..سر اختيار مواعيد برامج قناة «DW» الرئيسية وارتباطها بالـ«Prime Time» فى مصر تحديداً..«دويتش فيله» تلفق تقارير عن الحالة الأمنية بالقاهرة وتتجاهل تجاوزات «BND» وضغوطها العنيفة على اللاجئين
«تحاول الدعاية فرض المذهب على الشعب كله، دعاية تعمل على موقف الجمهور، وتنطلق من فكرة تجعله مهيئا لتقبلها»، بهذه الجملة التى أوردها هتلر فى كتابه «كفاحى»، ورسخها جوبلز بأداء وزارة الدعاية السياسية بين 1933 و1945، ونظرياته التى أخذت طريقها للتطبيق العملى قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها، ودوّنها فى كتاباته ومذكراته، ومنها: «لا يمكن الاستغناء عن الدعاية فى بناء الدولة، فهدف الدعاية قيادة الناس للأفكار التى ترغب الدولة أن يعتنقها الجميع»، صاغ حزب العمال الاشتراكى مشروعه الإعلامى والترويجى، مستحوذا على عقول ملايين الألمان بالداخل، وهادمًا حصون ملايين المواطنين، ومنصات دفاعهم النفسية والوطنية، خارج ألمانيا، وبالمنطق نفسه بدأت «دويتش فيله» عملها وتواصله حتى الآن.
تناولنا فى الحلقتين السابقتين نشأة مؤسسة «دويتش فيله» سنة 1953، بعد ثلاث سنوات من التفكير والتخطيط، وبالتزامن مع تنفيذ ألمانيا لشروط دول الحلفاء المنتصرة فى الحرب العالمية، وخضوعها لخطة مارشال لإعادة الإعمار، إضافة لشروط وتدابير أجبرتها على تقليص وجودها خارج ألمانيا، وتخفيض عدد وحدات جيشها وإمكاناته، وإلغاء بعض الأسلحة الحيوية بشكل كامل، إضافة إلى اقتطاع مساحات شاسعة من الأراضى التى ضمتها قوات هتلر، وهى البداية التى حملت داخلها استجابة قوية ومباشرة لقيم الإعلام التقليدى فى مرحلة المدّ الألمانى، وآليات الدعاية السياسية والتوجيه والشحن، وتغليب العاطفة على المنطق، والمعالجة السطحية الانفعالية على خطاب العقل والمعلومة والتحليل وتفكيك عناصر الصورة، وكانت هذه الاستجابة محاولة لاستعادة التوازن النفسى الضائع بعد الهزيمة، وخطة للبحث عن موطئ قدم فى العالم الجديد، وبدمج الهزيمة وآثارها مع فكرة الدعاية وإمكاناتها وأهدافها، كان من الطبيعى أن تلتفت «دويتش فيله» لمناطق نفوذ جديدة، أو مساحات بعيدة من الجغرافيا الصالحة للاستعمار النفسى والثقافى والمعرفى، على الطريقة الناعمة البعيدة عن غطرسة القوة العسكرية، وبعيدا عن قادة العالم الجديد، الذى خرجت منه ألمانيا خروجا مهينا، ولم يعد بإمكانها منافستهم أو مزاحمتهم فى مناطق نفوذهم، وبالحسابات الرياضية والجغرافية والسياسية وقت النشأة، ألقت «دويتش فيله» كرتها فى ملاعب الشرق الأوسط، والمنطقة العربية بالتحديد، ومصر بشكل أكثر تحديداً ومباشرة.
