خرج عبدالله النديم من بيته لا يصحبه إلا خادم له، واختفى فى بيت صديق له فى بولاق، وبعد عشرة أيام خرج غريب الهيئة، يلبس «زعبوطا» أحمر، وعمامة ضخمة حمراء، وعلى عينيه منديل كبير، وفى يمناه عكاز عتيق يتوكأ عليه، وطالت لحيته وابيضت أطرافها، وخلفه خادم له يحمل بعض الزاد الخفيف، وحسب أحمد بهاء الدين فى كتابه «أيام لها تاريخ» عن «دار الهلال - القاهرة»: «سار الاثنان يتعثران إلى ساحل النيل فى بولاق»، وكان هذا شكل «النديم» فى أول ظهور له بعد اختفائه عن الأنظار فور هزيمة الثورة العرابية وكان هو خطيبها وشاعرها، واختار الاختفاء فى الوقت الذى تم فيه القبض على قادتها والمشاركين فيها.
دام الاختفاء 9 سنوات، وبدأه كما يقول «بهاء» بركوبه سفينة نيلية إلى قرية «ميت الغرقا» قرب «بنها» ونزل فى ضيافة صديق قديم له من أعيانها، وبعد أيام انهارت أعصاب خادمه، وأراد أن يتركه، وخشى النديم إذا تركه أن يدل عليه، فأحضر جريدة «الوقائع المصرية» وقرأ فيها قليلاً- وكان الخادم أمياً- ثم أظهر أنه فزع فجأة، وضرب كفاً بكف، وسأله الخادم: ما الخبر؟، فقال له: «لقد جعلت الحكومة ألف جنيه لمن يرشد عنى، وخمسة آلاف جنيه لمن يأتيها برأسك، فارتعد الخادم، وأصبح من يومها أكثر اهتماماً بالاختفاء من سيده، وظل كذلك طوال السنوات التسعة، وانتقل إلى قرية «العتوة» بمحافظة الغربية مختفياً عند عمدتها محمد الهمشرى، ثم فر منها بعد ثلاث سنوات نتيجة وشاية، وذهب إلى قرية «الجميزة»، وبعد سنوات قبض عليه بوشاية لمخبر.
استثمر «النديم» سنوات الاختفاء فى التأليف والكتابة «بالرغم من وحشة الأماكن وظلمتها لدرجة أنه لم يعرف فيها الليل من النهار، ولم يتمكن من الكتابة أو القراءة إلا على ضوء مصباح صغير من الغاز الكثير الدخان، وصنع الحبر من هباب الفرن، واستطاع تأليف 20 كتابا فى ألوان شتى من الآداب والعلوم والفنون» وفقاً للمؤرخ الدكتور «عبدالمنعم الجميعى» فى دراسته التى قدم بها أحد هذه الكتب، وهو «كان ويكون» عن «دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة».
يعد تأليف «كان ويكون» دراما متفردة تفرد «النديم»، ففى مقدمته للكتاب يذكر أنه بدأ كتابته يوم الخميس 8 مارس «مثل هذا اليوم» 1883 «فى قاعة ظلماء وحيداً بعيداً عن العلماء والكتيبات والجرائد مختفيا متغيبا عن الجواسيس والعيون»، ويذكر «الجميعى» أن «النديم» كتب مقدمة الكتاب ثم تذكر صديقاً فرنسياً قديماً، حضر إلى مصر ليكتب عن أحداثها عن قرب، وتعرف عليه فى الإسكندرية عام 1875، ولم يعد إلى أوروبا كما فعل غيره من الأوروبيين، وكان له ضيعة كبيرة قريبة من قرية «العتوة» مخبأ «النديم»، ففكر فى الاستعانة به كى يمده بالأخبار والحوادث التى تساعده على تنفيذ كتابه، وتشاور النديم مع العمدة «الهمشرى»، طالباً منه الاتصال بهذا الصديق، لكن العمدة أخذ يراجعه ساعتين، متسائلا: «كيف يأتمن على سره شخصاً أجنبياً، لكن النديم طمأنه وحمله رسالة ذهب بها إلى الخواجة الفرنسى الذى سلمها له، فقرأها ثم أعطاها لزوجته فقرأتها ثم أعادتها إليه، فمزقها إربا زيادة فى الحذر، ونظرا لتواجد بعض الناس فى مجلس الخواجة أثناء ذلك، قام الخواجة بتمويه الأمر عليهم، فقال للهمشرى غاضبا: «قل له احفظ لى حقى عندك قبل كل إنسان حتى آتيك ونتحاسب وإياك أن تمد يدك لبنك أو خواجة»، وعاد الهمشرى بما سمع، فاستبشر النديم خيرا، وأوضح للعمدة مقصد ومعنى كلام الخواجة.
خلال انتظار النديم للخواجة، زار مأمور المركز منزل الهمشرى بالصدفة، وحضر الخواجة مرتديا جبة وقفطانا وعمامة ومتلفعا بحزام أبيض على هيئة مشايخ القبيلة، ودخل المضيفة ولما وجد فيها المأمور تحول إلى قاعة أخرى دون أن ينتبه المأمور، ومنها دخل إلى غرفة النديم الذى عرفه من صوته، فتعانقا عناقا طويلا تخلله ضحك وبكاء، ودار الكلام، وأخبره النديم بنيته التأليف والكتابة وطلب مساعدته بإحضار الكتب التاريخية اللازمة، فعرض الخواجة المشاركة فى هذا العمل، ولما تناقشا فى خطة الكتابة انتهيا إلى أن تكون على هيئة مناظرة بينهما، فيتقدم الفرنسى بأسئلة حول المشكلات الدينية لخلافات السياسة والتاريخ بين الشرق والغرب وعادات الأمم المختلفة والمقارنة بينها، وأصل الأديان وفلسفتها، ويجيب عليها النديم إجابات صريحة، واتفقا على أن يزور الفرنسى النديم فى مخبئه على فترات وصلت يوميا أحيانا، وطلب الفرنسى من النديم ألا يذكر اسمه إلا فى أواخر الكتاب، وطبقاً لـ«الجميعى»: «لما كان الكتاب لم يكتمل فإننا لم نعرف اسم الفرنسى إلى الآن».