت تترك ورقة الامتحان بيضاء، معلنة بذلك عن رفضها لكل وسائل الضغط التى مورست عليها وإجبارها على دراسة مواد لا ترغبها.
حكاية الأستاذ طارق تشبه آلاف الحكايات وراء الأبواب، عن الآباء الذين غيروا مسار التعليم أو الموهبة لأولادهم، فكان منذ صغره شديد الولع بممارسة هواية العزف على آلة العود ورفض والده رفضا باتا، معللا ذلك بأن الموسيقى ستشغل وقتا كبيرا من حيز المذاكرة، وفى النهاية طارق لم يمارس أبدا الهواية التى عشقها ولا تفوق فى نوع الدراسة التى فرضت عليه، لكن طارق الأب يفتخر أنه لم يعيد الكرة مع ابنته التى فضلت واختارت دراسة الفنون المسرحية.فالأب الذى عانى الأمرين من تسلط والده وإجباره على عدم ممارسة هوايته المفضلة - والذى يدخل ضمن أنواع الاضطهاد الفكرى - لم يمانع أبدا فى اختيار أولاده للمجالات التى يرغبون الدراسة أو العمل بها.
فكل من تعرض للقهر وفرض الوصاية الأبوية فى اختيار الدراسة أو الهواية، لم يعيد إنتاج هذا القهر لأبنائه والدليل على ذلك حكاية وليد عبدالستار الذى منعه والده من ممارسة هواية كرة القدم التى عشقها فى طفولته، وبمجرد أن بلغ ابنه الثلاث سنوات قام بإلحاقه بإحدى أكاديميات الكرة التى تتبع نادى كبير، وقام بتشجيعه، ومرافقته فى التدريبات لأنه تعلم أن القهر والإجبار يخلق لدى الطفل ارتباكًا فى الشخصية، ويصبح مسلوب الإرادة. وهنا تفسر الدكتورة هبة عيسوى، أستاذ أمراض الطب النفسى بجامعة عين شمس، زميل الكلية الأمريكية لطب نفس الأطفال والمراهقين، هذه الحالات وتقول: عندما تترك هذه الفتاة ورقة الامتحان بيضاء وتخرج فى هدوء، فإن هذا الهدوء يمثل قمة القهر الواقع عليها، وبدلا أن يتحول الغل الشديد لديها لتمزيق الورقة أو الاعتداء على المراقبين تستسلم وتخرج من لجنة الامتحان فى هدوء، لكنها أصيبت بالانزواء والعزلة، ولجأت إلى الأطباء بحثا عن علاج لحالتها التى لم يلتفت لها الأب، وعجزت الأم عن المواجهة وإصرار الوالد على تكملة مشوار دراسة الهندسة ولو بعد حين، ومع الوقت انزلقت البنت فى هوة الإدمان لنسيان المشكلة كلها.
وتخشى الدكتور هبة عيسوى، وصول هذه الابنة إلى اللحظة الفارقة والمركبة التى تتجمع فيها ثلاثة أحاسيس فى نفس اللحظة، أولها الغضب والألم النفسى الشديد، والذى يأتى بحالة الضغط التى تمارس على الضحية بقصد وبدون قصد بدافع الحب أو بدافع الهيمنة والسيطرة والثانية هى الاستسلام والتى يشعر فيها الضحية بقلة حيلته وعدم وجود أى بوادر أمل لحل المشكلة، ويأتى بعد ذلك معاقبة النفس إما بإيذاء النفس أو التخلص من الحياة.
أما الحالات الأخرى فتقول عنها الدكتورة هبة عيسوى، هى الأكثر تفهما ونجت إلى حد ما من آثار الضغوط النفسية الرهيبة التى مورست عليها من قبل، والأجمل أنهم لم يستسلموا ولم يعيدوا إنتاج القهر على أبنائهم ولم يفرضوا سلطتهم الأبوية عليهم وتركوا لهم حرية اختيار الدراسة وممارسة الهواية. وتقول الخبيرة فى علاج الأمراض النفسية، ليس كل من تعرض للضغوط يتعرض للحظة الفارقة التى تتجمع فيها المشاعر والأحاسيس التى تصل بصاحبها لإنهاء حياته، ولكن هناك أشخاص أكثر عرضة من غيرهم للقيام بذلك وهم:
الشخص كثير التهديد بالانتحار والمتابع الجيد لكل حالاته فى الإعلام ومن يتحدث كثيرا عنها.
