لم تكن "التويتة" التى نشرها الرئيس الأمريكى القادم بشأن أجهزة الاستخبارات الامريكية أمرا اعتياديا، عندما وصف أسلوب جهاز المخابرات بشأن تسريب تقرير مخابراتى يتعلق بالرئيس القادم بأنه "أسلوب ألمانيا النازية".. وهذا الوصف لمن لا يعلم هو جريمة فى أمريكا، لأنه الوصف الأقذر فى التعاملات اليومية العادية، فما بالكم عندما يصدر هذا الوصف من الرئيس الأمريكى القادم، وهو الأمر الذى أدى إلى حالة من الهستيريا فى الولايات المتحدة الأمريكية لدرجة أن بعض ضباط هذه الأجهزة هددوا بالاستقالة، وهو ما يشير إلى أزمة ثقة كبيرة وصدام حاد بين الرئيس وبين أجهزة الاستخبارات الأمريكية.
أجهزة الاستخبارات فى الولايات المتحدة الأمريكية تمثل الأعمدة الأساسية لهذه الدولة وتتمتع بنفوذ وقوة كبيرين، وهى التى تمد الرئيس بكافة المعلومات والبيانات الدقيقة لاستخدامها فى اتخاذ القرارات سواء فى السياسة الخارجية أو الداخلية، وفى أمريكا 16 جهازا أمنيا مابين وكالات المخابرات المركزية، والمخابرات العسكرية، ومكتب التحقيقات الفيدرالى، وينسق بين هذه الاجهزة جميعا المخابرات الوطنية التى تم استحداثها بعد 11 سبتمبر عام 2001، وأن الصدام الذى بات كبيرا بينها وبين الرئيس المنتخب دونالد ترامب يمثل حالة استثنائية تحتمل عدة أمور من وجهة نظرنا هى:--
الأول: أن تعمد هذه الاجهزة إلى تضليل الرئيس وعدم معاونته ومن ثم إفشاله كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة بالنسبة للمعلومات عن تنظيم داعش فى المناطق الملتهبة مثل العراق وسويا، وهو ما يؤدى إلى أن يفقد الرئيس بوصلة اتخاذ القرارات، إلا إذا كان الرئيس الأمريكى قد حزم أموره بإطلاق الحرب الشاملة على الإرهاب فى كل مكان فى العالم دون النظر للمعلومات التى تجلبها له أجهزة الاستخبارات.
الثانى: أن إفشاء المعلومات المخابراتية المتعلقة بشخص ترامب قد تؤدى إلى عرقلة التقارب بين روسيا وأمريكا، وهو ما يمكن أن نراه أنها محاولة من أجهزة الاستخبارات لعرقلة سعى ترامب للتقارب مع روسيا، خاصة فى ظل غضب شعبى أمريكى من المعلومات المنشورة والتى أدت لهذه الأزمة الكبرى وهى أن اجهزة المخابرات الروسية تدخلت بشكل أو بآخر مع فريق ترامب الانتخابى، وما يعنيه ذلك من إجبار الرئيس الأمريكى على اتخاذ مواقف محددة فى العلاقة مع روسيا.
الثالث: أن يلحق مصيره بمصير جون كيندى الذى دخل فى صراع مع هذه الأجهزة الاستخباراتية وسعيه إلى تقويض دورها، لتصبح تابعة للرئيس بعد إدراكه أن هذه الأجهزة تقوم بعمليات قذرة فى أماكن مختلفة من العالم دون علم الرئيس ومن وراء ظهره، عندما قال "إنه سوف يمزق وكالة الاستخبارات المركزية إلى ألف قطعة ويبعثرها فى الرياح".. وجاء اغتيال كيندى ليقطع هذا الصراع وحتى الآن ما زالت عملية اغتياله غامضة.
الرابع: أن يستطيع الرئيس الأمريكى الجديد الانتصار فى معركته مع هذه الأجهزة الاستخباراتية وإعادة هيكلتها خاصة بعد تعيين "مايك بومبيو" مديرا لوكالة المخابرات الأمريكية الـ cia والذى جاء كتعبير عن غضب ترامب من هذه الأجهزة، مع احتمالات فى تغييرات أخرى قادمة فى بقية الأجهزة الأمنية خاصة مكتب التحقيقات الفيدرالى، وأن انتصار ترامب فى هذه المعركة يعنى نهاية أسطورة دولة المخابرات الامريكية التى تعمل خارج الإطار القانونى والدستورى الأمريكي، وتحوى ملفات المخابرات الأمريكية بالعديد من العمليات التى قامت بها هذه الأجهزة من خلف ظهر الرئيس ومنها أزمة الرهائن الأمريكيين إبان حكم الرئيس الأمريكى كارتر، حيث كان يرى الرئيس الامريكى الدخول فى مفاوضات مع الإيرانيين، ولكن كان لأجهزة المخابرات رأيا مختلفا، وهو الأمر الذى عجل برحيل جيمى كارتر عن البيت الأبيض دون انتخابه لفترة ولاية ثانية، لأن أجهزة المخابرات لم تكن لترضى عن أسلوب كارتر فى السياسة الخارجية الأمريكية.