تحالف الأجهزة الأمنية فى «دويتش فيله»
فى مؤتمر لورنمرج الجماهيرى سنة 1929، خطب «هتلر» فى جموع المؤيدين، صارخا بأدائه الحماسى الملىء بالشحن والتلاعب النفسى بالمخدرين بخطاب القومية الجديد، قائلاً: «لقد أوصلتنى الدعاية للحكم، وبالدعاية حافظنا على مراكزنا، وبها سنغزو العالم كله»، وفى السنوات التالية نجح فى تحقيق جانب كبير من هذا التطلع، فسيطر على كامل أوروبا تقريبا، باستثناء بريطانيا، والحليف الإيطالى بالطبع، وسيطر على مساحات شاسعة من روسيا وشرق آسيا، باستثناء الحليف اليابانى، ومن هذا الغزو الجغرافى المباشر، بما حققه من مكاسب، وظفت «دويتش فيله» أدواتها المختلفة والأكثر نعومة فى الوصول إلى نتائج مكافئة، خاصة مع وحدة الهدف تقريبا فى الحالتين، وهو تعميم الرؤية الألمانية والانتصار لتفوق العرق الآرى المستحق للسيادة وقيادة العالم، هكذا رأى السابقون، وهكذا يرى اللاحقون فى المؤسسة الإعلامية الرسمية.
على ضوء هذه الغاية التى انطلق منها الفريقان، اتحدت الرؤى والخطط، وتنوعت المسالك وطرق العمل، وفق مقتضيات المرحلة وطبيعة الأدوات المتاحة لدى الفريقين، «دويتش فيله» مجرد منصة إعلامية، لا تمتلك قوة مباشرة للحركة على الأرض، ولكنها تمتلك كثيرا من الإمكانات ووسائل الاتصال والشحن والتأثير؛ للتوغل فى النفوس والعقول، وصياغة رسائل رمادية، والتلاعب بالصورة والصوت وتعبئتهما بالألغام والمتفجرات التوجيهية، وسلاحها الأبرز، أدبيات وأفكار الدعاية السياسية، وعليه تم تخطيط مدونة الأداء المهنى للمؤسسة، وخططها وأهدافها، وضوابط اختيار العاملين والمتعاونين والضيوف، وتغطية الأحداث وانتقاء الأخبار والموضوعات المعروضة، وطريقة معالجة هذا المحتوى، ومستويات تدفق المادة الإعلامية، وتنظيم هذا التدفق فيما يخص المضمون والشكل، وتوزيع القيمة الإخبارية وعناصر بناء الرسالة الإعلامية، وعلاقة المواد والوسائط المرئية والمسموعة ببعضها، وحتى على مستوى مواعيد البث وأيامه ومساحاته الزمنية، جرى وضع ضوابط صارمة لكل هذه العناصر، يمكن استنباطها واكتشاف علاقاتها من خلال المتابعة العميقة للمحتوى المذاع وتحليله بأدوات ونظريات الإعلام والاتصال وعلمى النفس والاجتماع، فى ضوء الأبعاد السياسية والجغرافية وموازين القوى عالميا، إلى جانب ما يتوفر من مؤشرات وقرائن ومعلومات عديدة، بحسب ما أفادت به مصادر تحفظت على كشف هوياتها، تؤكد ارتباط «دويتش فيله» بدائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية «BND»، وبالمكتب الاتحادى لهيئة حماية الدستور «المخابرات الداخلية BFV»، وتبادل التقارير والرسائل بين الجهات الثلاثة، إضافة إلى جهاز الأمن الاتحادى أو وزارة الداخلية «BMI»، وأن ثمة اجتماعات دورية تشهدها العاصمة برلين بين رونالد بوفالا رئيس الاستخبارات، وهانز جورج ماسن رئيس الأمن الداخلى، ووزير الداخلية توماس دى ميزير، و«يانس أوى راه» مدير العمليات بمؤسسة «دويتش فيله»، يهودى الديانة المرتبط بعلاقات قوية بمؤسسات بحثية وعلمية إسرائيلية، الذى درس العلوم الإسلامية والتاريخ الحديث وتاريخ الفنون فى مونستر والقاهرة وبون، وتخصص فى كتابة التقارير الصحفية عن مصر والعالم العربى، وعمل محررا بقناة «ZDF» الألمانية بين 1996 و1999، قبل أن ينتقل لمنصب مدير قسم الشرق الأدنى فى الإدارة العربية بمؤسسة «دويتش فيله» عام 2000، بترشيح من دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية، وصولا إلى إدارة العمليات المركزية فى المؤسسة.
