حالة من الضبابية عاشتها المنطقة العربية منذ قدوم ما أسموه زورًا "الربيع العربي"، والذى كره المصريون لونه ورائحته فأطلقوا عليه واقعًا "الخريف العربى"، بعد أن أدرك الشعب المصرى أركان المؤامرة على المنطقة العربية برمتها، فكانت ثورة 30 يونيو هى رصاصة الرحمة التى أطلقتها مصر على هذه المؤامرة وكل شبكاتها، وطرحت أرضًا بانتصار ساحق لكل حروب الأجيال حتى حروب الجيل الخامس، هذه المؤامرة التى حيكت فى إحكام هناك بمعرفة ساكنى البيت الأبيض والبنتاجون ووزارة الخارجية وجهاز الاستخبارات الأمريكية، واستخدموا فيها كل أصحاب المصالح والخونة فى البلاد العربية، فسقطت تونس، وليبيا التى تحولت إلى أشلاء، واليمن التى تقطعت أوصالها، وسوريا التى ما زالت تقاوم السقوط، وكادت أن تسقط مصر لولا يقظة رجالها وقواتها المسلحة وشعبها الذى يتخلص دومًا من أدرانه ثم يعود قويًا.
استخدم الغرب تحت قيادة البيت الأبيض أجهزة مخابرات فى المنطقة، ووسائل إعلامية وشخصيات يتنقلون عبر الشاشات والصحف ليمارسوا دور الخيانة مقابل "صرة الدولارات"، فليس هناك من لا يعرف الدور القذر الذى قامت به قناة الجزيرة القطرية فى هذه المؤامرة على كل الدول العربية تحالفًا مع الكاهن الأكبر الساكن فيما وراء البحار، دور وصفه المراقبون تارة بالخائن، وأخرى بالرديء وأحيانًا بالمتآمر، فأدركنا أن قطر تقوم بخدمة سيدها، وراح حكامها يقدمون فروض الولاء والطاعة لأسيادهم فى أمريكا وإسرائيل.
وعندما حطمت مصر هذه المؤامرة جن جنون البيت الأبيض وكل ساكنى بيوت الحكم الذين كانوا ينظرون إلى خراب المنطقة العربية على أنه التحول الديمقراطى، وراحت قطر ومعها هذا الأردوغان الذى يعيش أوهام الزعامة باعتباره الحاكم العثمانى وخليفة المسلمين الجديد راحوا يناصبون الدولة المصرية العداء، والهجوم المتواصل على مصر قيادة وشعبًا، فى محاولة لتأليب الشعب على قادته، دون أن يدركوا أن الشعب هو الذى يحمى ثورته ويدافع عنها.
وقد حاول الإخوان إبان صعودهم للسلطة فى مصر فى يوم هو الأسوأ على مدار تاريخها جر مصر إلى مستنقع الحرب فى سوريا لتحارب إلى جانب الإرهابيين والمتطرفين، وكان ذلك يعنى أن تتحول مصر إلى ذراع تدميرية للقوة العربية فى خدمة مجانية لأصحاب نظرية المؤامرة، إلا أن الشعب المصرى فى إطار فهمه للواقع العسكرى والسياسى والاستراتيجى للمعركة العالمية التى تدور رحاها بالوكالة فى سوريا، أعاد القرار الوطنى المصرى من الاختطاف على يد إخوان الإرهاب، وتعدلت المفاهيم وتغيرت المسارات المصرية بشأن سوريا.. رغم حالة الضبابية التى كانت تسيطر على ساسة المنطقة وهو الأمر الذى نفرق عنده بين قادة يستطيعون قراءة الأحداث والتعاطى معها وبين أولئك الذين يديرون معاركهم بعقلية الساكن فى الصحراء، وهو الأمر الذى يظهر جليًا من خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الذى أوضح فيه رؤية مصر عن تلك الأزمة عندما انتقد عدم تحقيق أى تقدم حتى الآن فى مواجهة جوهر المشكلة، وهو غياب الحل السياسى العادل والشامل الذى يلبى التطلعات المشروعة للشعب السورى، وكانت أقوى العبارات التى قالها إنه «لا مكان للإرهاب فى سوريا»، و«لا مجال لأى محاولة لتجميل صور التنظيمات الإرهابية»، وأيضًا قوله إن كل من يراهن على حسم عسكرى يفضى لغلبة فريق واحد فى سوريا هو خاسر، كما أن كل من يراهن على أن تلعب التنظيمات الإرهابية دورًا فى مستقبل سوريا واهم.
