دمياط.. دماء على ماكينات النجارين.. 15 ألف صانع يعانون من بتر أطرافهم بسبب تهالك الآلات.. وعدم وجود مستشفى متخصص يفاقم الأزمة «الحلايا» تتسبب فى فرم 8 أصابع من أيدى جمعة.. و«الربوب» تصيب كف مرسى

على مقعد خشبى يجلس جمعة محمد، 40 عاما، أمام ورشته الخاصة بأعمال النجارة، بعدما فقد ثمانية من أصابع يده بواقع أربعة أصابع لكل يد، لا يكتفى صاحب الورشة بتوجيه العاملين بل يهم أيضا للمساعدة فى حال غياب «الصنايعية» أو فى حال وجود ضغط عمل، حتى لا تتعطل مسيرة العمل. فى مدينة دمياط التى اشتهرت بكونها قلعة صناعة الأثاث، حيث 120 ألف مصنع وورشة تخرج سنويا لسوق الأثاث آلاف القطع المتميزة لا يجب أن تتوقف الآلات، ولا يلتفت أحد للدماء التى تتساقط بجوار الماكينات المتهالكة لصناع يدفعون يوميا ثمن مهنة كانت يومًا درة الصناعات فى مصر. ما بين الآلات التى تهالكت وبين الرعاية الصحية التى لا تعرف «التخصص» وتنتظر ميزانيات وزارة الصحة فى العاصمة، ماكينات صناعة الجمال فى دمياط تلتهم أصابع أبنائها بلا رحمة. أمام ورشته الصغيرة يجلس ليحكى لنا قصة بتر أصابعه الثمانية وكأنها أمر عادى رغم مراراتها وآلامها يقول جمعة: «كنت أعمل على ماكينة «الحلايا» من أجل تجهيز أحد قطع الأثاث لغرفة صالون قبل نحو أربع سنوات تقريباً، بمجرد أن التفت عنها كانت الدماء تسيل بغزارة، والأصابع تكسرت، وتهتكت أوتارها وأعصابها». ويضيف: «الورشة لا تبعد كثيراً عن مستشفى الأعصر، أسرعت إليه لإنقاذ ما تبقى من أصابع يدى إلا أن الخدمة الطبية لم تكن على المستوى المطلوب فلا توجد إسعافات سريعة، ولا قسم متخصص لعلاج إصابات اليد، مضيفاً: «لم يكن هناك حل سوى البتر ومن شدة الألم لو كانوا طلبوا بتر الذراع لوافقت وقتها». «الحلايا» ماكينة فرم الأصابع فى أغلب ورش النجارة التى تعمل بدمياط تتعدد الماكينات المستخدمة فى صناعة الأثاث الدمياطى، لكن أشهرها وأخطرها هى ماكينة «الحلايا» التى تستخدم فى تهذيب دوران أثاث غرف الصالون والأنتيكات، وماكينة «الربوب» التى تستخدم فى مسح وترويس الخشب، و«المنقار» المستخدمة فى نقر الأخشاب من أجل تجميعها، بالإضافة إلى المنشار المستخدم فى تفصيل الأخشاب وتقطيعها. وعلى الرغم من خطورة ماكينة الحلايا فإن العاملين عليها لم يتلقوا أى تدريب للتعامل مع مثل هذه الماكينات، ولم يتعرفوا على أساليب الحماية والأمان التى يجب أن يتبعوها أثناء عملهم. يكمل جمعة: «ورثت المهنة عن أجدادى، واكتفيت بما تعلمته منهم من حيث كيفية إخراج قطعة الأثاث بشكل يبهر أعين الزبائن، وقتها لم أهتم بأى سلامة شخصية خاصة أننى لم ألتحق بأى مرحلة تعليمية». وعن التأهيل الحكومى لصناع الأثاث يقول جمعة: لم نسمع من قبل عن عقد أى دورات تدريبية تأهيلية للتعامل مع هذه الأنواع الخطيرة من الماكينات، ويضيف: كما لم نسمع عن أى تأثير للغرفة التجارية التى من المفترض أن توفر لأعضائها من الصناع التدريب والتأهيل، والعمل على حل المشكلات التى تواجه هذه المهنة. ويعترف جمعة بأن ليس عدم التأهيل فقط الذى يتسبب فى الإصابات المتكررة لصناع الأثاث، وإنما الاستهتار الذى أحيانا يتعامل به الصانع مع الماكينات. 