خريطة «دويتش فيله» الموجهة جدا
فى مثل هذا الشهر من سنة 1938، دخلت القوات الألمانية للنمسا، ولكن كان الفضل الأكبر لتشكيل طابور خامس داخل سلطة فيينا، يتبنى الخطاب الألمانى إعلاميا واجتماعيا، وصولا إلى دوائر الإدارة والنفوذ العليا فى مؤسسات الجيش والشرطة النمساوية، ودعمت قوات «هتلر» الأمر باستخدام أسلحة «جوبلز» بمجرد اقتحامها للجارة، التى كانت إمبراطورية قيصرية تحكم ألمانيا نفسها حتى 1871، قبل أن تزيحها مملكة بروسيا وتحتل مكانها، وتمثل الدعم العسكرى للسلاح الإعلامى فى توزيع أكثر من 100 ألف جهاز راديو من طراز VE301W الذى طوره «أوتو جرايسنج» بطلب مباشر من «جوبلز»، وذلك بشكل مجانى فى مختلف المدن والقرى النمساوية، لضمان وصول الرسالة الإعلامية أو طلقات المدفعية النفسية إليهم، وكانت إذاعة البيانات تتم وفق جدول زمنى محسوب، يراعى أوقات الذروة ونسب الاستماع وأيام العطلات والنشاط الجماهيرى، وبالآلية نفسها وضعت «دويتش فيله» خريطة موضوعاتها وعناوينها الآن، التى تكشف بنظرة بسيطة عن الجمهور المستهدف بشكل مباشر، بعيدا عن شعار «نخاطب العقول» الذى ترفعه، أو عن المعلن بشأن اهتمام القسم العربى بتغطية خريطة المنطقة بشكل كامل.
وفق تقارير صادرة عن مؤسسات متخصصة فى قياس نسب المشاهدة وأوقات الذروة أو الـ«Prime Time»، نجد أن ذروة المتابعة داخل ألمانيا يتم تسجيلها بين الخامسة والثامنة مساء، أما فى الدول العربية فالأمر متنوع، فى المغرب بين التاسعة والحادية عشرة مساء، والوقت نفسه بالنسبة لعدد كبير من دول الخليج العربى، ويتأخر التوقيت فى لبنان وسوريا والعراق ليتراوح بين العاشرة والثانية عشرة، أما فى مصر فإن «البرايم تايم» أو ذروة المشاهدة تقع بين السابعة والعاشرة مساء، والغريب أن البرامج الرئيسية التى تراهن عليها «دويتش فيله»، وفى مقدمتها برنامج «السلطة الخامسة» الذى يقدمه المصرى البريطانى يسرى فودة، وستكون لنا وقفة خاصة معه، تُذاع فى السادسة مساء بتوقيت جرينتش، السابعة مساء فى ألمانيا والثامنة فى مصر، وما بين السابعة والثامنة فى أغلب الدول العربية، ما يعنى أن الخطة البرامجية التى وضعتها «DW» لتحقيق أكبر نسب مشاهدة تستهدف الجمهور المصرى فى المقام الأول، وبشكل مباشر، أكثر من استهدافها للألمان ذوى الأصول العربية، أو العرب المقيمين بألمانيا، أو حتى باقى العرب فى إحدى وعشرين دولة بالشرق الأوسط.
