التضخم واحد من أبرز المشكلات التى يمكن أن تواجهها اقتصاديات الدول، بسبب ما يحمله من مؤشرات خطر على الاقتصاد، تتصل بكثافة المعروض النقدى فى مقابل تراجع المعروض من السلع والخدمات، ما يعنى ارتفاع الأسعار بنسب تفوق معدلات النمو الطبيعية، ومن ثمّ تتآل دخول المواطنين وتتراجع جودة الحياة، ويصحب ذلك بالتبعية تراجع نسبة الادخار، ما يقلل من المحفظة الائتمانية للبنوك والجهات المصرفية، وهو ما يقود فى النهاية إلى تأثيرات انكماشية، مع عجز البنوك عن تمويل المشروعات الاستثمارية الجديدة، وتوسعات المشروعات القائمة، وهى المنظومة التى تسفر فى النهاية عن ارتفاع معدل البطالة وتباطؤ نسبة النمو، لهذا يمثّل ارتفاع معدل الضخم مؤشر قلق وجرس إنذار، ومؤخّرًا يشهد معدل التضخم فى الأسواق المصرية تصاعدًا متواليًا، ما يحتاج للبحث عن حلول جادة وعملية، عبر رؤى وأفكار اقتصادية مبتكرة وعملية، ولكن رغم مؤشرات الخطر التى يحملها هذا الملف، المفاجأة أنه رغم الارتفاع الذى تشهده أسعار السلع والخدمات حاليًا، والتى أدت بالتبعية لارتفاع معدلات التضخم، إلا أن النسبة التى سجلها معدل التضخم خلال عام 2016 لا تعد النسبة الأعلى فى تاريخ التضخم، كما يعتقد البعض، إذ وصلت نسبة معدل التضخم فى الفترة من يناير إلى ديسمبر من العام 2006، إلى 14.3%، مقارنة بـ19.1% عام 2008 "عام الأزمة المالية العالمية"، الذى سجل أكبر رقم للتضخم مقارنة بالأعوام التالية له حتى 2015.
عام 2008 الأعلى فى معدلات التضخم رغم ارتفاع الأسعار الحالية
فى هذا الإطار، قالت عواطف حسين، مستشار رئيس جهاز التعبئة العامة والإحصاء، فى تصريح خاص لـ"انفراد"، إن أعلى معدل شهرى للتضخم السنوى فى الفترة من 2008 وحتى 2016، كان فى شهر أغسطس 2008 بنسبة 25.6%، مقارنة بالرقم الذى حققه التضخم فى ديسمبر 2016، والذى بلغ 24.3%، لافتة إلى أن معدل التضخم على مدار 2016، فى الفترة من يناير حتى ديسمبر، بلغت نسبته 14.3% مقارنة بـ19.1% معدل التضخم لعام 2008 بأكمله.
اقتصاديون: هناك فرصة كبيرة لمواجهة الارتفاع الحالى للتضخم
يرى اقتصاديون أن عدم تجاوز التضخم للعام الماضى النسبة التى حققها فى 2008 (العام الأعلى لمعدلات التضخم)، لا يعنى أنه لا توجد أزمة حالية تهدد الاقتصاد المصرى ودخل المواطن، ولكن تعنى أنه ما زالت هناك فرصة كبيرة لمواجهة هذا الارتفاع الضخم فى نسبة التضخم، أسوة بما فعلته الحكومة بعد عام 2008، لمواجهة الارتفاع الذى حدث وقتها فى معدلات التضخم، وأدت إلى انخفاضه فى الأعوام التالية لعام 2008، وحتى 2012، والذى بلغ فيه معدل التضخم 7.3%.
كيف واجهت الحكومة التضخم؟
كانت الحكومة المصرية، قد اتخذت عدة إجراءات لمواجهة الارتفاع التاريخى فى معدلات التضخم عام 2008، تمثل أهمها فى تنظيم الأسواق، ومحاربة الممارسات الاحتكارية، علاوة على التوسع فى أسواق الجملة ونصف الجملة، وتوفير السلع الأساسية فى المجمعات الاستهلاكية بأسعار غير مبالغ فيها، إضافة إلى توصيل الدعم للمستحقين الفعليين، والتوسع فى نظام البطاقات التموينية، التى تجاوزت تغطيتها (ما بعد عام 2008) نحو 60 مليون فرد، كما خفّضت الدولة فى الأعوام التالية لـ2008 نسبة العجز فى الموازنة العامة، التى تؤثر بالتبعية على معدلات التضخم.