15 ألف إصابة بحسب عصام محمد عوض، عضو الغرفة التجارية بدمياط، والمدير التنفيذى لجمعية تنمية صناع الأثاث بالمدينة، فإن أعداد المصابين بجراحات اليد فى المدينة تصل إلى 15 ألف صانع بما يتراوح ما بين 8 - 10 % من إجمالى عدد صناع الأثاث بالمحافظة، ولا تقدم الرعاية الصحية اللازمة لهم، والتى تلعب دورا كبيرا فى إسعاف الحالات فور وقوع الحادث، مشيراً إلى أن دمياط تضم نحو 120 ألف مصنع وورشة صغيرة مسجلة وغير مسجلة. وتابع: «الإصابات مختلفة ما بين بتر عقلة إصبع أو بتر عدد من أصابع اليد أو كف اليد أو الذراع بالكامل أو الذراعين، بالإضافة إلى عدد من الإصابات الأخرى فى الوجه والعينين». 120 ألف ورشة بلا رعاية بحسب إحصائيات رسمية فإن الغرفة التجارية بدمياط، قدرت عدد الورش الصغيرة العاملة فى المحافظة بنحو 37 ألف ورشة مسجلة، وحاصلة على سجل تجارى وبطاقة ضريبية حسب حصر عام 2010، و20 مصنعا كبيرا للأثاث، يعمل بها 500 ألف عامل، وتنتج 80% من الأثاث على مستوى الجمهورية، وتستهلك 70% من الأخشاب الواردة إلى مصر، إلا أن أعداد الورش تزيد حتى وصل إجمالى أعداد الورش المسجلة وغير المسجلة إلى نحو 120 ألف ورشة. لم يختلف حال سعيد مرسى، صاحب الـ58 عاما، عن سابقه، حيث فقد ثلاثة من أصابع يديه اليمنى أثناء عمله على ماكينة الربوب، ويوضح: «وقت الإصابة كانت إمكانيات المستشفى الأميرى ضعيفة للغاية»، قائلا: «ذهبت إلى المستشفى ومعى أحد الأصابع وقتها قال لى الأطباء إنه يصلح للإعادة إلى اليد مرة أخرى لكن إمكانيات المستشفى لا تؤهلنا لذلك، ويجب الذهاب إلى الزقازيق، وأمام رفضى للتحويل إلى مستشفى الزقازيق اكتفى أطباء المستشفى بمعالجة الأصابع التى تم كسرها أثناء الإصابة. وبحسب «مرسى» فإن أسباب تعدد الإصابات تعود بالدرجة الأولى إلى قدم الماكينات الموجودة بأغلب ورش صناعة الأثاث بدمياط، مشيرا إلى أن تاريخ تصنيع معظم معدات الورش يعود إلى منتصف الثمانينيات والتسعينيات، ويكمل: «لو مسمسار واحد فك أثناء عملها فإنها تتحول إلى أداة قتل لمن يعمل عليها». خطورة «الحلايا» جعلت الإصابات الأخرى حتى لو كانت جروح المناشير الخطيرة أكثر قبولاً!! فيقول «مرسى»: إلا أن إصابات المنشار تكون أخف ضرراً، ويتسبب فقط فى قطع عقلة من الإصبع أو عقلتين على خلاف الربوب والحلايا حيث يصبح بتر إصبع واحد هو أقل وأخف أضرارها. مرسى الذى يعول أسرة مكونة من خمسة أبناء لا يتجاوز معاشه نتيجة الإصابة سوى 