الطابور الخامس الذى شكّلته ألمانيا داخل بنية الدولة النمساوية، هو ما تعمل عليه «دويتش فيله» منذ إطلاق قسمها العربى قبل 58 سنة، وزاد تركيزها عليه فى السنوات الست الأخيرة منذ ثورة يناير، وذلك عبر تشكيل «لوبى» إعلامى، أو دوائر من المتعاونين بشكل خفى أو مباشر، فإلى جانب عشرات المكاتب التابعة للمؤسسة، تأتى الشراكات وبروتوكولات التعاون مع عدد من المنصات والمواقع الإخبارية، فى إنتاج وتسويق المحتوى، كواحدة من آليات فرض أجندة المؤسسة وأفكارها، وحاليا هناك عشرات القنوات والمواقع التى تبث محتوى خاصا بـ«دويتش فيله»، أو منتجا بشراكة وتمويل مباشرين منها، وفى مقدمتها مواقع عديدة داخل مصر، وهى الأفكار المخططة والمطبوخة داخل مقرات «BND» وفى اجتماعات مسؤولى المؤسسة مع قيادات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الألمانية، على ضوء المعلومات المجموعة استخباراتيا وإعلاميا، ووفق دراسات نفسية وسلوكية تنتجها دائرة الاستخبارات الاتحادية، وتستعين فى جانب منها بمعاهد متخصصة فى دراسة سلوكيات الجماهير وأنماط التلقى والاستجابة فى البيئة الاجتماعية والثقافية العربية، وحالة الساحة السياسية وعلاقات القوى، والقضايا الأكثر إثارة وقدرة على الشحن، ونقاط الاهتمام الساخنة لدى الجماهير والتجمعات السياسية والحزبية المختلفة.
كيف تصنع «دويتش فيله» طبختها؟
فى الوقت الذى تتحدث فيه «DW» بشكل متواصل عن الحالة الأمنية فى مصر ودول عربية أخرى تقع ضمن دائرة اهتمام المخابرات الألمانية، وتقدم تغطيات واسعة للتعليق على ما تصفه بـ«تجاوزات الأجهزة الأمنية»، تتجاهل السياقات الشبيهة داخل ألمانيا نفسها، بل تنحاز انحيازا معاكسا فى أغلب الأحوال، فبينما تبنت وجهة نظر دائرة الاستخبارات الاتحادية فى نفى رواية تركيا حول ضلوع رجل الدين المعارض فتح الله جولن فى محاولة الانقلاب التى شهدتها أنقرة منتصف يوليو الماضى، تجاهلت الرد التركى على لسان المتحدث باسم الرئاسة، الذى اتهم ألمانيا ومخابراتها بالوقوف وراء محاولة الانقلاب، وهى تصريحات نشرتها «دير شبيجل» الألمانية، التى نشرت أيضا تقارير عديدة عن تجسس الاستخبارات الألمانية على كاترين أشتون، المفوضة السابقة للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى، ووزير الخارجية الأمريكى السابق جون كيرى، وعدد من الوزراء والمسؤولين والشخصيات السياسية فى أوروبا وأمريكا والدول العربية، وتعاونها مع المخابرات المركزية الأمريكية «CIA» فى التجسس على مواطنين داخل وخارج ألمانيا، وعلى عشرات الملايين من مستخدمى شبكات التواصل الاجتماعى فى دول عديدة، وهو الملف الذى لم تقترب منه «دويتش فيله» أو تتصدى لمعالجته، رغم تعمقها فى تغطية وعرض وتحليل واقعة اكتشاف تجسس الاستخبارات الأمريكية على المستشارة أنجيلا ميركل، كما تجاهلت المؤسسة أيضًا تقارير عديدة عن ضغوط الأمن الداخلى والمخابرات على اللاجئين للحصول على معلومات منهم بطرق غير مشروعة ومساومات تتصل بأمنهم وحياتهم، وأيضا اكتشاف عناصر إسلامية متطرفة داخل أجهزة الأمن والاستخبارات، وهى الأمور التى عرضتها بشكل عابر وملون، يستهدف إدانة اللاجئين بالأساس، دون مناقشة حقيقة وعميقة لملف التجاوزات الأمنية، وهو ما يمكن فهمه فى إطار العلاقات الوطيدة وتبعية المؤسسة لرؤية الاستخبارات الاتحادية، وعملها من خلالها، وهى الرؤية التى تحكم كل خطط «DW» وصياغتها لبرامجها.
