وقعت المذابح الدينية فى سوريا ففكر «فرديناند ديلسيبس» فى كيفية استغلالها لصالح مشروع حفر قناة السويس فى مصر، والقصة تكشف أن العمال الذين تم شحنهم إلى حفر القناة، كان بينهم عدد من السوريين الذين حملتهم محنة التشريد إلى العمل فى المشروع، لكن المثير فيها أنهم مسيحيون، حسبما يؤكد كتاب «السخرة فى حفر قناة السويس»، تأليف الدكتور «عبدالعزيز محمد الشناوى» عن «مكتبة الأسرة - الهيئة العامة للكتاب - القاهرة». فى منتصف عام 1860 وقعت فى لبنان فتنة دينية بين الدروز والموارنة أول الأمر، واتسع نطاقها لتأخذ شكل مذابح بين المسلمين والمسيحيين.كانت سوريا وقتئذ تابعة للدولة العثمانية وحسب «الشناوى» فإنه بسبب تهاون السلطات العثمانية فى سوريا «سقط ضحايا كثيرون وأحرق قرى من بينها دير القمر وزحلة وبيت مرى، وهام الأهالى فى الجبال، ولجأ عدد كبير منهم إلى الإسكندرية وقبرص واليونان والقسطنطينية وغيرها، وامتدت تلك المذابح إلى دمشق بسبب سوء تصرف واليها، إذ إنه وضع المسلمين فى السلاسل وأكرههم على كنس الشوارع، لأنهم أهانوا المسيحيين، فأهاج ذلك العمل شعور المسلمين، وبعد ظهر يوم 9 يوليو 1860 وقع هجوم على منزل قنصل روسيا، ثم أضرم المتظاهرون النار فى منازل كبار التجار المسيحيين، كما أحرقوا الحى المسيحى فى المدينة».
كانت مصر من أكثر الدول، التى استقبلت المهاجرين السوريين واللبنانيين المسيحيين الهاربين من هذه المذابح، وينقل «الشناوى» عن الصحف الصادرة وقتئذ، أن «حالة أولئك اللاجئين بلغت من السوء مبلغًا دفعت البعض إلى فتح اكتتابات لمساعدتهم، وتبرع «سعيد باشا»، والى مصر، وغيره من أفراد الأسرة العلوية بمبالغ سخية، كما تبرعت شركة القناة بخمسة آلاف فرنك، واكتتب أجانب مصر بمبالغ متفاوتة، وأسهم أيضًا بعض الطلبة المصريين فى باريس بمائتين وستين فرنكًا، وفى خطاب لهم بتاريخ أول سبتمبر 1860 جاء فيه: «إن طلبة البعثة المصرية فى فرنسا قد تأثروا أشد التأثر للنكبات، التى حلت بالسكان المسيحيين فى سوريا وقد أرادوا استنكارًا لعمل الذين شوهوا سمعة المسلمين بقسوتهم فتح اكتتاب فيما بينهم لمساعدة ضحايا هذه الاضطهادات».
استثمر ديلسيبس هذه المحنة فعين مندوبًا لشركة القناة فى بيروت، وأرسل إليه يوم 23 يناير «مثل هذا اليوم» عام 1961 خطابًا جاء فيه: «لقد تحدثت معى كثيرًا بخصوص احتمال جمع عمال مسيحيين من سوريا، وقد حان الوقت لنبحث هذا الموضوع سويا، وعليكم أن تعملوا بلباقة وفى طى الكتمان فى سبيل حضورهم، ويجب ألا تتفاوضوا مع الزعماء أو الرؤساء أو العائلات، التى لها بأس وسيطرة، فهؤلاء جميعا يعملون على استغلال العمال، عليكم أن تتجهوا إلى العمال مباشرة»، ويذكر «الشناوى»، أن العروض، التى تقدمت بها شركة القناة لاستقدام العمال المسيحيين فى أعمال الحفر تقوم على الأسس الآتية:
أولا، تستخدم الشركة الأفراد، الذين تتراوح أعمارهم بين ستة عشر عامًا وأربعين عامًا، ثانيًا: تحتسب الأجور إما على أساس أيام العمل وإما على أساس الإنتاج أى المقطوعية وفق رغبة العامل، وأجر اليوم فرنك واحد، ويمنح العامل إجازة يوما فى الأسبوع، ثالثًا: لا تمنع الشركة استخدام الأطفال، الذين تقل أعمارهم عن ستة عشر عامًا، كما تستخدم الرجال المسنين والسيدات، رابعًا: الأفراد الذين فى حوزتهم جمال يستطيعون الحضور بها من سوريا إلى البرزخ عن طريق الصحراء، وتستأجر الشركة منهم هذه الجمال وتدفع عن كل جمل أجرًا قدره «2,50» فرنك فى اليوم، خامسًا: يقيم العمال فى قرى تباع فيها المواد الغذائية بأسعار محددة، سادسًا: يتسلم العمال عند سفرهم إلى البرزخ سواء عن طريق البحر أو عن طريق البر نفقات السفر، وكذلك يعطون إذا شاءوا مبلغًا من المال يدبرون به أمر عائلاتهم قبل سفرهم على أن يخصم المبلغ الأخير من أجورهم.
واشترطت الشركة أن لا يحضر العمال دفعة واحدة، سواء أقدموا عن طريق البحر أم عن طريق البر، وإنما جماعات صغيرة، قوام كل جماعة خمسون أو ستون فردًا، وأخيرًا قدمت إغراء يتمثل فى: عند انتهاء حفر القناة توزع على جميع العمال السوريين، الذين يرغبون فى الإقامة فى مصر أراض لزراعتها واستغلالها، وستختار هذه الأراضى من الجهات الواقعة على مقربة من وادى «الغساسنة الخصيب».