تسارعت خلال الأسبوع الأخير من 2016 وتيرة الأحداث الدولية والإقليمية، بشكل لم يتوقعه أحد، فالمقاعد تبدلت، والأماكن تغيرت والمعادلات السياسية أصبحت أكثر قبولاً للواقع، من جانب دول كانت تعتبر رأيها هو الأصح، وأن سياستها هى الأقرب للواقع .
أسبوع واحد شهدنا خلاله انقلاب أمريكى على الحليف الإسرائيلى، وامتناعها على استخدام حق الفيتو ضد قرار مطروح على مجلس الأمن يدين الاستيطان الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وبعدها انقلبت تركيا على الولايات المتحدة، وانضمت إلى مفاوضات روسية إيرانية لحل الأزمة السورية، انتهت إلى التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار فى سوريا، ثم ختم الأسبوع باتخاذ واشنطن خطوة مفاجئة، بإعلانها طرد 35 دبلوماسياً روسياً من أراضيها، وفرض عقوبات على روسيا طالت بعض الشركات، والأجهزة الأمنية، وقيادة القوات المسلحة الروسية وذلك على خلفية مزاعم بشأن "تدخل روسى" فى انتخابات الرئاسة الأمريكية.
هذا الأسبوع يعد الاكثر إثارة، وأيضاً أسبوع الانقلاب على كل الثوابت، فضلاً عن البحث عن المصالح الخاصة بكل دولة، فالتحرك الأمريكى الأخير ضد روسيا، ومن قبله عدم استخدام الولايات المتحدة للفيتو لصالح إسرائيل فى الأساس يعد محاولة من إدارة أوباما لتوريط دونالد ترامب الذى سيتسلم الرئاسة الأمريكية رسمياً فى 20 يناير المقبل، فإسرائيل هى حليف مستقبلى لترامب، كما أن روسيا تحظى باهتمام الرئيس القادم للبيت الأبيض، فجاءت الخطوتان لتعقد الأمور أمام ترامب الذى أبدى غضبه من تصرفات أدارة أوباما الأخيرة، وهو ما طرح فكرة لجوئه إلى إلغاء كل قرارات الإدارة الحالية.
بالتأكيد فان هذا الطرح لازال موجوداً على الطاولة، خاصة فى الجانب المتعلق بالعلاقات الامريكية الروسية، التى يريد ترامب أن تشهد انطلاقة كبيرة فى عهده، وما يدلل قول ترامب "من أجل مصلحة بلادنا وشعبنا العظيم أنا سأعقد لقاء مع قادة استخباراتنا الأسبوع المقبل ليطلعونى على الحقائق بشأن هذا الوضع"، فى إشارة إلى الإتهامات الأمريكية لروسيا بالتدخل فى انتخابات البيت الأبيض، وفرض عقوبات جديدة على موسكو، وكذلك إعلان كيليان كونواى، إحدى مستشارى ترامب أن العقوبات الأمريكية الجديدة على روسيا عبارة عن محاولة من إدارة أوباما لوضع فريق ترامب فى موقف حرج، مؤكدة رغبة ترامب فى دراسة كافة التقارير الاستخباراتية بشأن "الهجمات الإلكترونية"، وأيضاً تأكيد ليزا موناكو، مستشارة أوباما فى شئون مكافحة الإرهاب إن ترامب سيستطيع إلغاء هذه العقوبات بواسطة مرسوم .
وربما يكون الرد الروسى الهادئ على العقوبات الأمريكية محاولة من بوتين لتلطيف الأجواء مع القادم الجديد للبيت الأبيض، فرغم كل التوقعات بأن بوتين سيعامل واشنطن بالمثل وسيطرد دبلوماسيها من موسكو كما أقترحت الخارجية الروسية، إلا أن بوتين فاجئ الجميع وقال إن "لن نطرد أحدا.. لن ننحدر إلى مستوى دبلوماسية غير مسئولة"، حتى وأن أشار إلى احتفاظ بلاده "بحق اتخاذ إجراءات رد".
