نقلا عن العدد اليومى...
ما إن تفتح كتاب «رسالة مصر» للمفكر حسين مؤنس حتى تفاجأ بتساؤله الحسير عن سر إصرار الفقهاء على اعتبار أم المؤمنين المصرية السيدة مارية القبطية «جارية» للرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، وليست زوجة له، وهو الأمر الذى ينقل الحسرة لنا نحن المصريين.
واختلفت المصادر التراثية فيما بينها، حول عدد وأسماء أمهات المسلمين، فعدهن الإمام الطبرى بـ12، وهن على حسب الترتيب «السيدة خديجة بنت خويلد وسودة بنت قيس وعائشة بنت أبى بكر وحفصة بنت عمر، وزينب بنت زمعة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث وأم حبيبة بنت أبى سفيان، وصفية بنت حيى بن الأخطب، وميمونة بنت الحارث، وريحانة بنت زيد النضرية»، وأسقط السيدة «مارية» من زوجات الرسول، وهو ما تكرر فى «البداية والنهاية» و«زاد المعاد» وفى أغلب كتب التراث، وهو الأمر الذى يدعونا للبحث عن أسباب إسقاط أم المؤمنين «مارية» من مدونة أسماء زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتبارها جارية وأمة ومحظية.
هنا نفتح هذا الملف.. ونبحث حقيقة وضع أم المؤمنين «مارية القبطية»، معتمدين على 3 من الكتب العمدة فى التراث الإسلامى، وهى «السمط الثمين فى مناقب أمهات المؤمنين» للطبرى، و«زاد المعاد» لابن القيم، و«البداية والنهاية» لابن كثير.
قصة السيدة مارى بنت شمعون
ولدت السيدة «مارى» فى بلدة «حفن» أو الشيخ عبادة حاليا بمركز ملوى محافظة المنيا، وسلبها المقوقس فترة اضطهاد اليونان هى وأختها سيرين وخادمهما «مابوا» من أهلها الذين كانوا من أعيان المصريين، وأشار المقوقس إلى مكانتهما الاجتماعية فى رسالته للرسول، صلى الله عليه وسلم، بقوله «لهما مكان فى القبط عظيم»، بعد أن أرسلهما فى وفادة سياسية للرسول مهادنا قوته الناشئة، حيث كانت مصر تعانى أوضاعا بالغة السوء سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
ولن يضرنا القول بأن «مارية» جاءت أول ما جاءت للرسول «هدية» أو «جارية» للرسول، ذلك أن هذه الصفة كانت محققة مع «مالكها» الأول، وفور وصول السيدة الشريفة أنزلها الرسول فى ضيافة حارثة بن النعمان الأنصارى، فكانت بجوار السيدة عائشة، وكان النبى «يقضى معظم الليل والنهار عندها»، فحزنت لذلك السيدة عائشة، ثم امتد ذلك لأمهات المؤمنين، وتقول السيدة عائشة طبقا للطبرى: «فذعنا لها فجزعت»، أى أن الطبيعة البشرية غلبت أمهات المؤمنين فانزعجت فحولها النبى إلى العالية بضواحى المدينة، وكان يذهب إليها هناك، وبعد سنة تقريبًا أنجبت مارية للنبى ابنه إبراهيم.
وتحدثنا المصادر كالطبرى وابن كثير وابن القيم عن القسط الوافر من المحبة والتكريم الذى أحاط الرسول به «مارية»، فكانت محط هواه حتى قالت السيدة عائشة «ما غرت على امرأة ما غرت على مارية ذلك أنها كانت جميلة من النساء، دعجة فأعجب بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عامة النهار والليل عندها». وتقول أيضاً «عائشة» حسبما نقل الطبرى «وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، معجبًا بأم إبراهيم، وكانت بيضاء جميلة فأنزلها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى العالية التى يقال لها اليوم مشربة أم إبراهيم، وكان رسول الله يختلف إليها هناك»، وقد لاحظ أهل المدينة وأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حبه للمصرية مارية فـأحب الأنصار أن يفرغوها للرسول، دون أن تنشغل بابنها «لما يعلمون من هواه فيها»، وقد أسلمت حتى وصفت فى طبقات ابن سعد بأنها «حسنة الدين».
