تمر اليوم، 11 يناير 2017، الذكرى الثانية لـ"مسيرة الوحدة" التى شهدتها فرنسا بحضور عدد من قادة الدول العربية والأجنبية، تضامنًا مع الجمهورية عقب أحداث مجزرة شارلى إيبدو، وعقب هذه الأزمة صدر كتاب بعنوان "من هو شارلى؟" للكاتب للمؤرخ وعالم الأنثربولوجيا الفرنسى "إيمانويل تود"، والذى انتقد فيه بشدة تعامل فرنسا مع هذه الأزمة، كما تعرض هو لانتقادات كبيرة بسبب ما ذكره من آراء وتحليلات فى كتابه.
ومع مرور هذه الذكرى، فقد صدر عن المركز القومى للترجمة، ودار التنوير للنشر، فى القاهرة، الترجمة العربية للكتاب، والتى قام بها الدكتور أنور مغيث، والذى من المقرر أن يكون متوفرًا فى معرض القاهرة الدولى للكتاب الـ48.
وفى هذا الكتاب، يقول "تود": نعرف الآن وبعد مرور فترة من الزمن أن فرنسا قد عاشت فى يناير 2015 هيستريا مفرطة. أثارت مجزرة محررى الصحيفة الساخرة شارلى إيبدو وبعض رجال الشرطة وزبائن متجر يهودى رد فعل جماعى غير مسبوق، كانت وسائل الإعلام تنقل رسائل تتمثل فى إدانة الإرهاب والاحتفاء بالشخصية الرائعة للشعب الفرنسى وتقديس الحرية والجمهورية.
ويضيف "تود": مجلة شارلى إيبدو ورسومها الكاريكاتورية عن النبى محمد صارت معبدًا مقدسًا. وأعلنت الحكومة عن دعم للمساعدة فى إعادة إصدار المجلة الأسبوعية. وسارت الجماهير التى استدعتها الحكومة فى مسيرة فى كافة أنحاء فرنسا يحملون أقلام رصاص فى أيديهم رمزًا لحرية الصحافة، يصفقون لقوات الأمن والقناصة الموجودين على أسطح المنازل. وشعار "أنا شارلى" مرسومًا بأحرف بيضاء على خلفية سوداء قد غزا الشاشات والشوارع وقوائم الطعام بالمطاعم.
وعاد الأطفال من مدارسهم ومعهم حرف C مكتوبًا على أيديهم. وتم عقد حوارات مع تلاميذ عمرهم سبعة وثمانية أعوام عند خروجهم من مدارسهم الابتدائية للتعليق على بشاعة الأحداث وأهمية حرية الرسوم الكاريكاتورية. وأصدرت الحكومة جزاءات: كل رفض من قبل طالب مدرسة ثانوية للوقوف دقيقة حدادًا، بحسب قرار الحكومة، يفسر على أنه تأييد ضمنى للإرهاب ورفض للانتماء للجماعة الوطنية. وفى نهاية يناير علمنا أن بعض الكبار قد تبنوا سلوكًا قهريًا مذهلاً، فقد قامت الشرطة باستجواب أطفال عمرهم تسع أو عشر سنوات. يا لها من ومضة شمولية.
ويشير "تود" إلى ما كانت فرنسا تشهده فى هذه الأثناء حيث يقول: كانت قنوات التليفزيون والصحف تكرر القول بأننا نعيش لحظة "تاريخية": "نحن شعب، وفرنسا متحدة فى تنوعها، يعاد تأسيسها بالحرية ومن أجلها". وكان الهوس بالإسلام بالطبع فى كل مكان. لم يكتف الصحفيون السياسيون بالاستماع إلى الأئمة والمسلمين الفرنسيين الذين يؤكدون مثل كل الناس أن العنف غير مقبول وأن الإرهابيين بشعون ويخونون دينهم، وإنما كان الصحفيون يفرضون عليهم وعلينا أن ينطقوا بالشعار الذى صار طقسًا "أنا شارلى" والذى أصبح من وقتها مردافًا لـ"أنا فرنسى". وكان عليهم، كى يمدمجوا بشكل كامل فى الجماعة الوطنية، أن يعتبروا أن التجديف بواسطة الرسوم الكاريكاتورية عن النبى محمد مكونًا للهوية الفرنسية.