صاحب هواية جمع الأسلحة والسكاكين ذات الشفرات الحادة، والذى يلوح دائما بها فى وجوه من يقابلهم سواء على سبيل المزاح أو الجد.
صاحب القدرة على القيام بتشريح جلده أمام جمع من الناس، واستعراض ذلك باستخدام الآلات الحادة، مبينا قدرته الخارقة على تحمل هذا، وأن الحياة لا تمثل بالنسبة له شيئا رخيصة ولا تهمه.
الأطفال والمراهقون العاشقون للألعاب الإلكترونية «هانج مان» المعروفة بلعبة المشنقة، وفيها يقوم أفراد اللعبة بتنفيذ مشهد تمثيلى للحظة الشنق، وفى آخر لحظة قبل الوصول النهاية، يعود اللاعب لنقطة الصفر ليعيدها مرة ومرات، والعاشقون لهذه الألعاب يبحثون دائما عن المتعة فى المشاهدة.
المرضى المصابين بالاكتئاب الشديد هم الأكثر عرضة للتخلص من الحياة بإرادتهم.
وكل من حاول الانتحار مرة فى العمر وفشل، يصبح لديه الدافع للتجربة مرة أخرى، وبالفعل الإحصاءات تؤكد أن كل من حاول وفشل سيحاول مرة وثانية وثالثة.
القتل حباً.. وريم نموذجاً..احذر وأنت تختار لابنك مستقبله أن تضغط عليه حتى الضياع
يظن البعض أن كل شىء قابل للفعل تحت ستار الحب، الآباء والأمهات هم أكثر المؤمنين بتلك النظرية يريدون لأولادهم الأفضل لا شك فى ذلك، بعضهم يبذل جهداً مضاعفاً لاستنساخ نفسه فى صورة أطفاله، يطلقون الأوامر، يتحزركون بحرص خانق كما لو كانوا سجانين وأولادهم مساجين، افعل كذا ولا تفعل، انظر لكذا ولا تنظر، العب هذه اللعبة من أجل مستقبلك، ادخل هذه الكلية من أجل مستقبلك، «أنتى هتطلعى دكتورة وأنت هتبقى مهندس، لو خسرت درجة فى الامتحان أنت فاشل، انظر لابنة فلان تفعل كذا وأنت لا تفعل»، وبعضهم يتهور بدافع الحب ويضغط نسفياً وبدنياً على ابنه أو ابنته من أجل تحصيل دراسى أكثر، أو بذل جهد أكثر فى التدريب لينتهى بهم الحال، كما انتهى بفتاة الإسماعيلية بطلة المصارعة التى لم تتحمل ضغط والدها وعنيفه وضربه تحت وطأة أنه يريد لها الأفضل يريد لها التفوق والبطولة، فكانت النهاية أن اختارت الموت خلاصاً من ضغط الأب، والأب فى تلك الحالة مكلوم، كان يظن أنه يفعل الصواب من أجل ابنته مثل آباء وأمهات كثيرين.
نقتل أبناءنا بأيدينا تارة بإهمالنا أو بطرق تربيتنا الخاطئة، التى لا تعرف الحوار، والنقاش الهادى، نقتل فى أولادنا الثقة والحب والقوة حينما تمتد أيادينا لتضربهم فى أول مرة، وحينما ترتفع أصواتنا لإحراجهم أمام الغرباء، وحينما نهمل الاجتهاد فى معرفة ماذا يريدون وبماذا يحلمون وفيما يفكرون، آباء وأمهات مصر فى حاجة إلى مراجعة النفس فى طرق تربية أطفالهم قبل أن تقع الفأس فى الرأس، ونجد نموذج بطلة المصارعة فى الإسماعيلية وقد تحول إلى ظاهرة.
ابنك مش واجهة اجتماعية علشان تتباهى بدرجاته ودراسته.. ولن يعيش فى جلبابك..خبيرة استشارات أسرية: خلى مصلحتك الشخصية على جنب.. وسيب مساحة لحرية ولادك الشخصية
دائما ما يكون الشخص المصدر للعنف هو الأقوى، ويمارسه بالطبع على الأضعف، وتتفرد المجتمعات العربية بأشكال عديدة ومختلفة من العنف، منها عنف الأحباء الموجه من الآباء ضد الأبناء، فى صورة فرض الأمر الواقع على اختياراتهم، وبرغم اختلاف الزمن والأجيال يصر الآباء أن يرتدى أبناؤهم جلبابهم القديم المهترئ.