بعيداً عن التعقيدات الأمريكية الداخلية ومحاولات أوباما عرقلة الأمور أمام ترامب، فالمؤكد أن الداخل الأمريكى يشهد خلافات وتباين فى الرؤى حول الأحداث الأخيرة فى الشرق الأوسط، وهناك مخاوف من أن تفلت الأمور من يد واشنطن أكثر من ذلك، خاصة بعدما أصبح الرئيس الروسى اللاعب الرئيسى فى ملفات كثيرة بالمنطقة، وعلى رأسها الوضع فى سوريا، فبعد 15 شهرا من قيادته تدخلا عسكريا فى الأراضى السورية لمواجهة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش وجبهة النصرة، نجح بوتين الأسبوع الماضى فى التحول الى صانع سلام فى سوريا، بإعلانه الخميس الماضى وقفا لإطلاق النار ومفاوضات سلام مرتقبة بين دمشق وفصائل المعارضة، مقدما نفسه مجددا على أنه اللاعب الرئيسى فى الملف المتأزم، بعد النجاحات الميدانية التى حققها الجيش العربى السورى فى مدينة حلب، وإخلائها من العناصر الإرهابية وإعلان الجيش السورى استعادة كامل السيطرة على حلب، ثانى أكبر المدن السورية، فيما اعتبر أهم نصر استراتيجى له منذ بداية الحرب السورية فى 2011 .
وقف إطلاق النار جاء نتيجة مفاوضات روسية تركية، سبقتها لقاء فى العاصمة موسكو ضم وزراء خارجية ودفاع روسيا وتركيا وإيران، حيث تم خلاله الاتفاق على أطلاق مفاوضات الأستانة بين الحكومة والمعارضة، التى سيسبقها ايضاً مفاوضات بين الأطراف السوريين ستعقد فى الثامن من فبراير المقبل فى جنيف برعاية الأمم المتحدة .
الجديد فى الملف السورى، والذى ربما أربك الحسابات الأمريكية، أن حلفاءها فى المنطقة بدلوا أماكنهم بحثاً عن مصالحهم الخاصة، وأقصد هنا تركيا، العضو فى حلف الناتو، والحليف التقليدى للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، تاركة واشنطن لتتفاوض مباشرة مع حليفى دمشق، روسيا وإيران، متخلية أيضاً عن موقفها المتشدد تجاه نظام الأسد، تحديداً بعد واقعة اغتيال السفير الروسى فى أنقرة الأسبوع الماضى على يد ضابط شرطة قريب الصلة بحزب أردوغان، وهى الحادثة التى غيرت من موقف انقرة، فبدلاً من إصرارها على رحيل بشار الأسد كشرط مسبق لسلام دائم فى سوريا، عادت وقالت أن الأسد هو "أحد اللاعبين" فى سوريا وقد يبقى بشكل مؤقت.
مفاوضات موسكو مثلت لواشنطن ضربة قاضية، لأنها كانت الغائب الأكبر عن مفاوضات تعتبر واشنطن نفسها جزء أصيل من أى حل فى سوريا، حيث سبق لموسكو وواشنطن أن توصلتا إلى هدنة فى سوريا، لكنها سرعان ما سقطت، وحملت الخارجية الروسية الأميركيين مسئولية عدم قدرتهم على إجبار المعارضة السورية المسلحة والمدعومة من واشنطن على النأى بأنفسهم عن الميليشيات الإرهابية، فذهبت موسكو وتركت واشنطن بحثاً عن حلول أخرى، فكان الحل فى المنطقة.
الروس اختاروا تركيا لأنها الدولة الأكثر دعماً للجماعات الإرهابية فى سوريا، فضلاً عن أرتباطها بحدود مع سوريا، وبالتأكيد تلقت أنقرة الرسالة الروسية بسرعة شديدة، وتخلت عن واشنطن وحلفائها الخليجيين وانضمت لروسياً لأنها تريد حماية مصالحها فى سوريا وللاحتفاظ بهامش مناورة فى شمال سوريا، لان اتفاق وقف أطلاق النار لن يقف حائلاً أمامها لكى تواصل هجماتها على المقاتلين الاكراد الذين تعتبرهم أنقرة أكبر مهدد لدولتهم، لذلك كان الموقف التركى برفض مشاركة "وحدات حماية الشعب" الكردية فى مفاوضات السلام.
ما يقلق الأمريكيين أيضاً السعى الروسى للحصول على قرار من مجلس الأمن يدعم أتفاق وقف أطلاق النار الذى يهمش الدور الأمريكى، ويخلق أوضاعاً جديدة فى المنطقة، لكن السؤال الأن ما هو موقف حلفاء واشنطن الآخرين من هذا الأتفاق، وأقصد هنا دول الخليج وتحديداً السعودية وقطر، فالاتفاق لم يشير لهم صراحة، فوفقاً للخارجية الروسية فإن مصر هى الدولة الوحيدة المدعوة لحضور مفاوضات السلام فى كازاخستان، أما بالنسبة لقطر وتركيا فأن أمر دعوتهم مؤجل لوقت آخر، وهو ما أصاب البلدان بخيبة أمل خاصة من الحليف التركى .
بالنسبة للسعودية فمن الواضح أنها تجرى الأن تقييما سريعاً لسياساتها، فاعتمادها على تركيا لم يحقق للرياض ما تريده، بل أنه أفاد تركيا كثيراً، لذلك فأنها تبحث عن مخرج أمن لها من الوضع الذى تتواجد به حالياً .
أما فيما يتعلق بقطر، فربما يعقد من مسألة المشاركة القطرية فى مفاوضات السلام، ما أكده الرئيس بشار الأسد، الجمعة أن رفض سوريا مد خط أنابيب اقترحته قطر أحد أسباب اندلاع الحرب فى سوريا، شارحاً ذلك بقوله فى لقاء مع صحيفة "إيل جورنالى" الإيطالية، إن رد سوريا على قطر بـ"لا" لإنشاء خط الأنابيب "كان أحد العوامل المهمة، لكنه لم يعرض علينا بشكل علنى، لكنى أعتقد أنه كان مخططا له"، وأضاف: "كان هناك خطان سيعبران سوريا، أحدهما من الشمال إلى الجنوب يتعلق بقطر، والثانى من الشرق إلى الغرب إلى البحر المتوسط يعبر العراق من إيران، كنا نعتزم مد ذلك الخط من الشرق إلى الغرب.. أعتقد أن هناك العديد من الدول التى كانت تعارض سياسة سوريا لم ترغب بأن تصبح سوريا مركزا للطاقة، سواء كانت كهربائية أو نفطية، أو حتى أن تصبح نقطة تقاطع للسكك الحديدية، وما إلى ذلك، هذا أحد العوامل، لكن الخط المتجه من الشمال إلى الجنوب وعلاقته بقطر لم يطرح علينا بشكل مباشر".
فما قاله الرئيس السورى يشير إلى تعقيد فى الوضع، سينتج عنه رفض روسى للتواجد القطرى فى المفاوضات، خوفاً من المساعى القطرية لإفسادها، لأن الدوحة حتى الان لاتزال مصممة على مساعيها فى مد خط أنابيب داخل الإراضى السورية، ولن تتنازل عن هذا المقترح الذى أنفقت من أجله مئات المليارات من الدولارات على دعم المسلحين السوريين لتدمير نظام الأسد .
المحصلة النهائية أننا كنا أمام أسبوع صعب سياسياً ودبلوماسياً، شهد تقلباً فى الأوضاع، وتغيراً لمقاعد الحلفاء والأصدقاء، وسيكون تأثير هذا الأسبوع على مستقبل السياسة الإقليمية والدولية قوياً.