كان التجديف لازمًا. وعلى شاشات التليفزيون أصبح الإعلاميون مربّين يشرحون لنا عقائديًا الفرق بين الفعل الذى يحرض على الكراهية العنصرية "سىء" والتجديف الدينى "حسن". وكم عانيت وأنا استمع إلى المونولوجست جمال دبوز، وهو شخصية مركزية فى الثقافة الفرنسية، وهو يخضع لهذا التوجيه على القناة الأولى. فلقد أكد هويته بوصفه مسلمًا، وعبر عن إخلاصه للشباب من سكان الضواحى، وحبه لفرنسا ولزوجته غير المسلمة، وأطفاله المولودين من زواج مختلط والذين يمثلون فرنسا الغد. وكان يحاول متألمًا وبلطف أن يشرح لمندوب محمكة التفتيش أن التجديف صعب بالنسبة لمسلم وأنه غير موجود فى تراثه. ولكن لا، فأن تكون فرنسيًا لا يعنى فقط أن يكون لك الحق فى التجديف، ولكن التجديف واجب عليك. كما قال فولتير: لم أستطع أن أمنع نفسى من التفكير فى ما قرأته عن محاكم التفتيش وتلك الاستجوابات التى كانت تُجرى مع يهود تحولوا عن دياناتهم للتأكد من يأكلون لحم الخنزير مثل كل المسيحيين الحقيقيين.
ويقول "إيمانويل تود": يمثل إعادة إصدار مجلة شارلى إبدو بدعم من الدولة لحظة الذروة فى رد الفعل القومى على المأساة. وعلى الغلاف يمكن لنا من جديد أن نرى رسمًا يصور محمدًا بشكلٍ غير مهذب على خليفة خضراء – لون الإسلام – ولكنه لون أخضر باهت مختلف عن الأخضر الجميل والزاهى الذى يتوج المبانى الإسلامية.
ويضيف: لا يفلت من مؤرخ متمرس ومعتاد على الأزمات الدينية المغرمة بالأيقونات، أو المدمرة لها، أن تكريس الدولة الفرنسية لصورة محمد فى هذا الشكل يمثل منعطفًا تاريخيًا. فرنسا تعيش أزمة دينية تأتى فى أعقاب كل الأزمات الدينية التى حددت إيقاع تاريخها وتاريخ أوروبا منذ أفول الإمبراطورية الرومانية. يمكن لنا هنا أن نشارك وسائل الإعلام فى تسمية مظاهرات 11 يناير بالتاريخية وهى تسمية مكثفة، تكرارية، هوسية وطلسمية دينية.
ويقول "تود": فى يناير 2015 لم يكن يوجد من يستمع إلى أى تحليل نقدى. كيف يمكن القول إن حشد الجماهير لم يكن رائعًا، وإنه يوحى بفقدان للهدوء بل وللكرامة فى المحنة؟ إن إدانة العمل الإرهابى لا يترتب عليها البتة تقديس شارلى إيبدو. إن حق المرء فى ازدراء دينه لا يجب أن ينسحب على حقه فى ازدراء دين الغير، وبشكل خاص فى السياق الاجتماعى والاقتصادى الصعب الذى يسم المجتمع الفرنسى حاليًا: التطاول بصورة متكررة، منهجية، على محمد وهو الشخصية المركزية لدى ضعيفة ويمارس ضدها تمييز ينبغى له، أيًا كان رأى المحاكم، أن يعد تحريضًا على الكراهية الدينية والعرقية العنصرية.
ويتساءل إيمانويل تود قائلاً: كيف يمكن مواجهة الجهل الفاضل الذى يتقدم، والتجرؤ على القول بأن المتظاهرين مع أقلامهم الرصاص، يمثلون رمزًا للحرية، كانوا يهينون التاريخ لأنه فى حقبة النازية ومعاداة السامية كانت الرسوم الكاريكاتورية لليهودى ذى البشرة السمراء والأنف المعقوف تسبق العنف الجسدى؟ كيف يمكن أن نشرح بهدوء، مع توفير وقت للبرهنة، على أن الأمر العاجل بالنسبة للمجتمع الفرنسى عام 2015 لم يكن هو التأمل حول الإسلام ولكن تحليل الانسداد الشامل لهذا المجتمع؟ كيف يمكن أن نجعل الآخرين يفهمون أن الشقيقين كواشى وآميدى كوليبالى كانا فرنسيين، من إنتاج المجتمع الفرنسى، وأن اللجوء إلى رموز الإسلام ليس هو المسلك الذى يقوم به بالضرورة المسلم الحقيقى، وأنهما لم يكونا إلا إنعاكسًا مَرَضيًا على نحو ما، للخسة الأخلاقية لزعمائنا المنتخبين، المهمومين بزيادة قيمة معاشهم أكثر مما هم مهمومون بإخراج شبابنا من الاستغلال المفرط بالأجور المنخفضة ومن التهميش بسبب البطالة؟.