تقول الدكتورة «نبيلة السعدى»، أخصائية التواصل الاجتماعى والاستشارات الأسرية والزوجية: «لا نختلف على حب الآباء لأبنائهم ولكن هم يقومون بتربية أبنائهم بنفس الطريقة التى تربوا عليها، ولأن غالبية الآباء تربوا بالعنف وعلى الاعتماد على الغير لتحقيق أحلامهم، ويعتبر أشهر أنواع العنف المنتشرة داخل الأسرة المصرية هو عقاب الأطفال بالضرب، والتعنيف قد يؤدى بهم إلى الإصابة بالأمراض النفسية».
وتشير إلى أن كثيرًا من الآباء يتجاهلون رغبات أبنائهم ويهمشون الحرية الخاصة بهم سواء على مستوى التعليم أو الهواية، ويصرون على فرض آرائهم بدون أن يتركوا لهم حرية الاختيار التى تتوافق مع قدراتهم، ويظل الأهل يبحثون عن أسباب فشل أبنائهم وإصابتهم بأمراض نفسية. وترى «السعدى» ضرورة أن تنزل السلطة الأبوية من برجها العاجى وتعطى الفرصة للأبناء أن يعيشوا حياتهم على طريقتهم الخاصة ويبقى دور الأهل مراقبا وناصحا، على أن يكون القرار النهائى للابن أو الابنة، والأم هو تعويد الطفل منذ الصغر على فنون اتخاذ القرار.
ومن جانبه، أشار الدكتور «مينا جورج»، رئيس قسم التأهيل النفسى بالعباسية، إلى أن الأهل يظنون أن أبناءهم ما هم إلا مشروع استثمارى يحققون فيه ما يرغبون من أوجه المشروعات أو أحلامهم سواء ما لم يستطيعوا القيام به فى مرحلة شبابهم أو استنساخ شخص صورة طبق الأصل منه».
وعن تأثير إجبار الأهل للأطفال على اختيار مسارات على الهوى الشخصى لهم، يقول الدكتور «مينا»: هناك مجموعة من النتائج السلبية التى تحدث بسبب عنف الأهل وإجبار الأطفال على فعل أشياء ضد رغباتهم، وهى:
الانتحار.. فالابن فى هذه الحالة يظن أن لا مكان له وسط الأسرة فالجميع بتعاملون معه بطريقة خاطئة، ويستغلون وجوده فى تحقيق ما يرغبون هم فيه.
فرط الحركة وتشتت الانتباه.. ويتم ذلك نتيجة ضغط الأهل على الابن فى المذاكرة على سبيل المثال، الاكتئاب والانطوائية، وكل صور الأمراض النفسية ناتجة عن عنف الأسرة مع أبنائها وكلها نهايات سلبية تضر بصحة الطفل فى المرتبة الأولى.
10 وصايا حتى لا ينتحر أبناؤنا هرباً منا..امدحه أمام الآخرين وعبر له عن حبك وثقتك فيه واعلم أن كلماتك تصنع صفاته.. تقبل خطأه واسمح له بالاختلاف وببدائل للأحلام
إن كنت أبا أو أما، أغمض عينيك وارجع بالذاكرة للماضى.. تذكر أيام طفولتك.. مشاعرك حين يقسو عليك أبواك، وإحساسك حين ينفعل أحدهما عليك، أو ينالك عقابا بدنيا أو لطمة أو كلمة ضايقتك من أيهما.
هل تتذكر غضبك ووعودك لنفسك بأنك لن تتبع هذا الأسلوب مع أبنائك، وأنك ستكون أكثر تفاهما واحتواءً لهم، وهل ساورك إحساس طفولى تحت تأثير العقاب بأن والديك أو أحدهما يكرهك، أو أنك غير مرغوب فيك؟
افتح عينيك الآن وقد أصبحت أبا أو أما، واسأل نفسك، كم مرة تصرفت فيها تماما كتصرف أبيك وأمك الذى كنت تنتقده فى الطفولة، وكم مرة عنفت أبناءك وانفعلت عليهم وأنت تبرر لنفسك أن شدتك وعقابك لهم لمصلحتهم.