تبدأ رحلة صياغة الرسالة الإعلامية داخل «دويتش فيله» من التقارير الأمنية كما أشرنا، وتؤكد الشواهد والقرائن، ليس فقط لأنها تحدد هويات المحررين والمذيعين والضيوف بالطريقة التى تحدثنا عنها باستفاضة فى الحلقة السابقة، ولكن لأنها تحدد نوعية الموضوعات التى يمكن تناولها، وآليات هذا التناول، فقضية مثل موضوع تدفق اللاجئين على ألمانيا تمت معالجتها ضمن محتوى «دويتش فيله» بطريقة موجهة ومعادية للاجئين أولا، ولدولهم وشعوبهم وأنظمتهم السياسية ثانيا، وكنموذج واضح بثت المؤسسة خبرا فى فترة ذروة تدفق الهاربين من جحيم الحرب، التى كانت ألمانيا طرفا فيها، على الأقل بعضويتها فى حلف شمال الأطلنطى «ناتو»، تحت عنوان «مقدمة برامج تليفزيونية تثير جدلا بترحيبها باللاجئين»، وتضمنت افتتاحية الخبر عبارات موجهة بشكل رمادى واستعدائى، منها «تشهد ألمانيا صراعا مجتمعيا بشأن الموقف من اللاجئين، وهناك شرائح اجتماعية تبدى مخاوفها من زيادة أعداد الوافدين، بسبب المشاكل التى قد تنجم عن ذلك»، وعلى هذا المنوال سارت أغلب تغطيات «دويتش فيله» للملف، متناولة فى كثير منه أوضاع الدول المصدرة لهم بقدر من الدعائية السوداء، والانتقادات المشحونة عاطفيا، والتغطيات الانتقائية، والضيوف الوافدين من حقل واحد وبوجهة نظر منحازة، غالبا ما تكون مناوئة للدولة، أو على يسار التوجه الشعبى العام.
النماذج التى يمكن استدعاؤها للتدليل على آلية عمل «دويتش فيله» الموجهة وفق منطق استخباراتى، عديدة وتفوق الحصر، ومنها تقريرها فى أغسطس 2016، خلال الاحتفال بمرور عام على افتتاح مشروع قناة السويس الجديدة، الذى عمد للابتعاد عن النقاط الجوهرية فى المشروع وفلسفته وأدائه، واتجه لاستعراض ردود الفعل بشأنه، بعيدا عن الأرقام والمعلومات ووجهات النظر الفنية المتخصصة، وبالطبع كان رصد ردود الفعل موجها، وانحاز لاستعراض رؤى وأفكار قطاعات من المعارضة، إضافة إلى شباب بعض الحركات السياسية ذات الطابع الثورى، مع خلط الصورة العامة بأنباء وأحداث لا ترتبط ارتباطا حقيقيا ومباشرا بالأمر، ومنها حالة الشارع المشحونة بسبب الأزمة الاقتصادية وتحرك مستويات الأسعار، ما صنع فى النهاية صورة عامة تدفع فى اتجاه وصول الأوضاع لمرحلة سوداء وخربة، دون اقتراب من جوهر القضية، سواء فيما يخص المشروع، أو رؤى المتخصصين له، أو حتى على صعيد الأرقام والبيانات الاقتصادية وعلاقتها بالواقعين السياسى والاجتماعى ومدى كفاءة المنظومة الاقتصادية وسط الظروف المحيطة بها.