لكن ما أن هلّ ربيع الأول من العام التالى لوفاة إبراهيم عليه السلام، حتى توفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو راض عنها، وعاشت السيدة مارية بعده خمس سنوات «غريبة»، حتى ماتت فى عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذى كان يحشد الناس لجنازتها ثم صلى عليها ودفنت بالبقيع، وذلك فى السنة السادسة عشرة من محرم، إلى جانب نساء أهل البيت النبوى، وإلى جانب ابنها إبراهيم.
لماذا يصر علماء السير على أن مارية «جارية»؟
تمسك علماء السير بعدد محدود من الشواهد التى حكمت على السيدة «مارية» بـ«الرق»، وربما ساعد على هذا الغبن تزامن حركة التدوين للعلوم ومنها علوم الدين مع تصاعد معارك الشعوبية وعودة العصبيات القبلية والعنصرية واحتقار العرب لغيرهم حتى من المسلمين، الأمر الذى أدى لأن يطلقوا عليهم جميعا اسما مستقلا هو «الموالى» الذى تعرفه كتب اللغة بأنه «العبد أو الأجير»، ومن ثمّ فقد جاءت بعض الشواهد من النصوص الضعيفة على هوى هذا الجو الغالب، كنص «أعتقها ولدها»، الذى قيل إن الرسول قاله فى «مارية» بعد وضعها لإبراهيم، وهو حديث ضعفه الألبانى فى ضعيف الجامع.
كما استند علماء السير أيضا لنص آخر هو: «أيّما أمة ولدت من سيدها فإنها حرّة إذا مات إلا أن يعتقها قبل موته»، واستنوا منه تشريعا بـ«حرية أم الولد»، رغم أن الحديث فى إسناده الحسين بن عبد الله بن عباس، الذى تركه ابن المدينى وغيره، وضعفه أبو حاتم وغيره، وقال البخارى: إنه كان يتهم بالزندقة، ومختلف طرق هذه الأحاديث لا يؤهلها لأن تبنى عليها أحكام، فضلاً عن كونها تتعارض وصحيح وصريح المنقول والمعقول.
وقد تجسدت هذه الصورة الذهنية للسيدة مارية فى تفسيرات أول سورة التحريم «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ * تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ * وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» «التحريم : 1»، فقصة هذه الآية تتعلق بدخول الرسول بالسيدة مارية فى حجرة زوجته «حفصة» فغضبت الأخيرة وظنت أنه ما فعل ذلك إلا لهوانها عليه، فعزم الرسول على هجران السيدة مارية ترضية للسيدة حفصة، فالبرغم من أن الآية ليس فيها ما يصف السيدة مارية بكونها «أمة»، إلا أن جمهور المفسرين تناولوها سلفا عن خلف بهذا الوصف.
كذب الادعاء أن «مارية» جارية
أولا، يهدم كون الرسول محررًا للعبيد، بقاء «مارية» جارية دون زواج، لتكون هى الأمة الوحيدة، التى ظلت على رقها حتى وفاته، علما بأن النبى اعتق 3 من زوجاته قبل زواجه منهن.
ويتعارض وضع السيدة «مارية» مع كون الإسلام كافح الرق الذى كان نظاما بشريا أصيلا، لم يلجأ إلى جبه دفعة واحدة وإنما عالجه بالتدريج كشأنه فى مختلف أحكامه، فجعل العتق من مكفرات الذنوب كاليمين الكاذب والقتل الخطأ والظهار، وكان محمد، صلى الله عليه وسلم. محرر العبيد الأكبر فى تاريخ البشرية، فهو الذى حرر فى حياته قرابة 63 نفسًا بعدد سنوات عمره الشريف، وأعتق «النبى» كل عبيده وإمائه ومنهم حاضنته أم أيمن التى ورثها عن أبيه، وزيد وابنه أسامه، بل وولاهما جيوش الصحابة، فكانا قادة لأسيادهما السابقين، إذن فما الحكمة من وراء استثناء السيدة «مارية» من هذه الرحمة الواسعة، خاصة أن صحيح البخارى ينفى هذا الاستثناء بحديث أن محمدًا «لم يترك عند وفاته درهمًا ولا دينًارا ولا عبدًا ولا جارية».