انظر فى المرآة فسترى شخصية أبيك أو أمك، وسترى أنك تكرر الكثير من تصرفاتهما التى كنت تنتقدها فى الطفولة. هكذا هى الحياة، حين تتغير وتتبدل الأدوار والمواقف، فترانا نتصرف كتصرفات أبائنا وأمهاتنا، ونقول لأنفسنا «احنا اتربينا كدة»، ولكن الخطير أن أبناءنا ليسوا مثلنا، وزمانهم غير زماننا، فلا تتوقع أن تتطابق ردود أفعالهم وتتشابه مع ردود أفعالنا حينما كنا فى مثل أعمارهم.
كل يوم تصدمنا حوادث انتحار الأطفال التى تزايدت مؤخرا، وآخرها واقعة وفاة بطلة المصارعة ريم مجدى، التى عنفها والدها ولطمها لتقصيرها فى التدريب وانشغالها بمواقع التواصل الاجتماعى فألقت بنفسها من السيارة، ولفظت أنفاسها الأخيرة، وقبلها عدد من الحوادث الأخرى لانتحار الأطفال حصرتها إحصائية رصدتها المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة فى أكثر من 50 حالة انتحار منذ بداية العام الحالى لأطفال تتراوح أعمارهم بين 10 - 17 سنة، حتى أن 3 أطفال انتحروا فى أسبوع واحد لأسباب مختلفة، إما خوفا من عقاب الوالدين، أو للإحساس بالذنب بسبب الفشل الدراسى وعدم تحقيق النتيجة التى ينتظرها الأبوان بعد طول عناء مع الظروف الاقتصادية والدروس الخصوصية.
وفى معظم هذه الحوادث لم يعرف الوالدان سببا مباشرا لانتحار طفلهما، حيث تمر الأحداث عادية روتينية حتى يفاجأ الأبوان بمشهد الابن معلقا فى سقف الحجرة بعد أن شنق نفسه، أو كما فعلت ريم بإلقاء نفسها من السيارة.
تدور فى ذهنك عشرات الأسئلة، فما الذى يدفع أبناءنا للانتحار، كيف تتحول مواقف صغيرة تتراكم يوميا إلى مصيبة كبيرة تصدمنا دون أن ندرك، كيف نتعامل معهم ونحميهم من أنفسنا وضغوطنا وضغوط الحياة عليهم.
أشياء بسيطة لا نلتفت إليها قد تحمينا وتحميهم من غضب مكبوت قد ينفجر يوما فى وجوهنا ليصدمنا بحادثة أو مصيبة لا ينفع معها الندم، وبالرغم من أنه لا يوجد كتالوج واحد للتربية، إلا أن بعض الأفعال والتصرفات التى نهملها ولا نعيرها بالا قد تخفف كثيرا من حدة ضغوط الحياة علينا وعليهم:
لا تعتقد أن حبك لابنك لا يحتاج لدليل أو برهان، فأبناؤنا يحتاجون دائما أن نعبر لهم عن حبنا، عبر عن مشاعرك نحو ابنك أو ابنتك، احتضنه وقبله واربت على كتفه، اجعله يشعر بأنك تفكر فيه ولو بهدية بسيطة، قطعة حلوة أو وردة أو لعبة بسيطة حتى وإن كان بدون مناسبة.
لا تنتقد ابنك أمام الآخرين ولا تقلل من شأنه حتى وإن كان ذلك على سبيل «الهزار»، تحدث عن مميزاته وكافئه على تصرفاته وامدحه، واجعله يشعر بأنك فخور به.
كثير منا يريد أن يرى أبناءه الأفضل دائما، لذلك ودون أن ندرى ننشد فيهم الكمال، وأغلبنا يننتقد تصرفاتهم إذا لم تصل إلى ما نطمح إليه، وإذا جاءت أفعالهم على غير ما نتوقع، سواء فى الدراسة أو التصرفات والمواقف المختلفة، اعلم أن ابنك لا يفكر بطريقتك وأن الكمال الذى تنشده فيه، قد لا يراه مناسبا له، فتقبل خطأه وناقشه واسمح له بالاختلاف وضع دائما بدائل لأحلامه وأحلامك فيه واسمح له بالاختيار.
لم تعد مقاييس التفوق كما كانت فى المجموع الكبير ودخول ما كنا نسميه بكليات القمة، فلا تضغط عليه فى تحقيق نتيجة معينة ولا تدخله فى سباق تفوق يتجاوز قدراته، واعلم أن اختياره ومعرفته لقدراته هو ما سيجعله فى القمة، فاعرف ميوله واكتشف مواهبه، واسمح له بدراسة ما يحب وتحقيق ما يحلم به ولا تجبره على تحقيق حلمك.
