خطير هو شأن التوقعات والإشارات فى مجال الاقتصاد! فبينما ترجّح النظرية اتجاهاً شبه يقينى لاستجابة الأسواق لمتغيرات بعينها، تأتى التوقعات والإشارات لتعيد توجيه تلك الاستجابة وربما لتعكسها بشكل تام..هذا تحديداً ما حدث بعيد إعلان الفيدرالى الأمريكى يوم الأربعاء الماضى رفع أسعار الفائدة بواقع 25 نقطة أساس لتتراوح أسعار الفائدة بين 0.75% و 1% وهى الزيادة الثالثة للفائدة منذ أزمة الرهن العقارى الشهيرة فى 2008، والثانية فى ستة أشهر.
انتظر العالم ارتفاعاً قوياً فى الدولار وتراجعاً فى مؤشرات داوجونز الصناعى وناسداك وإس آند بى 500 S&P500 لكن ما حدث هو العكس تماماً! هنا يأتى دور التوقعات والإشارات ليغيّر كل شىء فى المعادلة.
السياسة النقدية الأمريكية هى استهداف التضخم (نفس السياسة النقدية فى مصر ومعظم دول العالم) وهى سياسة تضع مستوى عاماً للأسعار لا ينبغى تجاوزه وإلا صار الاقتصاد ينمو بأسرع مما يجب، بما يترتب على ذلك من أزمات تتعلق بانقلاب الدورة الاقتصادية وكساد الأسواق وتراجع مستوى التشغيل..إلى غير ذلك من آثار.
المستوى المستهدف لمعدلات التضخم فى الولايات المتحدة هو 2%، وقد تجاوزته معدلات التضخم الأساسى أكثر من مرة خلال العام الحالى، بما أعطى إشارة هامة لضرورة استخدام أهم أدوات السياسة النقدية لكبح التضخم وامتصاص السيولة وخفض المعروض النقدى فى الأسواق ألا وهى أسعار الفائدة.
رفع أسعار الفائدة على عمله ما ينعكس بشكل مباشر على معدلات التضخم، ويرفع الطلب على تلك العملة، وتنافس العائدات الجديدة للودائع والأوعية الادخارية المصرفية المختلفة الكثير من بدائل الاستثمار، سواء الاستثمار المباشر (والذى يثبّط أيضاً بفعل ارتفاع تكلفة الاقتراض) أو استثمارات الحافظة من خلال البورصة، لذا فالأثر المباشر عادة ما يكون ارتفاع سعر صرف العملة (التى ارتفعت أسعار فائدتها) مقابل العملات الأخرى وتراجع أسعار الأسهم المتداولة فى البورصة، وهو ما لم يحدث بعيد قرار الفيدرالى الأمريكى الأخير!
إذن لماذا تراجع الدولار نسبيا وارتفعت مؤشرات الأسهم الأمريكية رغم ترقب العكس؟
السبب فى تراجع الدولار نسبياً وارتفاع مؤشرات الأسهم الأمريكية فى اليوم التالى للقرار هو أن توقعات المستثمرين تجاه سياسة سعر الصرف الأمريكى كانت مختلفة، فقد توقّع المراقبون أن تسلك رئيس الفيدرالى الأمريكى "جانيت يلين" سياسة نقدية تقشفية حادة تجاه سعر الفائدة (البعض توقّع رفع الفائدة بـ50 نقطة أساس دفعة واحدة)، وذلك لكبح جماح التضخم الذى تجاوز المستهدف كما سلفت الإشارة.
كذلك استدعى البعض من الذاكرة الحديثة سياسة "آلن جرينسبان" فى منتصف العقد الأول من بداية الألفية والتى ارتفعت على إثرها أسعار الفائدة بربع نقطة مئوية وبانتظام حتى بلغت 5% بعد 17 سابقة رفع!..لكن هذه المرة بات جلياً أن الفيدرالى الأمريكى يستهدف معدلاً أدنى للفائدة بحلول عام 2019 بما لا يتجاوز مستوى 3% على الأكثر.
أيضاً توقعات المحللين تستشرف استمرار التباطؤ فى الاقتصاد العالمى بفعل تباطؤ الصين ومعظم دول "بريكس"، ومشكلات الاتحاد الأوروبى بعد استفتاء "البريكست" الشهير، وتضخّم مستوى الديون لما فوق ثلاثة أمثال الناتج العالمى، وهذا كله يستدعى مزيداً من محركات النمو لا الانكماش، وخاصة من أكبر اقتصاد فى العالم! لذا وبعد خطاب رئيس الفيدرالى والقرار المتحفّظ نسبياً برفع الفائدة 25 نقطة أساس فقط، تحوّلت بوصلة التوقعات بسرعة نحو استبعاد التزام الفيدرالى بالرفع للفائدة مرتين أخرتين قبل نهاية 2017.
من ناحية أخرى حمل خطاب "جانيت يلين" لدى الإعلان عن قرار رفع أسعار الفائدة "إشارات" تقلل من أهمية تجاوز معدلات التضخم الأساسى المستهدفة، وبالتالى لم يشعر المتلقون لرسائلها ضرورة وإلحاح استمرار الرفع فى معدلات الفائدة بالوتيرة المفصح عنها سابقاً، وهو ما يرجّح احتمال عدول الفيدرالى عن رفع الفائدة بنصف نقطة مئوية أخرى على مرحلتين باقيتين من العام الحالى.
تحليل التوقعات والإشارات الناتجة عن القرار الاقتصادى يحظى بنفس أهمية -إن لم يكن بأهمية أكبر من- تحليل الأثر "النظرى" المباشر المرجّح وقوعه فى أعقاب القرار.
فالأثر المباشر لرفع أسعار الفائدة على الدولار الأمريكى كان ارتفاع فى سعر صرف الدولار مقابل العملات الأخرى، وتراجع فرص النمو العالمى والتشغيل وحركة التجارة وتدفقات رؤوس الأموال، وهى أمور تلحق الضرر بمصر وغيرها من الدول ولكن بدرجات متفاوتة تختلف حسب درجة انكشاف الاقتصاد وانفتاحه على العالم.
كان من المتوقع ايضاً أن تتأثر بورصات الأوراق المالية العالمية وبورصات السلع (شاملة النفط والمعادن) سلباً بقرار رفع الفائدة الأمريكية، خلافاً لما يحدث عادة فى البورصات التى تقوّم أصولها بعملات محلية، فهى عادة ما ترتفع مؤشرات أسهمها على خلفية تراجع قيمة عملتها مقابل الدولار الأمريكي، لأن الأصل مقوّماً بالعملة المحلية صار أرخص نسبياً..كل ذلك لا يمكن أن نقبله الآن فى ظل إعادة قراءة الرسائل المشفرة والإشارات التى أطلقتها "جانيت يلين"، وغيرها من إشارات "مقصودة" خرجت من داخل أروقة الفيدرالى لتكشف عن تباين فى التصويت لصالح رفع أسعار الفائدة من عدمه.
القرار الفيدرالى الأخير قد تم تحييده إذن إلى حين بفعل التوقعات والإشارات المخالفة لاتجاه القرار، ومزيد من تحوّلات وتقلبات الاقتصاد العالمى ستكون حاسمة فيما يتعلق بوتيرة النمو العالمى المقبولة خلال الأسابيع وربما الأيام القادمة بعيداً عن قرارات الفيدرالى الأمريكى.
* الدكتور مدحت نافع خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر