حدثان مهمان شهدتهما الساحتان السياسية والإعلامية بالتزامن، أمس السبت، الأول حكم القضاء الإدارى برفض الدعوى المرفوعة من أحد المحامين، بشأن حل حزب النور السلفى وتصفية أمواله ومقراته، وكانت أبرز الحيثيات تتصل بنقطة عدم الاختصاص وتحريك الدعوى من غير ذى صفة، والحدث الثانى الإعلان عن وفاة عمر عبد الرحمن، مفتى الدم الأبرز فى العقود الثلاثة الأخيرة وصاحب فتوى قتل الرئيس السادات، والأب الروحى للجماعة الإسلامية، أبرز منابع الإرهاب فى مصر السبعينيات والثمانينيات، ولا تجاوز إن قلنا حتى الآن.
حكم "النور" ووفاة عمر عبدالرحمن.. وقفة مع "الإرهاب الناعم"
بداية، نؤكد كامل الاحترام لحكم القضاء الإدارى بشأن حزب النور، ونعدّه عنوانًا للحقيقة كما هى أحكام القضاء دومًا، ولكن الأمر لا ينفصل فى رؤيته الموضوعية عن منطوق الحكم وتفاصيل حيثياته، والتى كان أبرزها أنه لا يحق لأحد تحريك دعوى لحل حزب سياسى أُسس على صحيح القانون، وأن السلطة الوحيدة للجنة شؤون الأحزاب، لها أن تتخذ هذه الإجراءات، وللمختلف أن يختصم اللجنة لا الحزب، ما يشير فى معنى من معانيه إلا أن الحكم لا يحمل قطعًا بشرعية حزب النور، ولكنه يتعلق بالمسارات القانونية، وربما يتقصير ما من جانب لجنة شؤون الأحزاب.
على صعيد الحدث الثانى، ربما لم يكن خبر وفاة عمر عبد الرحمن فى ذاته خبرا صادما، الرجل شبه ميت منذ عقدين تقريبا، بعيدًا عن أفكاره المتطرفة والإرهابية الحاضرة دومًا والداعمة لفيالق من المجرمين والإرهابيين، ولكنه فعليا، ومنذ إدانته ودخوله سجون الولايات المتحدة الأمريكية، غاب غياب الميتين، وربما كان الخبر إحياء لاسمه الذى غاب تمامًا، على الأقل منذ غياب جماعة الإخوان وإنهاء فترة حكمها، باعتبار شعار الإفراج عن مفتى الدم والأب الروحى للإرهاب، كان واحدًا من شعاراتها المعلنة، ورغم عادية خبر الوفاة وضآلته الشديدة إلى حد أنه لا يمثل حدثًا ملفتًا فى ذاته، حمل على هامشه أحداثًا وتفاصيل عديدة، غير منبتة الصلة بوضع حزب النور الملتبس، رغم تأمين موقفه القانونى، مرحليا على الأقل، فالرجل المتورط فى جريمة قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، بالفتوى والتحريض على الأقل، والمحرض على نجيب محفوظ، والزعيم والقيادة الروحية للجماعة الإسلامية بتاريخها الطويل من السفالة والإرهاب المتأسلم، فى مديرية أمن أسيوط، وفى استهداف وزيرى الداخلية السابقين حسن أبو باشا والنبوى إسماعيل، وفى حادث الأقصر، وقائمة طويلة من التفجيرات ومحاولات الاغتيال والعمليات الإرهابية، كان فرصة جديدة لكشف حقيقة "الإرهاب الناعم"، الذى نجح فى ترتيب حضور قانونى فى الساحة السياسية المصرية، بينما تغض الدولة الطرف عن خطورته، وانتهاكه لقيم المدنية المصرية ومعاييرها، وللدستور والقانون، إذ كشفت وفاة الرجل عن الجوهر المتطرف القار خلف اللافتات الحزبية، عبر بيان استفزازى ينعى عمر عبد الرحمن، ويعيد إنتاج كل جرائمه وجرائم الجماعة الإرهابية بأثر رجعى، ويهين سلسال الدم الذى أراقته الجماعة الإسلامية وأراقه الإرهابى الراحل بآرائه وفتاواه، والصادم أنه صادر عن حزب سياسى قانونى، حزب البناء والتنمية، الجناح الإرهابى الناعم للجماعة الإسلامية الإرهابية الخشنة.
ثورة 25 يناير.. انتفاضة المصريين تفتح الباب للإرهابيين
لا نحتاج للتأكيد على مرجعية وحجية الدستور المصرى، فى كل ما يخص المجال العام وتنظيمه، والضبط القانونى لهيكل الدولة المصرية وعلاقات المؤسسات والقوى الفاعلية داخلها، وضمن هذه الحجية تحضر ثورة 25 يناير كنص دستورى ثابت ضمن الديباجة، التى تعد جزءًا أصيلا من الدستور ومدخلا أوليًّا له، وهو ما ينسجم مع انحيازات ملايين المصريين التى نزلت الشوارع مدافعة عن شباب مصر وحيويتها فى وجه شيخوخة وتكلس النظام القديم، ولكن كأى حدث اجتماعى وسياسى كبير وذى أثر يكافئ حجمه وحضوره، حملت ثورة 25 يناير باقة آثار سلبية ضمن ما حملت من آثار ونتائج، إذ كانت فى وجه منها مدخلاً لعدد من الرموز والنشطاء والوجوه المشبوهة لتحقيق مصالح شخصية وتحصيل أموال وامتيازات على حساب الثورة وشعاراتها، ولكن فى وجهها الأكثر حدّة وصدامية واستفزازا، كانت مدخلا ذهبيا وبابا ملكيا مفتوحا على مصراعيه للإرهاب، ليرتدى حلّة شرعية، ويكتسب توصيفا قانونيا ناعمًا.
فى الأسابيع الأولى التالية للثورة، عقب نجاح التحركات الشعبية فى إنهاء حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى الحادى عشر من فبراير 2011، بدأت رحلة التيارات الإسلامية المتطرفة مع إصابة حظها من الحضور الرسمى الناعم و"المقنن"، بدأت الخطوة الأولى بنجاح أبو العلا ماضى فى انتزاع موافقة لجنة شؤون الأحزاب على تأسيس حزبه "الوسط"، الذى ظل معلّقًا أمام اللجنة منذ تسعينيات القرن الماضى، ليفتح "وسط أبو العلا" الباب لطوابير الإسلاميين بدءا من فبراير 2011، مستغلا حالة التوتر والارتباك التى تلت الثورة، وخوف مؤسسات الدولة وقياداتها، واهتزازهم بمؤسساتهم وبالقانون أمام أى ضغط يخرج من الميادين أو يرفع شعارات ثورية فى وجوههم، ما مهّد الطريق لانفجار من الأحزاب الدينية على درب "أبو العلا ماضى"، بدأ بالحرية والعدالة حزب جماعة الإخوان، ثم "النور" حزب الدعوة السلفية بالإسكندرية، وتوسعت القائمة لتضم "الفضيلة"، و"الأصالة" و"النهضة"، وصولاً إلى "البناء والتنمية"، نكتة الأحزاب الدينية وصاحب وجهها الأقبح، ليس فقط لأنه يتبع "الجماعة الإسلامية" صاحبة التاريخ الدموى الطويل، ولكن لأن قائمة وكلاء مؤسسيه ضمت طارق الزمر، وصفوت عبد الغنى، المدانين بالتاريخ والقانون والسوابق، منذ ثمانينيات القرن العشرين، وحتى جرائمهم فى دعم الإخوان والدفاع عنهم وتسهيل تحركات عناصرهم المعادية للدولة المصرية ومؤسساتها.
الأحزاب الدينية تقتل الدستور بـ"الدستور".. فهل من وقفة؟
إذا تخلينا عن أى موقف مسبق بشأن فكرة وجود أحزاب سياسية ذات مرجعية دينية، رغم ما فيه من وجاهة، وحاولنا النظر إلى التجربة من داخلها، فلن نجد ما يشفع لهذه الأحزاب ويبرر أفعالها وبقاءها فى الساحة السياسية.
الثابث أن الدستور ينص على المرجعية الإسلامية فى إطار التشريع والضبط القانونى، ما يعنى ألا تخالف القوانين الأحكام العمومية والمستقرة فى الشريعة، وهو أمر متحقق بالفعل وفق آراء جمهرة معتبرة من العلماء والفقهاء الشرعيين والقانونيين، ولكن الجانب الغائب عن النظر أن الدستور ينص على عدم جواز تأسيس الأحزاب والمؤسسات المدنية على أرضية عقدية، أو وفق أى انحياز دينى أو ثقافى أو جغرافى أو اجتماعى، يحمل فى داخله مفرزة للمصريين على أرضية الانتماءات الأولية ودوائر الولاءات الصغيرة، بينما لدينا الآن 6 أحزاب دينية متطرفة، من أصل 7 أحزاب تقلص عددها بحل "الحرية والعدالة" الذراع السياسية لجماعة الإخوان، تمثل جريمة واضحة فى جبين الحياة السياسية المصرية، وتدين لجنة شؤون الأحزاب التى تصمت على هذا التجاوز، وتتقاعس عن اتخاذ إجراءات جادة وصارمة ضد هذه التجمعات المعادية للهوية المصرية ومدنية الدولة وقيم المواطنة وتكافؤ الفرص والحقوق والواجبات.
لن يتأتى لعاقل ومنصف وموضوعى، أن يدحض تهمة الانحياز والعنصرية والفرز الدينى والطائفى الثابتة فى حق الأحزاب الدينية، التى تضم قوائم مؤسسيها أسماء هامشية لأقباط ونساء لاستيفاء الاشتراطات القانونية، بينما لا تحضر هذه الأسماء حضورا فاعلا فى الهياكل التنظيمية والتحركات العملية واللجان والمؤتمرات والفعاليات الجماهيرية، ولم يدفع أى حزب منها، خاصة النور باعتباره ممثلا فى مجلس النواب، بمرشحات على المقاعد الفردية فى بعض الدوائر، فقط استجاب إجباريا لترشيح نساء على قوائمه الانتخابية، والمتابعة تشير إلى أنه فى منافسته على القوائم لم يكن جادا، أخلى دائرتين ونافس فى دائرتين بقائمتين ضعيفتين، فيما يبدو أن إشارة على رغبة عميقة لديه فى ألا يكون معبرا للنساء والأقباط إلى البرلمان، بعيدًا عن فكرة تآكل شعبيته وتراجع حضوره فى الساحة السياسية، ولكن حجم دعمه للقائمة وترويجه لها وإنفاقه عليها ومساندتها بالمؤتمرات والفعاليات الجماهيرية، كلها أمور تؤكد أن الحزب يرفض أن يكون حزبا للمصريين، ويقبل عقاب نفسه والخصم من فرصه فى المنافسة، حتى يعاقب النساء والأقباط، الذين لا يتورع قياداته ورموزه وآباؤه الروحيين عن إطلاق التصريحات المستفزة والعدائية ضدهم بين وقت وآخر.
هل تصعد الأحزاب الدينية للسلطة بالديمقراطية لتقتل الديمقراطية؟
فى العام 1992 حققت الجبهة الإسلامية للإنقاذ فى الجزائر، أغلبية فى الانتخابات البرلمانية، وانقلبت على الديمقراطية بشكل سريع، إلى حد قول نائب رئيس الجبهة، على بلحاج، إننا "جئنا بالديمقراطية لكى نقول لها وداعا"، وهو ما قاد الجزائر إلى عشرية سوداء من الصراع المسلح والصدام بين الدولة والإرهاب المتأسلم.
على الصعيد المصرى، فإن التمسنا حُسن النية وقيم القبول والتعايش المشترك، للتغاضى عن فكرة وجود أحزاب "النهضة" و"الوسط" و"الفضيلة" و"الأصالة" و"النور" و"البناء والتنمية"، فهل نضمن ألا تعيد الأحزاب الدينية إنتاج السيناريو الجزائرى؟ وكيف نتغاضى عن خلافهم الواصل لدرجة الصدام مع الدستور وقيم المدنية والمواطنة؟ كيف نتغاضى عن تصريحاتهم العدائية ضد مكونات المجتمع المصرى وفئاته وألوان نسيجه؟ كيف نتغاضى عن تورط قيادات وأعضاء الوسط والأصالة والفضيلة وغيرها فى دعم جماعة الإخوان والاصطفاف بجانبها ضد الدولة المصرية؟ وكيف نتغاضى عن تطرف حزب النور وتصريحات ياسر برهامى وغيره من آبائه وقياداته المستفزة والرجعية؟ وكيف نتغاضى عن بيان "البناء والتنمية" المستفز فى رثاء ونعى الإرهابى ومفتى الدم عمر عبد الرحمن؟ وهل لنا أن نسأل عن وقفة جادة؟
مصر تستحق ما هو أفضل بالتأكيد، وفى بلد يُفتش عن ذاته، ويسعى لاستعادة هويته وحيويته ونصاعة وجهه التى شوهتها جماعة الإخوان وحلفاؤها، وساهمت فى التشويه تيارات وفصائل دينية عديدة، لا يمكن القبول بإخلاء مساحة قانونية لـ"الإرهاب الناعم"، ولا بأن نترك منفذا شرعيا لمن يعادون مدنية مصر ويخصمون من رصيدها الحضارى ويُرهبون مواطنيها ويفرقون بينهم، لتكون لهم منصات شرعية، قد تقودهم فى غفلة من الزمن واستهانة من الناس، إلى مؤسسات الحكم على اختلافها، هذا ما تسمح به المنظومة الديمقراطية، وهذا ما حدث مع الإخوان، وهذا ما يُحتمل تكراره ما دمنا نسمح بهذه الجريمة الحزبية.