فى العاشرة والنصف صباح اليوم الأحد، خيم شبح الموت على ميدان العباسية، جاء عزرائيل متوعدًا، انتقى من الأحياء من يصلح لارتداء عباءة الشهداء، من يليق بالموت فى الصلاة.
"لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض" يقول الشهداء فى قداس الأحد، فيأخذهم الله إلى السماء كما طلبوا، الموت راحة من كل شر، والفراق ألم يتجدد بالوقت، فالموت لا يوجع الموتى بل يوجع الأحياء كما يقول محمود درويش.
فى مستشفى دار الشفاء المواجهة للكاتدرائية، كان طاقم التمريض والأطباء يمارسون عملهم الطبيعى، يتفقدون الغرف، ويمنحون المرضى الأدوية فى مواعيدها قبل أن يضرب صوت الانفجار جدول يومهم.
المشهد الأول
على باب المستشفى، كانت "أم مارينا" تطوى الأرض طيًا تحت قدميها، تصرخ فى هلع "بناتى الاتنين"، الاتنين يارب، وكانت ملابسها المتسخة توحى بأنها سقطت فى الطريق مرات عديدة قبل أن تنتصب ألفًا أمام ثلاجة الموتى، فتفتح لها الممرضة بصمت، يمر الدرج الأول فى ثلاجة الموتى بسلام، تصرخ السيدة "الحمد لله"، تواصل الممرضة وتفتح الدرج الثانى وجه مارينا يكسوه الدماء وحفنة من التراب تعلو عينها اليسرى تصرخ الأم فى هلع "يا مارينا يا مارينا"، وتنتظر فى خوف ورجاء باقى أدراج الثلاجة وهى تمنى نفسها بنجاة أبنها الصغرى فتراها فى الدرج قبل الأخير ممزقة بنصف وجه.
تسقط السيدة على الأرض، وتصرخ بهستيريا يارب أنا مش قد التجربة، كان نفسى أفرح بيهم، ياريتنى ما خليتهم ينزلوا، يالهوى ياربى، وتسقط فى نوبة بكاء لا تفيق منها إلا بعدما تحقنها الممرضة بالمهدئ.
المشهد الثانى
أمام نفس الثلاجة وقف رجل أربعينى بملابس يخضبها الدم، وأثر التراب يملأ وجهه، ينقل أمه الشهيدة من غرفة العمليات إلى ثلاجة الموتى وهو يضرب الحائط بيديه "كله إلا الموتة دى"، "ليه كدا بس يارب".
المشهد الثالث
شاب وأخته يحتميان بالحائط ويناديان أمهما "يا ماما ردى علينا"، يا ماما روحتى فين"، يحاول الشاب احتضان أخته التى تركله بساقيها وتفرك عينيها بأمل "أنا أكيد بحلم وماما هترد عليا".
المشهد الرابع
الطفلة ماريا تدخل غرفة الاستقبال على كرسى متحرك، إصابتها بسيطة فلم يطولها من الانفجار سوى كسر فى يدها اليمنى، إلا أن تجربة انفجار القنبلة قد تأتى على طفولتها وسنها الصغير، صرخت فجأة وسألت والدها "أنا كنت رايحة أصلي ليسوع.. ليه حصل كدا"؟، ما كان من الأب الباكى إلا أن احتضن ابنته وطمأنها وشكر "يسوع" على عودتها حية من رحم الانفجار.
المشهد الخامس
تدخل سيدة مسيحية مع جارتها المسلمة ليبحثا عن "سامية" شقيقة الأولى التى ذهبت للصلاة فى كنيستها البطرسية ككل أحد كما اعتادت أسبوعيًا، تحاول الجارة المحجبة أن تأخذ بيد شقيقة سامية فتفتش معها فى قوائم غرفة العمليات، وقوائم الشهداء حتى يأتيها هاتف يبلغها أن شقيقتها انتقلت إلى السماء فى مستشفى آخر وعليه الذهاب لاستلامها، هنا تفقد السيدة أعصابها وتسقط مغشيًا عليها على الأرض وسط محاولات من طاقم المستشفى إسعافها.