ويتابع: كيف يمكن أن نشير إلى أن فرانسوا هولاند، عندما دعا إلى المظاهرة الجماهيرية، قد خاطر بتمجيد الشقيقين كواشى، وبإسباغ معنى أيديولوجى لعمل كان ينبغى التقليل من شأنه من خلال تفسيرات سيكولوجية؟ الجنون، بوصفه فقدان كل صلة بالواقع لا يمكن أن يستغنى عن الرموز الاجتماعية العادية: فالمصاب بالشيزوفرينيا يتصور نفسه نابليون أو يسوع، والمصاب بالبارانيو يتصور أن الشمس تخترقه أو الدولة تضطهده. السير فى طريق يحمل نبرة التهوين من الشأن وتخفيف المعنى كان ممكنًا. وهذا الاختيار لا يستبعد بالطبع قيام سوسيولوجيا للفزع الإسلاموى فى فرنسا. ولكن تم استبعاده. وعلى العكس، حصلنا على تقديس سلبى للشر بواسطة السلطات يؤدى إلى تفاقم التوترات الدينية فى داخل مجتمعنا كما فى داخل علاقتنا بالعالم.
ويضيف: وكان هذا اختيار بوش فى العام 2001، ولكن ذلك كان انطلاقاً من أحداث أشد وطأة. هل كان السبعة عشر قتيلاً فى 7 يناير مكافئيين حقًا لـ297 قتيلاً فى مركز التجارة العالمى؟ بل وأكثر من أمريكا التى يسخر منها الآخرون لإفراطها فى الانفعالات، كان رد فعل فرنسا مبالغًا فيه. أين ذهبت إذن الروح الفرنسية، العقلانية والساخرة فى 11 يناير 2015؟.
كيف يمكن بيان أن فرنسا، فى جماهيرها وفى طبقاتها الوسطى وليس فى أطرافها، تعيش أزمة، ليست مجرد أزمة اقتصادية ولكن أيضًا أزمة من النمط الدينى أو شبه الدينى، لأنها لم تعد تعرف أين تذهب؟ مشكلة المجتمع الفرنسى لا تختزل فى مجرد ضاحية ينشط فيها الإرهاب الإسلاموى، إنها أكبر من ذلك. إن التركيز على الإسلام ينبئ فى الحقيقة عن حاجة مرضية للشرائح الوسطى والعليا لكراهية شىء ما أو شخص ما وليس فقط الخوف من تهديد قادم من قاع المجتمع، حتى وإن كانت أعداد المغادرين من شباب المجاهدين إلى سوريا أو العراق تقتضى أيضًا تحليلاً سوسيولوجيًا. كراهية الغرباء التى كانت بالأمس مقصورة على الأوساط الشعبية تنتقل باتجاه أعلى البناء الاجتماعى. وتبحث الطبقات الوسطى عن كبش فداء.
ويقول إيمانويل تود: إن المسألة الحقيقة بالنسبة لفرنسا ليست هى الحق فى الكاريكاتير، وإنما هى صعود معاداة للسامية فى الضواحى. والعنصرية تنتشر فى الوقت نفسه باتجاه قاع البناء الاجتماعى وقمته. ولأن الإرهاب الجديد لا يضرب عشوائيًا، فهو يختار أهدافه: مجدفين كارهين للإسلام، ورجال شرطة، ويهود متدينين. ولو كان هناك ثلاثة رجال موجودين فى موقع مناسب لمنعوا بلا شك مجزرة شارلى إيبدو وهى الهدف الذى طالما حدده الإرهاب. وزير الداخلية الذى فشل فى مهمته يمشى مختالاً من دون أن يتعرض لأى نقد. باختصار كان كل هذا شىء فى سلوك الدولة عبثيًا فى يناير 2015، ولكن أى إشارة إلى هذا العبث كانت ستفسر فى المناخ السائد فى تلك الآونة على أنها دفاع عن الإرهاب، وبالتالى فإن شعار "أنا شارلى" الذى ساد فى تلك الأسابيع، فقد كان يشير إلى تجليًا نموذجيًا للوعى الزائف. فرنسا تكذب على نفسها، فهى تعتبر نفسها كبيرة حينما تكون صغيرة، ولكن أحيانًا تقول عن نفسها عظيمة وهى تعرف أنها صغيرة.
