«حال اللغة العربية حال غريبة، بل أغرب من اللغة العربية، لأنها مع سريان التطور فى مفاصلها إلى لهجات لا يعلم عددها إلا الله، لم يدر بخلد أى سلطة فى أى بلد من تلك البلاد المنفصلة سياسيًا أن تجعل من لهجة أهلها لغة قائمة بذاتها، لها نحوها وصرفها، وتكون هى المستعملة فى الكلام الملفوظ وفى الكتابة معًا، تيسيرًا على الناس، كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والإسبان، بل بقى أهل اللغة العربية من أبشع خلق الله فى الحياة، إن أهل اللغة العربية مستكرهون على أن تكون العربية الفصحى هى لغة الكتابة عند الجميع».
هكذا تحدث عبدالعزيز باشا فهمى، منتقدًا بعنف اللغة العربية أمام «مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية» فى جلستى 24 يناير، «مثل هذا اليوم»، و31 يناير عام 1944، شارحًا أسباب اقتراحه باتخاذ الحروف اللاتينية لرسم الكتابة العربية، وهو الاقتراح الذى أثار ضجة كبيرة وقتها، وأدى إلى معركة أدبية كان هو طرفها من ناحية، ومحب الدين الخطيب، ومحمد أحمد شاكر، وأسعد طلس من ناحية أخرى، وتأتى وقائعها فى كتاب «المساجلات والمعارك الأدبية فى مجال الفكر والتاريخ والحضارة»، تأليف أنور الجندى عن «مكتبة الآداب - القاهرة».
وعبدالعزيز باشا فهمى «23 ديسمبر 1870 - 1951» سياسى وقاض وشاعر، ورئيس حزب الأحرار الدستوريين «قبل ثورة 23 يوليو 1952»، وثانى نقيب للمحامين، وأول رئيس لمجلس القضاء الأعلى، ووزير الحقانية «العدل» الذى رفض التصديق على قرار شيخ الأزهر بعزل على عبدالرازق بسبب كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، واستقال من الوزارة عام 1925 تضامنًا معه، وهذا التاريخ الوطنى للرجل لا يمكن نكرانه من البعض بسبب اقتراحه لمجمع اللغة العربية الذى كان عضوًا فيه.
ساق «فهمى» العديد من الأسباب لتقوية اقتراحه، فشبه هذه اللغة بـ«الحصان الأعرج والناقة البازل المسنة»، وأشار إلى أنه لا فائدة من استعمال أسلافنا لعلامات الشكل «الفتحة، والضمة، والكسرة، والسكون، والمد، والشد، والتنوين»، قائلاً: «إنها مجلبة لكثير من الأضرار»، وخلص إلى قوله: «لقد فكرت فى هذا الموضوع منذ زمن طويل، فلم يهدنى التفكير إلا إلى طريقة واحدة، هى اتخاذ الحروف اللاتينية وما فيها من حروف الحركات بدل حروفنا العربية كما فعلت تركيا».
رد محيى الدين الخطيب على هذا الاقتراح، وهو من مواليد دمشق عام 1886، وجاء إلى القاهرة عام 1902، وشارك فى جريدة «المؤيد» عام 1913، وعمل فى تحرير جريدة «الأهرام»، وأسهم فى إنشاء جمعية «الشبان المسلمين»، وبهذه الخلفية كان رده عنيفًا، وتهكم على ما ذكره «فهمى» قائلًا: «إن الجيل المصرى الذى سيلتحق بالمدارس الأولية ورياض الأطفال سينشأ نشأة تجعل هذه الكتب الجميلة التى تطبعها دار الكتب، وجميع المطابع المصرية والشامية والعراقية والمغربية والهندية والإيرانية، ومطابع المستشرقين فى أوروبا كمطبعة بريل فى لندن، وعشرات أمثالها، وما طبع من ألوف الكتب العربية من عهد محمد على إلى اليوم، وكل ما كتب قبل ذلك بأقلام الناسخين من يوم كتب زيد بن ثابت المصحف الشريف فى الصدر الأول، وكتب مصاحف عثمان للأمصار إلى يومنا هذا، كل هذا التراث الضخم يصبح فى نظر الجيل الجديد والأجيال الآتية بعده كأنه مكتوب بالحروف الروسية أو الأرمنية أو الصينية أو الهيروغليفية».
دخل المعركة الشيخ أحمد محمد شاكر «29 يناير 1892 - 14 يونيو 1958» وهو الملقب بـ«أبوالأشبال»، ومن أئمة الحديث، وكان قاضيًا فى المحاكم الشرعية أيضًا، وأرجع دعوة «فهمى» إلى «محاولة قديمة من فئة معروفة كانت تدعو منذ عشرات قليلة من السنين إلى اتخاذ اللهجات العامية لغة رسمية للقراءة والكتابة والتعليم، وكان على رأسها مهندس إنجليزى كبير «ولكوكس»، وكاتب مصرى مشهور «أحمد لطفى السيد»، وظننا أنها ماتت وانتهى أمرها، ولم نكن نظن أنها اختبأت فى حصن حصين فى رأس رجل عظيم»، وأضاف: «هذا الاقتراح تجديد للدعوة القديمة، واستمرار لها حتى تتمزق وحدة الأمم العربية، ويحال بينها وبين قديمها، فلا يعرفه ولا يصل إليه إلا الأفذاذ من علماء الأثريات كما هو الشأن الآن فى اللغات القديمة، فيحال بين الأجيال القديمة وبين القرآن والحديث وعلوم العرب كما يظنون، فيندثر هذا الإسلام من وجه الأرض».