قبل أن يلملم العام الماضى آخر أيامه شهدت الخرطوم عصيانا مدنيا بسبب قرارات اقتصادية مجحفة من الحكومة السودانية تبعتها حملة اعتقالات سياسية لمن أنتقدها، وكان هذا العصيان الذى دعا له بعض القوى الشبابية بمثابة حجرا أٌلقى فى المياه الراكدة زلزلت استقرار النظام السودانى الجالس على عرش الحكم لما يقرب من ثلاثة عقود، ونشطت حركات معارضة هنا وهناك وأقامت فعاليات نجحت بشكل جزئى فى اجتذاب قوى شعبية رافضة لسياسات الرئيس عمر البشير إلا أنها افتقدت لرأس تقودها للوصول الى نتيجة ملموسة.
ولم ينقض الشهر الأول من العام الجديد حتى برز فى صدارة المشهد إعلان الصادق المهدى زعيم حزب الأمة المعارض عن عودته للسودان بعد غياب دام ثلاثين شهرا عن البلاد قضاها فى القاهرة، التى اعتبرها البعض منفى اختيارى قرر الذهاب له فور إطلاق سراحه من المعتقل الذى وضع فيه لشهرين عام 2014، على إثر انتقاده لانتهاكات ضد المدنيين فى إقليم دارفور من قبل قوات شبه عسكرية تقاتل إلى جانب الحكومة.
عودة المهدى ربطها المراقبون بتشتت المعارضة السودانية وفقدانها لزعيم تتوحد حوله فى مواجهة النظام السودانى، خاصة أن نائب رئيس حزب الأمة فضل الله برمه ناصر الذى أعلن خبر عودة المهدى قال أنه "أنجز مهاما وطنية وحزبية خلال هذه الفترة"، دون أن يحدد ما هى طبيعة المهام الوطنية التى أنجزها وسيعلن عنها فور عودته.
المهدى وقبل مغادرة القاهرة رسم ملامح الخريطة التى سيتحرك وفقا لها فور عودته لوطنه، حيث أكد أنه سيقوم بعمل لقاء مفتوح، سيشرح فيه ما أنجزه فترة وجوده بالخارج، وماذا يتوقع فى القادم، لافتا الى أنه سيسعى الى زيارة الأقاليم السودانية فى اطار تعبئة شعبية كبيرة بالتنسيق مع الشباب الثورى الذين نفذوا العصيان المدنى.
ويسعى زعيم المعارضة العائد من المنفى الى ضم جميع اطياف المعارضة تحت مظلة واحدة حيث تحدث عن تحالف "نداء السودان" الذى تأسس فى ديسمبر 2014 فى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا من قبل قوى سياسية معارضة مدنية ومسلحة ومن بينهم حزب الأمة، إلا أنه حتى الأن لم يصل إلى ما كان يصبوا إليه فيما يخص قضايا الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
وأشار المهدى الى أن قوى "نداء السودان" عقدت اجتماعها مؤخرا فى باريس وتم وضع تصور لأجندة الاعمال القادمة، ولاسيما ما يتعلق بالهيكل التنظيمى لقوى "نداء السودان"، وما يتعلق بالحوار السياسي.
المعارضة السودانية تلقفت خبر عودة المهدى بترحاب أملا فى أن يشكل لهم مظلة قوية، حيث أعلنت قوى النداء دعمها الكامل لقرار العودة للداخل ووضعه خطة للعمل التعبوى والسياسى للتحالف ،وأعتبر أن عودة المهدى ستشكل إضافة كبيرة للحراك الجماهيرى المتصاعد، أملا فى السير بخطى ثابتة للعمل المشترك مع كل القوى السياسية من أجل وحدة المعارضة الشعبية وانتظام صفوفها.
وأعلن حزب المؤتمر الشعبي، عن ترحيبه بعودة المهدى مؤكداً أنها تعد إضافة حقيقية فى ظل المناخ السائد الآن، وقال مسئول المؤتمر الشعبى فى العاصمة الخرطوم، آدم الطاهر حمدون، فى بيان صحفى ، "إن الوطن يحتاج للتضامن حتى يتعافى ويتجاوز الجميع المرارات والجراحات".
ولم تصدر أى تعليقات من الحكومة على عودة المهدى بخلاف ترحيب حذر جاء على لسان مساعد الرئيس السودانى إبراهيم محمود، نائب رئيس حزب المؤتمر الوطنى الحاكم، خلال لقائه منذ يومين بالمكتب التنفيذى لأمانة الشباب بحزب المؤتمر الوطني، ورحب خلاله بعودة رئيس حزب الأمة ومشاركته فى العملية السياسية، لافتًا إلى أن الباب ما زال مفتوحًا لعودة الممانعين للمساهمة فى استقرار ونهضة البلاد .
إلا أن هذا الترحيب عقبه محاولة عرقلة من قبل الحكومة للاحتفالات الشعبية التى نظمها حزب الأمه لاستقبال زعيمه، حيث اتهم الحزب الحكومة السودانية، بعرقلة استقبال المهدى وذلك بإقامة الاحتفال بذكرى تحرير الخرطوم فى ميدان الخليفة فى أمدرمان، وهو المكان الذى اختاره الحزب لاستقبال زعيمه، واعتبرت مريم الصادق المهدي، نائبة رئيس حزب الأمة، أن مسألة إعاقة استقبال المهدى أو التقليل من أمر عودته هى سياسة وتوجيهات صادرة من جهات العليا.
وإذا كان المشهد العام يحمل ترحيب القوى المعارضة بعودة المهدى وتلميح البعض لإمكانية أن يكون إضافة لهم لما له من خبره سياسية وحزبية إلا أن الشيطان دائما يكمن فى التفاصيل، حيث على مدار ثلاثة عقود متتالية عانت المعارضة السياسية فى السودان من خلافا وجدلا فيما بينها على الزعامة والصدارة، وقد يرى البعض أن اقتراح المهدى بإعادة هيكلة قوى نداء السودان يكمن خلفه رغبة فى الزعامة وطمعا فى الحكم، وهو السم الذى قد يطيح بالطبخة من الأساس، فتعود قوى المعارضة مجددا للتناحر فيما بينها والبعد عن الهدف الأساسى بتحقيق حكم ديمقراطى.