ولا تتوقف أدلة كون الرسول تزوج من «مارية» عند ذلك، ولكننا نورد عددًا من الأسباب والشواهد الأخرى التى تهدم كون ام المؤمنين القبطية «أمة»، على رأسها، أن المفروض لو كانت «مارية» جارية، أن تكون فى خدمة أحد بيوتات النبى، أو أن تخدم النبى شخصيًا، لكن النبى محمد لم يفعل لا هذا ولا ذاك، بل أنزلها أول الأمر فى ضيافة أحد أصحابه، ثم بعد ذلك ابتنى لها «دويرة» مستقلة فى «العلياء» التى يصفها ابن سعد فى طبقاته بأنها «مكان ذو نبت وماء»، فهى «علياء» بالفعل بالنسبة لجو الصحراء المحيط، وكان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يجرى عليها نفقتها كاملة أسوة بباقى نسائه، وسار على عهده باقى خلفائه، فعاشت مستقلة بنفسها كصواحباتها من زوجاته صلى الله عليه وسلم.
وتميزت السيدة مارية، حسب رواية الفقهاء، بأنها كانت مترفة لا تخدم نفسها، بل ترك الرسول لها خادمها «مابورا»، فكانت لا تملأ الماء ولا تجلب الحطب، وقد اتهم فيها هذا الخادم فأصيبت بحادث إفك شبيه بحادث السيدة عائشة بعد حملها بابن رسول الله «إبراهيم»، إلا أن الله برأها دون تنزيل، والشاهد هنا، كيف كانت «أمة» ولها «عبد» فى عرف من ينحاز لهذه المسميات؟ والحقيقة أنها لم تكن أمة.
وسرت على «مارية» جميع أحكام أمهات المؤمنات الخاصة بهن، ومنها ضرب الحجاب «بمعنى النقاب» على سبيل الوجوب، «وهو الوجوب القاصر فقط على أمهات المؤمنات دون المؤمنات»، ومنها أيضا تحريم زواجها من بعد النبى صلى الله عليه وسلم.
وبفضل السيدة «مارية» كانت مصر البلد الوحيد فى تاريخ الإسلام التى تفتح «عنوة» وتعامل «صلحا»، فلم توزع مثلا أراضى المصريين على المقاتلين، وعومل المصريون بإكرام امتثالا لحديث أَبِى ذَرٍّ فى صحيح مسلم الذى نقل عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِى أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا أَوْ قَالَ ذِمَّةً وَصِهْرًا»، كما تم إعفاء قرية «حفن» التى ولدت بها أم المؤمنين من الخراج واهتم بها الصحابة والتابعون، ولما قدم عبادة بن الصامت إلى مصر أيام عمرو بن العاص، بحث عن هذه القرية وبنى مسجدا يعرف للآن باسم مسجد «سيدى عبادة»، وقد تجدد بعد موته، وسميت القرية باسم قرية الشيخ عبادة، ومن هنا يكون السؤال هل تثاب مصر كل هذه الثوبات من قبل الصحابة بسبب أم المؤمنين مارية، وهى مجرد أمة أو جارية لدى الرسول.
قضية «مارية» تصلح كبداية لتجديد الخطاب الإسلامى
وتجدد قضية السيدة مارية، وهى زوجة للرسول أم جارية، الدعوة لتجديد الخطاب الإسلامى المحاط بآراء والمخالط بتشديدات ليست منه، دون أن يجد من يجدده أو ينقيه، حتى أصبحت حاليًّا مجموعة من أقاويل العلماء السلف الثقات، من متن الدين دون أن يكون لها سند صريح من كلام الله وسنة رسوله.
فالحكم على «مارية» بأنها «عبدة أو جارية» لم يرد فى مصدرى التشريع «النصوص»، وهى القرآن والسنة، فلا توجد آية تقول بأنها جارية ولا حديث صحيح واضح يعطى دلالة على ذلك، ولكن من قال بكون أم المؤمنين «أمة»، عدد من العلماء ووصلوا لذلك باجتهاداتهم، متأثرين بالظروف والنزعات الشعوبية وإعلاء قيمة العرب من البدو على من دونهم من المصريين والفرس والشوام والترك وغيرها من الأمم التى أعزت الإسلام، فى الفترة التى نمت فيها تدوين العلوم الدينية.