واستكمالا لمواجهة معدلات التضخم المرتفعة فى 2008، اتخذت الحكومة فى الأعوام التالية إجراءات إصلاحية من خلال البنك المركزى المصرى، متمثلة فى تطوير أدوات السياسة النقدية فى رفع أسعار الفائدة بالجهاز المصرفى، علاوة على التنسيق الكامل بين السياستين النقدية والمالية، إضافة إلى ما قامت به الحكومة أيضًا وقتها، بالحد من عبء التضخم على محدودى الدخل، وذلك من خلال دعم السلع التموينية، والذى وصل خلال الفترة المشار إليها إلى 16.4 مليار جنيه بما يمثل 68% من إجمالى الدعم السلعى والخدمى.
الحلول المقترحة لمواجهة التضخم الحالى
فى إطار الحلول العملية لمواجهة التضخم، يقول الدكتور مدحت نافع، الخبير الاقتصادى وأستاذ التمويل والاستثمار، إنه لن تتم مواجهة الارتفاع المستمر فى معدلات التضخم على مدار الأشهر الماضية، والزيادات الجديدة المتوقعة أيضًا خلال العام الجارى، إلا بزيادة الإنتاج والتحول إلى الاستثمارات، وذلك من خلال الاهتمام بالمشروعات المتوسطة والصغيرة، التى ستساعد على تغطية السوق المحلية واكتفائها، دون حاجة للجوء إلى الاستيراد، وهو ما سيقلل احتياجنا للعملة الصعبة، التى تقف دائما كعائق رئيسى أمام انخفاض التضخم "ارتفاع الدولار"، موضّحًا أن تقوية الصناعة وزيادة الإنتاج هما الحل فى التصدى لارتفاع التضخم المستمر.
فيما يرى الدكتور مصطفى بدرة، أستاذ التمويل والاستثمار بجامعة عين شمس، ضرورة رفع الشركات والمؤسسات الحكومية من قوة منافستها للقطاع الخاص، وتوفير الدولة لكل السلع والمنتجات التى تحتكرها بعض الشركات الخاصة، لافتًا إلى أن توفير الحكومة للسلع سيساعد على طرحها فى الأسواق بأسعار أقل، خاصة فى ظل تحقيق الدولة هامش ربح منخفضًا، بدلا من القطاع الخاص الذى يستهدف دائمًا تحقيق أرباح مرتفعة، ما يؤدى لزيادة أسعار السلع وتضخم ثمنها.
ورغم اتفاق الدكتور صلاح فهمى مع الرأيين السابقين، بشأن زيادة الإنتاج وتنشيط الصناعة المحلية لكبح الارتفاع فى التضخم، إلا أنه يرى أن الحل الأول والأهم لمواجهة الارتفاع الحالى للتضخم، يتمثل فى التعامل بشفافية مع المواطنين، وإعلامهم بالوقت الحقيقى المتطلب لتنفيذ برنامج للإصلاح الاقتصادى، خاصة أن مواجهة ارتفاع التضخم والسيطرة عليه، لن تأتى إلا بعدة إجراءات تتعلق جميعها بالإنتاج وتنشيط السياحة وتقوية الصناعة المحلية وغيرها، من الأمور التى تحتاج لفترة ما لتنفيذها، قائلا: "معالجة مثل هذه الأزمات (ارتفاع التضخم) لا تتم فى شهر أو اثنين، بل تحتاج وقتًا".
جدير بالذكر، أن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، أعلن فى بيان له أول من أمس الثلاثاء، عن ارتفاع معدل التضخم السنوى إلى 24.3% لشهـر ديسمبر 2016، مقارنـة بشهر ديسمبر 2015، وكان معدل التضخم السنوى فى شهر نوفمبر الماضى قد سجل 20.2%، وأشار الجهاز فى بيانه، إلى أن معدل التضخم لشهر ديسمبر سجل ارتفاعا قدره 3.4% عن شهر نوفمبر 2016، وذلك بسبب ارتفاع أسعار مجموعة الحبوب والخبز بنسبة 10.2%، ومجموعة اللحوم والدواجن بنسبة 5.7%، ومجموعة الألبان والجبن والبيض بنسبة 5.3%، ومجموعة الزيوت والدهون بنسبة 6.7%، ومجموعة الفاكهة بنسبة 5.3%، ومجموعة الأسماك والمأكولات البحرية بنسبة 6.1%.