وصل الزعيم الصهيونى «تيودور هرتزل» إلى مصر على السفينة النمساوية «سميراميس» يوم 23 مارس «مثل هذا اليوم» 1903، وكانت عادة جريدة «الاجيشيان جازيت»، «يومية تصدر باللغة الإنجليزية فى مصر من عام 1880» نشر وصول ومغادرة علية القوم والمشاهير على البواخر الأوروبية الكبرى، وكان اسم «هرتزل» فى نهاية قائمة المسافرين الذين وصلوا، وعددهم 23 مسافرا، ولا تحفل الصحيفة به كثيراً لأنه كان من ركاب الدرجة الثالثة، ولا يحفل هو بذكر أى شىء عن المهمة الخطيرة والسرية التى جاء من أجلها «كامل زهيرى - النيل فى خطر - الهيئة المصرية العامة للكتاب».
يؤكد «زهيرى» فى كتابه أن «سيناء» كانت هى «المهمة السرية» للرجل الذى كان رئيساً لمنظمة الصهيونية العالمية منذ 31 أغسطس عام 1897، ويتتبع «زهيرى» القصة من بدايتها فى كتابه مسلحاً بالوثائق، وقراءة دقيقة لمؤلفات الزعيم الصهيونى ومنها مذكراته، ونقرأ فيها أن هرتزل حين بدأ خطته لتخصيص مكان للهجرة اليهودية، التقى بوزير المستعمرات البريطانية «تشمبرلين»، وتناقشا حول تخصيص «قبرص»، لكن «تشمبرلين» رد نصا: «لا أستطيع الإقدام على مثل هذا الإجراء ضد رغبة الأهالى، ولاسيما إذا كانوا من البيض، وإذا أشرتم إلى أى جزء آخر من الممتلكات البريطانية التى لا يوجد فيها سكان بيض فإنى على استعداد للمناقشة»، فرد «هرتزل»: «إذا استطاعت شركة يهودية وضع أقدامها فى سيناء والعريش فلا شك أن القبارصة أنفسهم، سيبهرهم الذهب السائل الذى سيتدفق على المنطقة، وقد يذهب المسيحيون إلى اليونان وجزيرة كريت، كما يذهب المسلمون إلى تركيا ويكونون سعداء لو باعوا أرضيهم بأسعار سخية».
عندئذ تحول النقاش إلى منطقة العريش فى سيناء، ويحكى «هرتزل» أن «تشمبرلين» نهض ليلقى نظرة على الخريطة للتحقق من موقعها، ولما تبين له أن العريش تقع فى شبه جزيرة سيناء على الحدود المصرية التركية، قال الوزير: «هذا لا يقع فى اختصاصى، وأية مفاوضات فى هذا الشأن يجب أن تجرى مع اللورد كرومر المعتمد البريطانى فى مصر»، وفى اليوم التالى لهذه المقابلة، التقى «هرتزل» بالماركيز «لانسدون» وزير الخارجية البريطانية الذى أيد المشروع، وأبدى استعداده لكتابة رسالة إلى «كرومر» يرسل فيها بالصحفى «جرينبرج» للقاهرة كمندوب من هرتزل لبحث الصفقة، وطبقاً لـ«زهيرى»: «كتب هرتزل فى مذكراته بتاريخ 21 ديسمبر 1902 صفحة 1281: استلمت أمس جواب الماركيز لانسدون وهو وثيقة تاريخية، اللورد كرومر يقول إن مشروع شبه جزيرة سيناء سيكون محتمل التحقيق، إذا وجدت اللجنة أن الظروف الراهنة تسمح به، ستشترط الحكومة المصرية فقط الحصول على الجنسية العثمانية، ودفع تبرعات سنوية لحفظ النظام فى الداخل والخارج»، ويقول فى صفحة 1382: «سأرسل بعثة إلى هناك: مرمورك المهندس المعمارى، وكسلر المهندس، والبروفيسور واربرج وهو أحد خبراء الزراعة فى فلسطين، وعالم الهندسة جنيينج، وبراملى من السودان الذى أوصى به كرومر»، ويضيف: «خطر ببالى، ربما استطعنا أن نروى الصحراء من النيل، مثلا، خط أنابيب بسيط، ولكن هذا مستحيل بسبب قناة السويس، إن الماء يجب أن يضخ من فوق علو السفن، أو يضخ من تحت على عمق كبير، هذه الطريقة الثانية تبدو أسهل بكثير، وقد يكلف هذا الضخ مليونا، ولكن ليس هذا بكثير على مثل هذا المشروع، أو يؤخذ الطمى على سفن، ويوضع فى العريش، أو تبنى سفن خاصة يصفى فيها الطمى، فيرسب فى أعماقها ويرسل إلى العريش، وقد تكون هناك وسائل أخرى لتحقيق ذلك، وسأعهد بهذا الأمر، وبأمر الفوسفات إلى مرمورك وواربرج اللذين قبلا المهمة سرا، وسيكون عملهما سرا».
تستمر الدبلوماسية السرية «لتحقيق هذا المشروع»، وحسب زهيرى، فإن هرتزل كان يستخدم فيها شبكة من مندوبيه ما بين «الآستانة» عاصمة الدولة العثمانية والقاهرة ولندن، وأجل زيارته إلى مصر بناء على نصيحة مندوبه فى القاهرة، ونظم رحلة البعثة التى ستأتى لمعاينة شبه جزيرة سيناء على الطبيعة فى دقة وسرية بلغت حد توقيع كل أعضائها قبل سفرهم على تعهد نصه: «نحن الموقعون أدناه أعضاء الحملة المنظمة تحت إشراف الحركة الصهيونية لدراسة إمكانيات استيطان شبه جزيرة سيناء، نتعهد هنا، ونقسم بشرفنا ألا ننشر أى شىء عن الحملة عن طريق كتابتنا، ولا عن طريق الخطب، أو المقابلات إلا إذا سمح رئيس لجنة العمل».
لم يطق هرتزل صبرا أن تبقى بعثته فى مصر، وأن يظل هو يتابعها فى الخارج، فجاء إلى مصر يوم 23 مارس 1903، وحملت الزيارة تفاصيل كثيرة.