وبالطبع لعلماء المسلمين لكن الاحترام، إلا أنهم ليسوا جوهر الدين، كما كانوا متأثرين بظروف عصرهم وتقاليد ديمغرافيتهم، والفتوى تتغير بتغير أضلاعها الثلاثة، تغير الزمان والمكان والظروف، وتفعيل آراء هؤلاء «الثقات» بعد مضى مئات السنين على وفاتهم يجمد الدين ويحجر خطابه، وبالتالى فالدين فى حاجة إلى الإنعاش والتجديد الفقهى والفكرى وحاجة تراثه القديم إلى الفحص والتمحيص والتدقيق ثم إعادة الإخراج من هيئات ذات ثقة ومصداقية بشكل يليق بعظمة الإسلام.
فهل يعقل أن يحرّم الإسلام النحت والتصوير والرسم والموسيقى وسائر الفنون «شريطة انضباطها»؟.. هل يعقل أن يكون الاختلاط المحترم فى المصالح والمعايش محرما وهو موجود فى الكعبة، هل يصح أن تعتقل المرأة داخل جدران البيت والملحفة وأن يناقش أهليتها مع السفيه والمجنون والقاصر وذى الحاجة؟؟.. لقد غير الإمام الشافعى مذهبه فى العراق عندما قدم إلى مصر وكان لا يزال فى ذات العصر وظروف مشابهة، أما نحن الآن مازلنا ندرس مذاهب لها سبعمائة عام دون تغيير، ونحتكم إلى كتب أصحابها ثقات، لكنهم لو بعثوا لعادوا على كل ما كتبوه بالنسخ كما فعل الشافعى، فكل شىء تغير.
ويتغذى المتطرفون على الإرث المنفصل عن الواقع، ونزيد تطرفهم ببعدنا المخزى عن الإسلام وقيمه، وهو ما يدعونا للتعامل مع تراثنا الدينى بمشرط حساس، متورع، يحترم كل علماء الأمة الثقات من أخطأ منهم ومن أصحاب، فالهدف ليس التجريح والهدم، وإنما البناء واستجلاء عظمة الإسلام، هذه القضية هى القضية التى تثيرها السيدة مارية بنت شمعون أم المؤمنين، رضى الله عنها.
براءة «مارية» من حادثة الإفك
كتب - عبد الرحمن مقلد
لم تك قضية زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية، واعتبار رجال السير والتراجم أنها كانت جارية، وليست زوجة له، الإساءة الوحيدة التى تعرضت لها أم المؤمنين، ولكنها اتهمت فى حادثة إفك شبيهة بالحادث الذى اتهمت فيه أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، وبرأها الله منها أيضا.
واتهمت السيدة مارية بالزنا فى حياة الرسول مع خادمها المصرى «مأبور»، حيث اتهمه البعض بالدخول عليها، إلى أن برؤت منها، حيث اكتشف أن الخادم «مجبوب» أى ليس له ذكر.
وورد فى صحيح مسلم، من حديث زهير بن حرب قال حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس «أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، «مارية» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ«على» اذهب فاضرب عنقه، فأتاه على فإذا هو فى ركى يتبرد فيها، فقال له «على» أخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب، ليس له ذكر، فكف على عنه ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر».
وأورد ابن عبد الحكم فى كتابه «فتوح مصر» طبعة الذخائر صفحة 70 بسنده أن رسول الله دخل على مارية القبطية أم ولده إبراهيم فوجد عندها نسيبا لها قدم معها من مصر، وكان كثيرا ما يدخل عليها فوقع فى نفسه شىء، فرجع فلقيه «عمر بن الخطاب» فعرف ذلك فى وجهه فسأله فأخبره، فأخذ عمر السيف ثم دخل على مارية وقريبها عندها، فأهوى إليه بالسيف فلما رأى ذلك كشف عن نفسه وكان مجبوبا ليس بين رجليه شىء فلما رآه عمر رجع إلى رسول الله فأخبره فقال: «إن جبرائيل أتانى فأخبرنى أن الله تعالى قد برأها وقريبها وأن فى بطنها غلاما منى وأنه أشبه الناس بى وأنه أمرنى أن أسميه إبراهيم وكنانى أبا إبراهيم».