إذا سلمنا بفرضية أن رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات من حقه الظهور فى وسائل الإعلام وإجراء الأحاديث وإطلاق التصريحات الساخنة كل فترة، وهو بالمناسبة تقليد غير متبع فى باقى أجهزة المحاسبات فى العالم، فمن المنطقى أو العقلى أن تكون تصريحات وكلمات موزونة وموثقة ودقيقة من رئيس أعلى سلطة رقابية فى البلاد لديه من الملفات الكثير وفى توقيتات منطقية وليست توقيتات تجعل من يقرأها يتحسس عقله ويلقى بأسئلة الاستفهام والاستغراب من التوقيت.
وبالتالى عندما يقول المستشار هشام، رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، إن الفساد فى مصر حجمه 600 مليار جنيه، فمن الواجب عليه كرجل قانون ورجل شرطة سابق أن يرهن كلامه بحقائق دامغة وأرقام محددة يعلنها للرأى العام حتى لا يصطدم الناس فى حجم الفساد فى مصر ودون تحديد المدة الزمنية التى تراكم فيها هذا الفساد، حتى لا يفتح الباب ويعطى الفرصة للمتربصين بإلصاق هذا الرقم بفترة حكم الرئيس السيسى التى لم تجاوز عاما ونصف العام حتى الآن وتصدير رسائل سلبية فى توقيت حرج وقبل ذكرى 25 يناير.
وبصفة شخصية جدا أربأ بمسؤول كبير فى الدولة وبرجل قضاء وشرطة أن يضع نفسه فى دوائر الشك والريبة بتصريحات حول الفساد، فمن المفترض أنه يعى ويدرك تماما حجم وأبعاد وحساسية منصبه كرئيس للجهاز المركزى للمحاسبات.
الأمر الآخر هو أنه يجب على المستشار جنينه قبل أن يتحدث عن أرقام الفساد، أن « ينورنا» بالقياس والمنهج العلمى الذى اتبعه فى قياس حجم الفساد والوصول إلى هذا الرقم وإعلان تقارير الجهاز التى ترصد مخالفات الجهات الحكومية المختلفة دوريًّا، كحق للمواطن قبل فى التعرف على حقيقة ما يحدث بمؤسسات الدولة. فهناك، كما يرى خبراء ومتخصصون، صعوبة كبيرة للغاية فى قياس حجم أو تكلفة الفساد رقميا. لذلك أصبح المستشار جنينة، وبحسن نيه واضحة، مطالبا بتوضيح القياس والمنهج الذى اتبعه جهازه للوصول إلى رقم الـ600 مليار، وما هى المدة الزمنية لهذا الفساد.
عمومًا تقارير الجهاز استشارية ولا يؤخذ بها كدليل لإثبات جرائم المال العام ولا يعتد بها فى قضايا السب والقذف، والتقرير الأخير عن حجم الفساد تم إرساله إلى الرئاسة للإطلاع عليه، وأخذ ما يناسب من قرارات وإصدار ما يليق من قوانين.
والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن فى الوقت الراهن هو: لماذا يصرح رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، الذى تم تعيينه من الرئيس المعزول مرسى فى سبتمبر 2012، بأرقام عمومية عن حجم الفساد فى مصر فى هذا التوقيت، مع التصريحات والتأكيدات الدائمة من الرئيس السيسى والحكومة على محاربة ومواجهة الفساد بكل أشكاله وأنواعه فى المؤسسات والهيئات الحكومية، هل المقصود إحباط الناس ودفعهم إلى عدم التصديق لأى أحاديث رئاسية أو حكومية عن محاربة ومواجهة الفساد، أم تصدير رسالة للمستثمرين بأن مناخ الاستثمار غير مشجع فى مصر بسبب انتشار الفساد فى أوصال الدولة، وكأن هذا الفساد قد تشكل فى النظام السياسى الحالى لأننا بصراحة لم نسمع من المستشار جنينة وجهازه أى بيانات وأرقام عن الفساد فى حكم الإخوان، ولم نسمع منه أى انتقاد لمسؤول إخوانى منذ توليه الجهاز، وكل الذى قرأناه عنه تهديدات «لأجهزة سيادية بها مخالفات ولا يريد الكشف عنها حتى لا يزعل المسؤولين فيها»، حسب كلامه فى حوار مؤخرا للزميلة "المصرى اليوم".
لا أشكك فى النوايا والأغراض ولا أبحث وأفتش فى الضمائر، لكن كلام أى مسؤول فى الدولة يجب أن يكون بحساب وبميزان سياسى منضبط، فما بالنا برئيس الجهاز المركزى للمحاسبات عندما يتحدث عن الفساد والمخالفات دون وقائع أو معلومات يعرضها على الرأى العام حتى يعرف الناس الحقيقة فيما يتحدث عنه!.