ويتساءل: أليس من العجيب أن نجد التقديرات المنشورة فى استعجال فى اليوم التالى للمظاهرة تولد نتائج، هى من زاوية النظرية الإحصائية، ذات دلالات مهمة؟ أيًا كان، فالإجماع الذى هللت له وسائل الإعلام ليس إلا خرافة ولا داعى لأن نشعر بالإحباط ونتعجل الوصول إلى استخلاص أن كل شىء لم يكن إلا وهمًا لم يبق منه شىء. على العكس، محاولة أن نفهم كيف أن جزءًا من المجتمع قادر على أن يفرض صورة زائفة للواقع على مجمل السكان، يعنى أن نقوم بتعرية نظامنا الاجتماعى. وهكذا تقدم لنا مظاهرة 11 يناير، وهى لحظة من الهيستريا الجماعية، مفتاحًا رائعًا لفهم آليات السلطة الأيديولوجية والسياسة فى المجتمع الفرنسى الحالى.
وفى نفس السياق، يقدم إيمانويل تود تحليلاً لبطاقة الهوية الدينية للرئيس الفرنسى فرنسوا هولاند، حيث يقول: هو ابن لطبيب كاثولويكى من اليمين المتطرف، وأخصائية اجتماعية كاثوليكية من اليسار، وهو تجسيد متقن لهذه الكاثوليكية "الزومبى". بل يمكن اعتباره النموذج المثالى، بالمعنى الفيبرى، للكاثوليكية الزومبى.
ويضيف: الرجل يعد نفسه بلا شك من اليسار ولا يمكن أن يقبل بسهولة أن قيمه العميقة بقيت هى قيم طفولته: تراتبية، طاعة وربما نظام أمومى. لقد كانت الكاثوليكية الأخيرة بالفعل دينًا للأم متمحورًا حول عبادة العذراء مريم، وبوجه خاص فى غرب فرنسا.
ويرى "تود" أن: هذه النظرة البسيطة على بطاقة الهوية الدينية للرئيس تسمح لنا أن نفهم جيدًا أشياءً كثيرة. فالرئيس وقد وُضع على رأس أمة فى شدة، يصر على ألا يفعل شيئًا، ألا يقرر، ألا يكون كبيرًا، أن يبقى متوافقًا مع التربية التى تلقاها متواضعًا. ولكن هذا التواضع، فى صيغته الأصلية، هو الذى سمح للكاثوليك فى الجيش الفرنسى أن يتجنبوا عدم طاعة الجمهورية خلال قضية درايفوس، كما سمح لهيئة أركان البحرية الملكية أن يدمروا أسطول طولون فى 27 نوفمبر عام 1942، ولهذا فإن عدم القدرة على اتخاذ قرار فى القصر الجمهورى الإليزيه لا تأتى كما يظن البعض من الاشتراكية الراديكالية، بل لأن الرئيس تربى على ذلك.
إيمانويل تود، مؤرخ وعالم فى الأنثروبولوجيا. كتاباته دائمًا ما تنحاز لقيم الديمقراطية والمساواة وتوجه نقدًا حادًا للأحكام المسبقة والخطاب الإعلامى الشائع فى الغرب، له مجموعة كبيرة من المؤلفات، منها: "مصير المهاجرين" 1994، "لقاء الحضارات" 2007، "ما بعد الديمقراطية" 2008، و"السر الفرنسى" 2013.
أنور مغيث، أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، مدير المركز القومى للترجمة، صدرت له مجموعة من الترجمات،نذكر منها: "نقد الحداثة"، "فى علم الكتابة"، "مسلمون ومسيحيون إخوة أمام الله"، "كيف يدمر الأثرياء الكوكب"، و"كفى للطغمة ولتحيا الديمقراطية".