فى تقارير أخرى خلال أبريل 2016، وضعت «دويتش فيله» باقة من العناوين المنحازة بشكل مباشر، بعيدا عما تقتضيه الموضوعية وضوابط الأداء المهنى، قالت فى أحدها «قبل 25 أبريل.. اعتقالات واسعة فى شوارع المحروسة»، بينما قدمت معلومات ضئيلة عن القبض على أفراد محددين فى عدد من المقاهى، ولم تصل معلوماتها المعروضة إلى مرحلة «الاعتقالات الواسعة» التى روجت لها، وقالت فى تقرير آخر «الشعب المصرى يحترق غضبا بشأن تيران وصنافير»، وبعيدا عن حالة الغضب نفسها وعن الموقفين الرسمى والقانونى، فقد تجاهلت المؤسسة الاتجاه المؤيد للاتفاقية وتظاهراته فى مناطق عدة، إلى جانب حقيقة أن تعبير «يحترق غضبا» لا علاقة لها بأية صياغة مهنية، ليس فقط لأنها لجأت لمفردات مشحونة، ولكن لأنها عالجت الإخبارى بالمجازى، وخرجت من رصد الصورة إلى تفسيرها وشرحها، ومن الأمثلة أيضا تقريرها المعنون بـ»حملات دعم السيسى رئيسا.. بحث عن زعامة مفقودة أم إعادة إنتاج للنظام القديم؟» وبعيدا عن حقيقة أن العنوان المؤسس على استفهام تخييرى هو فى جوهره موجه، لأنه يحصر المغزى والرسالة المقصودة بين خيارين فقط، ولا يسمح للمتلقى بالنفاذ لبديل ثالث، ما يعنى المصادرة على المعلومات وحقائق الأرض، وتوجيهها لصالح دعم وتسييد الخيارين وتغييب بدائلهما، فإن صياغة الاختيارين نفسيهما جاءت رمادية ومضللة، فلم تحدد هوية الزعامة المفقودة ونمطها، وتعريف هذه الزعامة، ولماذا فُقدت أصلا، خاصة أن التقرير جاء فى وقت كان يتمتع فيه المشير عبدالفتاح السيسى وقتها بشعبية طاغية فى الشارع، كما لم يحدد عنوان التقرير أى نظام قديم يقصد، خاصة أن النظام القديم وقتها كان نظام جماعة الإخوان، بينما تناول التقرير النظام الأقدم، نظام مبارك، فى ربط متعسف بين ما بعد يونيو 2013 وما قبلها، بينما على الجانب المقابل لن تجد حديثا رصينا وموضوعيا عن العاصمة الإدارية الجديدة أو تطوير العشوائيات أو إعادة هيكلة الاقتصاد أو إصلاح منظومة الدعم، وفق رؤى فنية متخصصة وتحليل موضوعى يسترشد بالأوضاع القائمة والتحديات التى تحيط بالبلاد، بل إن المؤسسة تمعن فى توجهها بتجاهل مشروع إنشاء 3 محطات توليد كهرباء بتقنية الدورة المركبة، فى بنى سويف والبرلس والعاصمة الإدارية، هى الأكبر والأحدث عالميا، بقدرات إجمالية 12400 ميجاوات، وباستثمارات تتجاوز 6 مليارات يورو، والمفارقة أنها تأتى ضمن تعاون مصرى ألمانى، عبر شركة «سيمنز» التى يمثل هذا التعاقد الصفقة الأكبر فى تاريخها.
الإعلام المفخخ.. هكذا تكذب «DW»
على المنوال السابق تأتى كل تغطيات «دويتش فيله» تقريبا للشأن المصرى، مع اعتماد آلية من الإلحاح والتكرار وإعادة إنتاج الأفكار والعبارات نفسها بشكل دائم ومتتابع، على طريقة «جوبلز» الشهيرة «اكذب حتى يصدقك الناس»، ومن خلال الاجتزاء والقاموس اللغوى الضيق والعناوين الإيحائية أو الاستفهامية المقيدة بخيارين، تكتب المؤسسة وتكذب أيضًا، وبنظرة سريعة على عناوينها فى التقارير المصورة والبرامج والمقالات، وحتى فى الأخبار التى يُفترض مهنيا أنها خارج دائرة التلوين، يمكن الوقوع على أهداف «دويتش فيله» الحقيقية فى مصر، والرسائل