250 جنيها، موضحا أن يد النجار رأس ماله، وإصابتها تفقد صاحبها الكثير من مهارته فى العمل، حيث يعمل بنصف طاقته الإنتاجية ويضطر أيضا لتشغيل صنايعيه بما يكلفه شهريا مبلغ كان هو أولى به فى حال عدم إصابته. وعن التدريب الذى يتلقاه الطلاب فى مدارس التأهيل المهنى يقول مرسى التدريب فيها نظرى «شغل ورق يعنى»، ولا يؤهل أصحابه إلا بنسبة لا تتجاوز 10% فقط مما يحتاجه سوق العمل. غياب مستشفى متخصص لعلاج الأطراف المبتورة فى دمياط «لم نسمع عن تجهيز وحدة لعلاج الأطراف بمستشفى دمياط التخصصى إلا قبل عدة أسابيع قليله»، هكذا يقول أسامة مسعد 21 عاما، نجار، مشيرا إلى أن عدم وجود مستشفى متخصص فى علاج الأطراف وإصابات اليد بدمياط يتسبب فى تأخر تلقى المصاب للعلاج بما يجعل البتر هو الحل الوحيد. ويتابع: بعد إصابتى كانت عقلة أصبع يدى اليمنى مازالت عالقة، لكن الدكتور استسهل الوضع وبترها بدلا من القيام بعلاجها، على عكس ما حدث معى فى الإصابة الثانية التى تعرضت لها مؤخرا فى اليد اليسرى حيث استطاع الطبيب المعالج لحام العقلة فى الإصبع مرة أخرى. ويؤكد مسعد أن جميع الورش غير مؤهلة، ولا تضم أى ضمانات للإسعافات الأولية ولا يتوافر فيها أى من مستلزمات الأمن الصناعى، كما لا يحصل العاملون فيها على أى تدريب. ماكينات متهالكة ويفسر عصام محمد عوض، عضو الغرفة التجارية، أسباب تزايد الإصابات بسبب قدم الماكينات وتهالكها، مضيفا: كلما زادت درجة حداثة الماكينات قلت نسبة الإصابة، متابعا: فى الخارج بعد مرور خمس سنوات من تشغيل المعدات تجبر الحكومات أصحاب المصانع على التخلص منها والعمل على إدخال معدات حديثة لتحديث الصناعة وتطويرها والحفاظ على صحة العاملين. وأضاف: طالبنا وزير التجارة والصناعة بتوفير ورش تدريبية دائمة داخل محافظة دمياط لتوفير فرص تدريبية لتأهيل العمال الجدد خريجى مدارس الصنايع، بالإضافة إلى توفير فرص تدريب للعمال الحاليين على النظم الحديثة لتطوير أدواتهم، لكن لم يتم الرد علينا حتى الآن، ويشدد على وجود الورش التأهيلية سيزيد من فرص نجاح مدينة الأثاث المقرر افتتاحها فى الأشهر المقبلة. وعلى الرغم من العدد الضخم المصاب بإصابات اليد فى دمياط فإن الرعاية الصحية لا تزيد عن «الصفر» بحسب ما يقول «عوض»، موضحا أن الوحدة التى تم افتتاحها، مؤخرا، بمستشفى دمياط التخصصى تعمل بالجهود الذاتية لمدة يومين فقط فى الأسبوع دون أن يكون لها ميزانية ضخمة تكفى لاستقبال حالات عدة بشكل يومى، مطالبا محافظ دمياط بضرورة دعم بناء مستشفى متخصص لعلاج جراحات وإصابات اليد بدمياط التى تحتل صدارة الترتيب العالمى فى معدل إصابات اليد. قسم متخصص بلا تجهيزات اعترف الدكتور إسماعيل الحفناوى، نائب مدير مستشفى دمياط التخصصى بوجود نقص فى الرعاية الصحية المقدمة للمصابين، على الرغم