معظمنا يعتقد أننا نتحمل ضغوط الحياة من أجل أبنائنا، دون أن ندرك أنهم يتحملون معنا هذه الضغوط، بل وأن تأثيرها عليهم قد يكون أكبر، بعضنا يمن على أبنائه، ويذكرهم دائما بأعبائه، ويشعرهم بأنهم جزء كبير من هذه الأعباء، وأننا ضحايا ننفذ متطلباتهم، ولا ندرك تأثير هذا الشعور على الأبناء، فأحيانا يتولد لديهم إحساس بالذنب قد يدفعهم إلى كره أنفسهم، وقد يتزايد هذا الإحساس ليصل إلى الانتحار إذا شعروا بأنهم خيبوا آمالنا فيهم، أو يتولد لديهم إحساس بالخوف الشديد من ردود أفعالنا إذا لم يحققوا ما نرجوه من نتائج، وهو ما يحدث مع كثير من طلبة الثانوية العامة ومن لم يتمكنوا من تحقيق أهداف آبائهم وأمهاتهم فى التفوق الرياضى أوالدراسى.
شارك أبناءك وناقشهم حول أعباء الحياة وكيفية إدارة أمور الأسرة المالية، ومحاولة إيجاد بدائل وحلول للأزمات المادية حتى يكونوا أكثر قدرة على تحمل المسؤولية.
الصفات التى نطلقها على أبنائنا هى التى تتحقق فيهم، فإذا وصفت ابنك بالكذب سيكون كاذبا بالفعل، لأنه يعلم أنك لن تصدقه إذا قال الحقيقة، وإذا مدحته ووصفته بالرجولة وتحمل المسؤولية فسيكون كذلك حتى يثبت لك دائما أنك على حق، فاطلق على ابنك ما تريده فيه، وازرع فيه الثقة بالنفس، وأكد له أنك تثق فيه وفى حكمه وتصرفاته وأخلاقه، قل لابنتك كم هى جميلة ورقيقة وتحدث عن مميزاتها وصفاتها وثقتك فيها، هنا فقط ستتعامل كملكة وستكون أفضل مما تتمنى.
كلنا يفقد أعصابه أحيانا وينفعل على أبنائه، فامسك صمام الأمان دائما، تحدث معهم بعد أن تهدأ، واشرح لهم فى أوقات الصفاء مبررات غضبك، لا تخجل أن تعتذر إذا تجاوزت أو قسوت عليهم، أو فلتت منك كلمة جرحتهم.
شارك أبناءك أحلامهم وطفولتهم وصباهم، العب معهم وحدثهم عن مشاعرك فترة المراهقة حتى يتحدثوا معك عن مشاعرهم، عش معهم عمرهم وتحدث معهم عن كل شىء دون خجل أو حواجز.
ازرع فى أبنائك منذ طفولتهم حب الله قبل أن تخيفهم من عقابه، علمهم تعاليم الدين بالأفعال لا بالأقوال، شاركهم فى العبادات منذ الصغر، قربهم إلى الله بتصرفاتك، شاركهم فى أعمال الخير حتى وإن كانت بسيطة، علمهم أن حب الله يجعلهم يثقون بحكمه وبأنه معهم يسمعهم ويشعر بهم ولا يخيب رجاءهم طالما يثقون فى قدرته ومعيته، وحدثهم عن كرمه وعطائه.
أوقفوا بورصة المزايدات وعودوا لفطرتكم..مفارقة غريبة جمعت بين انتحار البطلة للتخلص من العنف وبين إحياء العالم لليوم العالمى لمناهضة العنف ضد النساء
صدفة غريبة تلك التى جمعت بين إحياء ذكرى اليوم العالمى لمناهضة العنف ضد النساء والفتيات فى الخامس والعشرين من نوفمبر، وبين تطورات قضية البطلة ريم مجدى، وكأن الصغيرة أرادت لنفسها- دون قصد- أن تكون أيقونة هذا اليوم الذى يدعو فيه العالم لمناهضة العنف ضد المرأة، فقدمت روحها أضحية لتكون صرخة فى وجه كل أب وأم، كى ينتبهوا إلى أن كلمات تعنيف بسيطة على مدى أعوام قد تتسبب فى ضغط وانفجار كبير.