النفسية والسياسية التى تسعى لإيصالها وترويجها وتعميق حضورها لدى المتلقين، وإذا تجولنا سريعا فى حقل ألغام «DW» ومطبخها الملىء بعشرات الطبخات المسمومة، يمكننا مطالعة مئات العناوين الموجهة والمشحونة، ومنها: تحسن الجنيه لا يُحسن معيشة الناس! ولاحظ علامة التعجب باعتبارها رأيا مصاحبا للجملة التقريرية التى تمثل رسالة مغلقة ذات مغزى يقينى، وأيضًا «تعويم الجنيه يفرغ الجيوب»، و«الفقراء يتحملون وزر السياسات الخاطئة»، و«تحذيرات من ثورة جياع»، و«مؤيدو السيسى ينفضون من حوله»، و«مؤشرات الأزمة الاقتصادية.. مصانع معروضة للبيع»، و«لحظة شديدة السوء»، و«جدل حول دور الجيش فى الاقتصاد المصرى»، و«تعويم الجنيه.. فرصة للنهوض بمصر أم قنبلة موقوتة؟»، و«هل تستطيع السعودية شراء قرار القاهرة بالمال؟»، و«هل تعود وزارة الداخلية المصرية لقفص الاتهام؟» و«قوانين تتنافى مع حقوق الإنسان وضغوط لحجب التحقيقات»، و«مصر.. مزيد من التشدد أم قليل من الانفتاح؟!» و«توقف برنامج إبراهيم عيسى بسبب ضغوط» و«هجوم سعودى حاد على مصر السيسى بعد مؤتمر الشيشان»، و«مؤتمر الشيشان.. زلزال بدأ فى جروزنى وانتهى فى القاهرة»، و«استمرار الغضب السعودى على مصر رغم تراجع الأزهر»، و«من عبد الناصر إلى السيسى الجنيه يفقد أكثر من 3000 من قيمته»، و«شاهد كيف انهار الجنيه المصرى أمام الدولار الأمريكى»، و«رحلة صواريخ الكورنيت إلى داعش سيناء» وغيرها مئات من العناوين والحلقات والتقارير الموجهة بشكل واضح ومنحاز للغاية، متجاهلة المعلومات الفنية وآراء المتخصصين وحقائق الجغرافيا والتاريخ والأوضاع الراهنة، ومتورطة فى ممارسة مهنية سطحية ورمادية وتنتهك قيم الإعلام الحقيقة فى جوهرها، باستخدام مفردات مشحونة، وبناء عناوين موجهة تحمل داخلها استمالات مسبقة وترجيحات لأفكار وتوجهات ونفيا لغيرها، وكل هذا عبر الاستناد على صور منتقاة، لصالح فرز وتجنيب صور أخرى بالطبع، وعلى ضيوف من أرضيات ثابتة وواحدة تقريبا، وتقارير صادرة عن منظمات حقوقية دولية تحيط بها الشبهات والملاحظات، إلى جانب منظمات داخلية ممولة من الجهات نفسها، ومرتبطة بعلاقات مالية ولوجستية مع جهات وأطراف خارجية، وسط تجاهل للرأى الرسمى على مستوى المؤسسات والبيانات والمتحدثين، تجاهلا تاما تقريبا، ويطال التجاهل مساحات أخرى غير رسمية، من المؤيدين أو بعض أطياف المعارضة التى تنحرف بقدر ما عن هذه الرؤية، إلى حد يمكن معه اعتبار «دويتش فيله» منصة للمعارضة بالأساس، وفقط نمط واحد من أنماطها، وربما لا نتجاوز إن قلنا إن المعارضة الراديكالية المستندة لأفكار أيديولوجية جامدة وعنيفة، أو لعلاقات عابرة للجغرافيا الوطنية فى مصر ودول المنطقة، لو اجتمعت على تدشين نافذة إعلامية تتبنى أفكارها، فإنها ستكون أهدأ وأخفت صوتا وأكثر موضوعية وأقل انحيازا من «الموجة الألمانية»، التى يبدأ مدها من دائرة الاستخبارات، وتنكسر على شواطئ مصر وليبيا وسوريا واليمن، ليصب جزرها فى زجاجات وكؤوس معدّة سلفا، يشرب نخبها القادة ورجال الأمن ووكلاء المصالح الخفية فى اجتماعات ثلاثية تحت رايات «BND» و«BMI» و»BFV»، وأخيرا «DW» وطبختها المسمومة.