بعد أن أصدرت المحكمة الإدارية العليا برئاسة المستشار أحمد الشاذلى حكمها برفض طعن الحكومة على حكم محكمة القضاء الإدارى، برفض اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، والموقعة فى أبريل من العام الماضى والمعروفة إعلاميا باسم "تيران وصنافير"، تثور عدد من الأسئلة وعلامات الاستفهام، ويدفعنا الأمر إلى البحث عن حلول ومخارج قانونية لهذه الأزمة التى تثير جدلا كبيرا فى الشارع المصرى، خاصة أن هذا الحكم برغم نهائيته إلا أنه يمثل مرحلة من مراحل أغرب دعوى قضائية فى تاريخ القضاء المصرى، لكونها متعلقة بأرض سالت عليها دماء شهداء الوطن فى معركته مع العدو الإسرائيلى، وهو الأمر الذى يرتبط ارتباطا نفسيا كبيرا مع الشخصية المصرية التى تتمايز عن غيرها من شعوب الأرض قاطبة فى ارتباطها النفسى والروحى بالأرض .
فالحكومة التى أبرمت الاتفاقية مع المملكة العربية السعودية رأت أن هذه الأرض هى أرض سعودية، ولأن مصر عبر تاريخها الممتد لآلاف السنين ، يمتلئ سجلها الأبيض بالدعوة إلى نشر الفضيلة والتسامح والدفاع عن الحقوق فى كل أرض وفى كل ثقافة، ووقعت الحكومة هذه الاتفاقية دون أن ترى فيها أنها تنازل عن أرض مصرية لدولة أخرى، لأن هذه الحكومة أو غيرها لا يمكن أن تتحمل حكم التاريخ عليها بأنها فرطت فى أرض مصرية .
وبعد توقيع الاتفاقية اعترض بعض المصريين ، على اعتبار أن الجزيرتين هما أرض مصرية خالصة، الأمر الذى دفعهم إلى اللجوء إلى القضاء للحكم ببطلان هذه الاتفاقية، وسارت القضية فى مسارات عدة حتى صدر الحكم من محكمة القضاء الإدارى فى 21 يونيو الماضى ببطلان هذه الاتفاقية، مما دفع الحكومة إلى الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا ،وفى أكتوبر من عام 2016 قضت محكمة الأمور المستعجلة بوقف تنفيذ حكم محكمة القضاء الإدارى والقاضى ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود، وأكدت أن حكم القضاء الإدارى باطل، لتغوله على اختصاصات السلطة التنفيذية، وأن الاتفاقيات الدولية تقع ضمن الأعمال السيادة التى تنأى عن رقابة للقضاء، وطعن الرافضون للاتفاقية على حكم الأمور المستعجلة أمام الدرجة الثانية "مستأنف الأمور المستعجلة"، لكن المحكمة رفضت طعنهم فى 31 ديسمبر الماضى، وأيدت حكم أول درجة، وأيدت الاتفاقية، وعقب صدور حكم محكمة القضاء الإدارى لجأت هيئة قضايا الدولة كذلك للمحكمة الدستورية العليا، وأقامت "منازعة تنفيذ" لوقف تنفيذ حكم محكمة القضاء الإدارى القاضى ببطلان الاتفاقية، ثم أقامت منازعة أخرى فى 6 نوفمبر الماضى، وتمت إحالتهما لهيئة مفوضى الدستورية لتحضيرهما وإعداد تقرير فيهما، وقررت فيها التأجيل لجلسة 12 فبراير المقبل.
