اعتدى بعض الجنود المصريين على بحار فرنسى، بسبب تعمد هذا البحار جرح عواطف هؤلاء الجنود، وبرغم قيام السلطات المصرية بمعاقبة الجنود بكل صرامة وحزم فإن القنصل الفرنسى فى مصر لم يعجبه نوع ودرجة العقاب.
وقع الحدث بعد أيام من تولى «إسماعيل باشا» حكم مصر «18 يناير 1863» خلفا لعمه سعيد باشا، والقصة يرويها الدكتور مصطفى الحفناوى فى الجزء الثانى من كتابه «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة» عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة» وفيها: «بعث القنصل بإنذار مؤرخ فى 2 فبراير «مثل هذا اليوم» 1863، إلى الحكومة وشفع إنذاره بالتهديد بإنزال قوات بحرية فى الإسكندرية من إحدى قطع الأسطول الفرنسى التى كانت موجودة بطريق الصدفة».
صمم القنصل على تنفيذ تهديده فى حالة عدم إقدام السلطات المصرية على تجريد الضابط الذى كان يرأس الجنود من رتبته العسكرية، وزاد فى مطالبه بأن صمم أيضاً على «شد وثاق الضابط هو والجنود الذين اتهمهم البحار الفرنسى، ويصلبون لمدة ساعة أمام القنصلية الفرنسية، ويتفرج الناس على هذا المنظر».
يشير «الحفناوى» إلى أن مطلب القنصل لفرجة الناس على صلب الجنود والضابط، كان ليفهموا أنه «هو الحكم بأمره»، ويعلق «الحفناوى»: «المدهش أن إسماعيل أجاب هذا الطلب الإجرامى الذى أطمع فيه قنصل فرنسا وسائر القناصل، والعجيب أن يحصل هذا وقت أن أرسل إسماعيل فيلقا مصريا ليحارب فى المكسيك تحت الراية الفرنسية مجاملة منه لفرنسا، وكان يسكن مصر من رعايا فرنسا فى ذلك الحين خمسة وعشرون ألفا هبطوا عليها من كل صوب ليجمعوا المال الحرام، وينهبوا مصر ما استطاعوا إلى النهب سبيلا، وشهد قنصل فرنسا نفسه بأن التعويضات التى كان يطلبها هؤلاء لم تكن مشروعة بل كانت خيالية».
هذه القصة المعبرة عن بشاعة إذلال المصريين، يذكرها «الحفناوى» فى سياق حديثه عن أسباب ارتفاع ديون مصر فى عهد إسماعيل فى نهاية حكمه سنة 1879 إلى واحد وتسعين مليون جنيه، بعد أن كانت ثلاثة ملايين واثنتين وتسعين وألفا وثمانمائة من الجنيهات الإسترلينية فى عهد سعيد الذى حكم مصر من «24 يوليو 1854 إلى 18 يناير 1963»، وبالرغم من أن القصة حسب تاريخها وقعت بعد نحو أسبوعين من تولى «إسماعيل» للحكم، إلا أنها كانت مؤشراً لما سيكون عليه طريقة تعامل «الحاكم الجديد» للأجانب فى مصر وكيفية مواجهة مدى نفوذهم، ويذكر «الحفناوى» أن أسباب مأساة «ديون إسماعيل» يمكن تلخيصها فى:
أولاً: «ميله إلى الترف والأبهة، فكان محبا لمظاهر الأبهة شغوفا بحفلات الرقص وإقامة الولائم الفاخرة وبناء القصور الشاهقة والمبالغة فى الإنفاق على تأسيسها وصيانتها، وكان يجود على غير المستحقين من أموال الدولة، وقت أن كان الشعب يتضور من الجوع، وكانت السياط تلهب ظهور دافعى الضرائب، من ذلك أنه تبرع فى سنة 1869 بمبلغ مائة ألف فرنك لإعانة منكوبى مجاعة ظهرت فى «كريت» اليونانية، وكانت خزانة الدولة على شفا الإفلاس حينما قرر الاحتفال بافتتاح قناة السويس فى 17 نوفمبر سنة 1869، ومع ذلك سافر إلى أوروبا فى مركب ملكى محاط بأكبر مظاهر الأبهة ودعا أربعة من ذوى الرؤوس المتوجة، وسبعة آلاف جاءوا من مختلف جهات الأرض، وتكلف بيت المال بنفقات سفرهم وعودتهم إلى بلادهم وإقامتهم فى مصر بعض الوقت، ونصب لهم الولائم والحفلات الراقصة فى بلاد منطقة القناة وفى العاصمة، ويقال إن مجموع ما أنفق فيها تجاوز خمسة ملايين من الجنيهات».
أما السبب الثانى فى أسباب مأساة ديون إسماعيل فهو: «استمرار طريقة المطالبات التى كان يتقدم بها الأوروبيون مؤيدين بنفوذ دولتهم والغرامات التى كانت تدفع لهم من غير مقتضى»، ويذكر «الحفناوى» قصة الجنود والبحار الفرنسى دليلا على ذلك، ويضيف: «دفع إسماعيل لبحارة شركة «ميساجرى أمبريال» مبلغ مائة ألف فرنك كتعويض بدعوى أنه أسيئت معاملتهم، وتعددت هدايا إسماعيل لقناصل الدول، وكانت أشبه بالرشاوى التى أريد بها التخلص من شرورهم ومضايقتهم له، ومن ذلك أنه منح قنصل البرتغال مزرعة بلغت مساحتها ثلاثمائة فدان ومنح قنصل إسبانيا فى طريق شبرا، مائتى فدان، وأعطى منحا أخرى لقناصل السويد وفرنسا وغيرهما».