من أن دمياط سجلت النسبة الأعلى عالميا فى إصابات اليد، ويضيف الحفناوى: «هذا النقص جعلنا نفكر فى تخصيص قسم فى المستشفى لعلاج هذه الإصابات، وبالفعل تم العمل بهذا القسم قبل ثلاثة أشهر تقريبا، إلا أنه ما زال يعانى من نقص شديد فى الإمكانيات الطبية، حيث يعمل يومان فقط خلال الأسبوع، بطاقة أربعة أطباء فقط». الدكتور أحمد الطاوسى، المسؤول عن قسم جراحة إصابات اليد بمستشفى دمياط التخصصى يؤكد أن القسم خلال ثلاثة الأشهر الأخيرة استقبل 240 حالة بمعدل 2.6 حالة يوميا، وينقسم هذا العدد إلى ثلاثة أنواع، بحسب الطاوسى، الأول: حالات صغرى إصابات أطراف الأصابع ويقدر عددها بنحو 130 حالة وكلها لصناع أثاث، النوع الثانى: جراحات متوسطة وتشمل إصابات الأصابع واليد ويقدر عددها بحوالى 70 حالة وأيضا كلها لصناع أثاث، أما النوع الأخير فهو جراحات كبرى وهى قطع كامل لأوتار وأعصاب وشرايين الساعد والرسغ ويقدر عددها بـ40 حالة منها نسبة تتراوح ما بين 10-20 % ممن يعملون فى ورش الأثاث. ويتابع: «ينقصنا الكثير من المعدات مثل تورنيكيه هوائى لإيقاف النزيف أثناء العمليات الجراحية، وأيضا نظارة معظمة، وموتور جراحات التجميل، وترابيزات وكراسى خاصة بجراحات اليد، بالإضافة إلى مساكات الأيادى، وأيضا الميكروسكوب الجراحى». ويكمل: «قبل أن يتم التفكير فى تدشين القسم بمستشفى دمياط التخصصى كان يتم تحويل المرضى إلى مستشفى المنصورة، ومنها إلى مستشفى الزقازيق بمحافظة الشرقية، وكل من استقبلتهم أثناء عملى بمستشفى الزقازيق من دمياط يعملون فى مهنة صناعة الأثاث». وعن اللجوء إلى بتر الأطراف كحل من قبل الأطباء المعالجين يقول «الطاوسى»، إن أقصى وقت يمكن علاج المصاب خلاله 6 ساعات تقريبا، والمسافة التى يقطعها المصاب من ورشته إلى مستشفى دمياط ثم إلى مستشفى المنصورة ومنها إلى مستشفى الزقازيق تستغرق نحو 3 ساعات ونصف الساعة تقريبا، بالإضافة إلى الوقت المستغرق فى التحضير للعملية، وهو ما يعنى أن البتر ليس بسبب تكاسل الأطباء». وشدد الدكتور إسماعيل الحفناوى، نائب مستشفى دمياط التخصصى، على وزارة الصحة بضرورة توفير المعدات الطبية اللازمة لتشغيل الوحدة واستمرار عملها خلال الأسبوع، فى ظل تزايد هذه الإصابات بدمياط، مشيرا إلى أن «الخطر يمتد إلى الأطفال العاملين مع ذويهم بهذه الورش». ويشير نائب مدير المستشفى إلى أن الاعتمادات المالية الحكومية المخصصة للمستشفى من قبل المحافظة لا تمكنهم من استمرار العمل بالوحدة طوال الأسبوع، فلذلك يتم تخصيص العيادة الخارجية يومين فى الأسبوع، على أن يتم استدعاء الفريق الطبى بالوحدة فى حالة وجود حالات جراحة يد بالطوارئ، مضيفا أن كفاءة الوحدة تصل إلى 80% فى ظل العجز الشديد التى تعانى منها.






الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;