وجاء الحكم الأخير من محكمة القضاء الإدارى ليقطع بنهائية الحكم، ورغم ذلك فإن الأمر مازال مطروحا للمداولة، دون الوقوف أمام الحكم القضائى باعتباره عنوان الحقيقة، فلا تعليق على حكم قضائى مدحا أو ذما، ولكنه الأمر المتعلق بأزمة كبيرة تتحكم فيها الانفعالات من جانب ،والبحث عن حلول موضوعية من جانب آخر،وهو الأمر الذى يجعلنا نضع ملاحظاتنا على النحو التالى:
أولا: أن الرافضين للاتفاقية هم وطنيون دافعوا عن رؤيتهم باللجوء إلى القضاء إيمانا منهم بالثقة فى نزاهة قضائنا وعدله،يحملون فى داخلهم ثقة بأن هذه الأرض مصرية، ويؤيدهم فى ذلك حكم محكمة القضاء الإدارى، وأخيرا حكم المحكمة الإدارية العليا.
ثانيا:جاء الحكم الأخير ليضعنا أمام سؤال كبير خاصة فيما تناوله الحكم من أن "الحكومة لم تقدم مستندا يثبت أن الأرض سعودية".. وهو ما يجعلنا فى حالة دهشة خاصة بعد التصريحات العنترية من الحكومة ومن هيئة قضايا الدولة من أنهم سوف يقدمون للمحكمة الأدلة الدامغة التى تؤيد صحة هذه الاتفاقية ،ويصبح السؤال الأهم: لماذا تقاعست الحكومة ولم تقدم أوراقها ومستنداتها، وإذا لم يكن لديها هذه القدرة القانونية فلماذا لم تستعن بأهل الخبرة من رجال القانون؟
ثالثا: أن من حق المحكمة الدستورية العليا أن تفصل فى دعوى التنازع بين حكمى القضاء الإدارى والإدارية العليا ، وبين محكمة الأمور المستعجلة ، والمستأنف فيها، وبعيدا عن أن محكمة منها قد تجاوزت صلاحياتها من عدمه ، فإن الأمر يبقى فى يد المحكمة الدستورية التى أعطاها الدستور والقانون هذه الصلاحية دون غيرها .
رابعا: قامت الحكومة بإحالة الاتفاقية إلى مجلس النواب لمناقشتها حسب الدستور والقانون،وبعد الحكم الأخير ثار جدل قانونى وفقهى حول مدى أحقية البرلمان فى مناقشة الاتفاقية، ونرى أن الفصل بين السلطات يعطى لمجلس النواب الحق فى مناقشة الاتفاقية ، ولكننا نرى أن الشعب هو سيد الأمر ، فالأحكام القضائية تصدر باسم الشعب ، ومجلس النواب هو مجلس هذا الشعب ، وتصبح كلمة الشعب هى الأعلى، الأمر الذى يدعونا إلى اقتراح أن يقوم مجلس النواب بترك الأمر للشعب للاستفتاء عليه ، وهو ما يحسم الجدل فى الشارع المصرى.
خامسا: أدعو الأشقاء فى المملكة العربية السعودية إلى تفهم الوضع الداخلى المصري، وإلى عدم أخذ الموضوع بحالة من الانفعالية والعصبية، لأن ذلك قد يؤدى إلى اتساع الهوة والفجوة بين الشعبين المصرى والسعودى، وأن تناول الموضوع – رغم حساسيته – بحالة من التوتر لن ينتج إلا خسارة كبيرة ، وأن لجوء المملكة العربية السعودية إلى المحاكم الدولية سوف يزيد حالة الاحتقان ،وفوق ذلك فلن تتمكن السعودية من الحصول على حكم من المحكمة الدولية لأنها لا تملك وثيقة واحدة تؤكد سعودية الجزيرتين .
وتبقى هذه الأزمة بتفاصيلها المثيرة تلقى ظلالها على الشارع المصرى برغم حكم المحكمة الإدارية العليا،وتبقى السيناريوهات تدور بين انتظار حكم المحكمة الدستورية العليا للفصل فى تنازع الأحكام القضائية السابق الإشارة إليها،وبين حق مجلس النواب فى مناقشة الاتفاقية إعمالا للقانون والدستور ، وإعمالا لمبدأ الفصل بين السلطات ،ولكن يبقى الأمر الأكثر حسما لحالة الجدل هو الاحتكام إلى الشعب "سيد السلطات" فى استفتاء عام.