هذه الرؤية نتاج خبرة مصر العسكرية الطويلة، فهى التى وعت خطط الحروب فى معارك طويلة خاضتها، وهى التى وعت أن ما يدور فى سوريا هو جزء من المخطط الشامل لتفجير المنطقة وإهلاكها، وهى التى أدركت ألا مكان للإرهاب فى سوريا، وأن الجماعات والتنظيمات المتشددة والإرهابية إلى زوال، وهى التى أدركت خطورة الفراغات الناشئة من سقوط الدول لصالح التنظيمات المتطرفة، وهى التى ترفض عبر تاريخها أن تكون طيعة فى يد من يحمل فى يده وعقله قنبلة بقصد تدمير الأوطان، وهى التى حذرت مرارًا من خطورة هذه الجماعات التى تديرها أجهزة مخابرات فى المنطقة، وهى التى استنبطت نتائج هذه المعركة على الأرض العربية من خلال تاريخها الطويل فى مكافحة الإرهاب، فكان قرارها الذى بنى على حقائق ووقائع أن تكون مع وحدة الشعب السورى.. وهو الفارق الكبير بين من يديرون قرارهم بحس وطنى وعقلية ثاقبة، ومن ينزلقون فى المتاهة ربما عن دون وعى، أو بقلب مملوء بالحقد على كل دولة لها رصيد كبير من الوجود والأهمية والتاريخ.
ورغم أن مصر حذرت من سيناريو مروع على خلفية هذه الأزمة إلا أن أطرافًا خليجية انزلقت حيث المتاهة ظنًا من ساستها أن الغلبة للجماعات المتشددة فى سوريا، وقامت قطر من خلال قناة الجزيرة بدور مشبوه ظنًا منها أنه يمكن أن يحدث فى سوريا ما حدث فى ليبيا التى شرذموها، ومن قبلها العراق التى تئن، وأيضا أفغانستان التى تحاول لملمة أشلائها من بعد ذبحها بدم بارد، والفارق بين قطر وبعض الأطراف الخليجية الأخرى فى هذا الشأن أن قطر تمارس دور المؤامرة، أما الأطراف الأخرى فقد رأتها حربًا مذهبية فى مواجهة المارد الإيرانى الذى أعلن موقفه بالوقوف إلى جانب بشار الأسد، وباتت الخسارة فادحة لبعض الأطراف الخليجية، من بعد خسارة تحققت فى اليمن، فلم تجد وسيلة تهرب بها من هذه الخسارة التى منيت بها فى الأراضى السورية عسكريًا وأخلاقيًا وسياسيًا غير الهجوم على مصر بسبب تأييدها للقرار الروسى فى مجلس الأمن بشأن الحل السلمى فى سوريا، وكأن التأييد المصرى للقرار الروسى هو الذى غير معالم المعركة على الأرض السورية وحولها لصالح النظام السورى.
وأنفقت هذه الأطراف الخليجية أموالاً طائلة لدعم المتطرفين فى سورية، وباتوا فى خندق الغلو والتطرف بسبب سوء تقدير ساستهم للموقف على الأرض، ولم ينصتوا للقيادة السياسية المصرية التى حاولت كثيرًا أن تعلن لهم مغبة الانزلاق فى وحل المعركة فى سوريا، ورغم كل الدعم الذى قدموه لهذه الجماعات فإنهم أصبحوا الآن خارج المعادلة فى سوريا، حيث ينعقد اليوم فى العاصمة الروسية "موسكو" مؤتمر يضم روسيا إيران وتركيا لبحث الأزمة السورية..