الفتاة الصغيرة التى لم تكمل عامها الخامس عشر، استطاعت بمهارتها وجهدها تحقيق بطولات عالمية، وفى نفس الأعوام القليلة أيضًا تعرضت - على ما يبدو - لضغط وعنف كبيرين، دفعاها للتخلص من حياتها دون تفكير، إذا أردنا أن نكون أكثر دقة، فهى أرادت التخلص من الضغط والعنف الذى مارسه والدها ضدها على مدى أعوامها القليلة، وهى تتقبل وتتحمل وتحقق بطولات لا نعلم إن كانت حققتها لترضيه، أم كان ذلك حلمها بالفعل، لكنها وفى لحظة لم تعد تتحمل كلمات والدها العنيفة، لأن مستواها فى التمرينات لم يرضه، فعنفها وصفعها على وجهها، وحتى لو كانت الضربة خفيفة، لكنها نزلت كالصاعقة فى جسدها وعقلها على منطقة مليئة بالألم، فلم تتحمل الصغيرة، وقفزت من السيارة لتنهى هذا التعنيف وتنتهى معه حياتها.
لن أدافع هنا عن والد البطلة الشهيدة بإذن الله تعالى، وأيضًا لن أتهمه، فهو أب يحب ابنته أكثر من أى مخلوق، ويريد لها الكمال، ويريدها أن تكون أفضل من على الأرض، وأيًا كانت طريقته للوصول إلى هذا، فهى الطريقة التى استقر ضميره لأنها الأمثل والأصلح لها، وهنا يجب التأكيد على أنه لا يحق لأحد أن ينصب نفسه قاضيًا أو محللًا أو فيلسوفًا، ويزايد على الرجل وطريقته فى تربية ابنته حتى لو كانت خاطئة، وحتى لو أدت لوفاة الطفلة.
بالطبع هو أخطأ لأنه لم يستطع التحكم فى انفعالاته، ولم يدرك متى كان عليه التوقف عن تعنيف الصغيرة، والرجل هنا سيحاسبه القضاء وفقا للقوانين، لكن هل يستطيع أحد منكم تخيل ما يشعر به الأب الذى ماتت ابنته بسببه.. أنا أتخيل أنه يود أن يدفع عمره كاملًا مقابل أن يعود بالزمان لأيام، ليقبل رأس ابنته ويحتضنها، ثم يموت بعدها، هو قطعًا لا يهتم بما سيواجهه حتى لو كان الإعدام، لأن الموت أهون عليه ألف مرة مما يشعر به بسبب فقدان ابنته البطلة، الغالية على قلبه، والتى فعل ما فعل بها لتكون امتداده على الأرض.
لا تلوموه، فهو أب محب، أراد لابنته أن تكون بطلة وقوية وصامدة ومتحققة، وقام بتربيتها وفقًا للطريقة التى رأى أنها الأصح والأفضل، وهذا شأن كل أب، يعنّف فى موقف يرى أنه يجب فيه التعنيف، ويحتضن فى موقف آخر لا يرى سبيلًا للتعامل معه سوى الاحتضان، يستخدم القسوة والحنية وفقًا لفهمه، والمقصد من الاثنين هو الأصح من وجهة نظره للطفل، وهذا شأن كل أب وكل أم، لكن يجب أن يكون هناك درس مستفاد، وهنا الدروس كثيرة، أولها يجب أن يفكر كل أب وأم بطريقة الابن أو الابنة، بعقل صغير، بالطبع يجب ألا يملى عليكم أحد طريقة محددة للتعامل معهم، لكن راقبوا أنفسكم جيدًا، واعلموا أن قلوبهم وعقولهم لم تنضج بالشكل الكافى، ولا تضغطوا عليهم لتنضج، لا تدفعوهم غصبًا لتحقيق ما فشلتم أنتم فى تحقيقه، ولا تجبروهم على شىء مهما كان فيه الصالح لهم «من وجهة نظركم»، دعوهم يختارون رياضتهم المفضلة، ومهنتهم التى يريدون، وأصدقاءهم، ونمط حياتهم، دعوهم يختارون لأنفسهم الوقت والمكان المناسبين لفعل ما يحلو لهم، وتدخلوا فقط فى أوقات الخطر.