الخامس: أن تمارس هذه الأجهزة دورا فى القيام بعمليات فى الداخل والخارج تحدد للرئيس طريقا واحدا للتعامل مع كل ملف معروض على الرئيس، وكثيرا ما قامت هذه الأجهزة بعمليات من هذا النوع مثل إنتاج الأفلام الإباحية إبان حكم الرئيس سوكارنو فى إندونيسيا من عام 1945 حتى عام 1966، عندما اعتبرت اجهزة الاستخبارات الامريكية أن سوكارنو مؤيد للشيوعية، مما كان يعنى أنه سيكون هناك حتما محاولة للإطاحة به أو على الأقل جعله يبدو سيئـا، حيث.أنتجت وكالة الاستخبارات المركزية فيلما إباحيا من بطولة شبيه لسوكارنو، بعنوان "أيام سعيدة" للتوزيع فى إندونيسيا، انطلاقا من أن الثقافة الإندونيسية عامة تغضب على مثل هذه الأشياء المشينة.. وما أعلن عنه وكشفته جلسات الاستماع فى الكونجرس فى عام 1976" أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت تقوم بتقديم رشاوى للصحفيين والمحررين لسنوات"..بهدف الحصول على المعلومات والتى سميت بعملية "الطائر المحاكي" وغيرها من العمليات الأخرى حول العالم.
ونذكر فى هذا الصدد الباخرة الإيطالية "أكيلى لاورو" والتى اختطفها فى عام 1985 أعضاء من جبهة التحرير الفلسطينية، ودخلت مصر فى مفاوضات مع الخاطفين الأربعة، ووصلت السلطات المصرية إلى اتفاق مع الخاطفين بتسليم الباخرة مقابل ترحيلهم إلى تونس لمحاكمتهم هناك، وعقد الرئيس الأسبق حسنى مبارك اجتماع ازمة سرى لمجلس الوزراء فى مدينة إنشاص والتواصل مع رئيس الوزراء الإيطالى بيتونى كراكسى والرئيس الأمريكى رونالد ريجان، وتم الاتفاق على نقل الخاطفين على طائرة مصر للطيران، وأعلن مجلس الوزراء عن ذلك إلا أن الطائرة قد أقلعت قبل ميعادها بساعتين، وكانت المفاجأة عندما اعترضت طائرات حربية أمريكية f 16 الطائرة المصرية لولا ضباط الصاعقة المصريين الذين كانوا على متن الطائرة التى هبطت فى إيطاليا حيث حوكم الخاطفون فيها حسب القانون الإيطالى، ولكن جهاز الاستخبارات الأمريكية كان يعمل بكل الوسائل على محاكة المتهمين أمام المحاكم الأمريكية، وهذا يدل على أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية كانت تتجسس فى فضيحة كبرى على جلسات الحكومة المصرية من خلف ظهر الرئيس الأمريكى، وهو ما أدى إلى معرفتهم بميعاد إقلاع الطائرة المصرية دون الإعلان عن ذلك.. والجدير بالذكر فى هذا الصدد أن رئيس الوزراء الإيطالى بتينو كراكسى قدم استقالته احتجاجا على ما قامت به المخابرات الأمريكية وقيام طائرات حربية أمريكية اعتراض طائرة مصر للطيران، رغم أن وجوده فى السلطة – آنذاك - كان مهما وضروريا لأنه كان يقوم بدور التقريب بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الامريكية.
وتبقى الأسئلة مفتوحة وكل الاحتمالات واردة فى عملية الصراع فى الولايات المتحدة والتى بدأت ولن تنتهى فى ظل الإصرار من جانب الرئيس على المضى فى معركة تكسير العظام وإعادة هيكلة أجهزة المخابرات الأمريكية، وسط ترقب دولى لما يمكن أن تسفر عنه هذه المعركة الصدامية بين البيت الأبيض وأجهزة المخابرات الأمريكية.