أغلقوا باب المزايدات التى حولت الأب لدراكولا وقاتل محترف يستحق الشنق فورًا، لتتطور المزايدات على الآباء عمومًا، والطريقة الخاطئة التى يربون بها الأبناء، ووصلت إلى المزايدات بأن المجتمع جاهل ومتخلف، الذى يتكاثر فيه الرجال والنساء كالحيوانات، وينجبون الأطفال دون دراية بالطريقة الصحيحة للتعامل معهم، دون تفهم لنفسيتهم، لذا فنحن مجتمع مريض لا يصلح لتربية الأطفال.. توقفوا عن المزايدة، وتذكروا أن الله عز وجل حينما خلق آدم وحواء لم يعطهم «كتالوجًا» جاهزًا يشرح الطريقة المثلى لتربية الأطفال، وتركهما لفطرتهما، فهما بشر ونحن بشر، نصيب أحيانًا ونخطئ أحيانًا، وندفع ثمن أخطائنا كبيرًا وباهظًا، مثلما سيدفع هذا الأب.
الاضطرابات التى تصيب الأطفال والمراهقين نتيجة ضغط السلطة الأبوية وفرض الأمر الواقع.. الأسرة هى مصدر الأمان والثقة بالنفس.. والضغوط تمنع النمو العقلى وتضعف الجهاز المناعى
الضغط الذى تمارسه الأسرة على الأطفال والمراهقين، واستعمال السلطة الأبوية لتحقق رغبات الآباء دون النظر لما يريده الأبناء، تنعكس على شخصية الطفل والشاب وتعامله مع الحياة.
تقول الدكتورة هبة عيسوى، أستاذ الطب النفسى بجامعة عين شمس، زميل الجمعية الأمريكية لطب نفس الأطفال والمراهقين، الأسرة هى المصدر الأول للرعاية والحنان والحب، والدعامة الأساسية للشعور بالأمان، والاستقرار الأسرى يمثل اللبنة الأولى للثقة بالنفس والتعامل مع ضغوطات الحياة، وبهذه الرعاية ينتقل الطفل والمراهق إلى مرحلة النضوج، بقوة دافعة للإنجاز والتفوق.
ولكن إذا لم تأت الرياح بما لا تشتهى السفن، وأصبح العنف والإهانة والضغوط نابعة من الأسرة نفسها، انقلبت حياة الطفل أو المراهق وأصبح فريسة للاضطرابات النفسية، قصيرة وبعيدة المدى.
والضغوط الحادة والمزمنة التى تمارس ضد الأطفال والمراهقين من أقرب الناس غالبا ما تؤدى إلى تعطيل النمو العقلى، ويمكن أن تصل إلى الأعصاب وتضعف الجهاز المناعى، وتصيبهم بالاضطرابات ومنها:
الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب والفزع، والشعور بالنقص والغيرة والحقد والخجل والاستغراق فى أحلام اليقظة، والشعور بالذنب والخوف.
الاضطرابات الجسمية مثل فقد الشهية والاضطرابات المعوية والإخراج والوظائف الحركية والحواس والتبول اللاإرادى، علاوة على اضطرابات تأخر الكلام والتلعثم والثأثأة وقضم الأظافر ومص الإصبع.
اضطرابات النوم المختلفة، مثل المشى أثناء النوم والبكاء قبل النوم أو أثناء النوم ومص الأصابع أثناء النوم وكثرة النوم والأحلام المزعجة والمخاوف الليلية وقرض الأسنان أثناء النوم.
اضطرابات سلوكية مثل الكذب والسرقة والانحرافات الجنسية.
ويعد التأخر الدراسى الآثار التى تترتب بسبب الضغوط النفسية على الطفل أو المراهق.
وتقسم الدكتورة هبة عيسوى، الضغوط التى تقع على الأطفال والمراهقين إلى أنواع:
الضغوط الإيجابية Positive stress:
وهى الناجمة عن الخبرات غير المناسبة التى يتعرض لها الأطفال، وعادة ما تكون مدة بقائها قصيرة.مثل أن يقابل الطفل أشخاصا غرباء، أو حينما تؤخذ منه لعبته. يسبب هذا النوع من الضغط تغيرات فسيولوجية مثل زيادة ضربات القلب وتغيرات فى مستويات إفراز الهرمونات. وبقليل من المساندة لهذا الطفل من الوالدين يمكنه تعلم كيفية إدارة هذا النوع من الضغط والتغلب عليه.