ينتهى اليوم بعد أن يؤدى كل فرد دوره فى التمثيلية، القائمون على دور الأيتام يمثلون الحنان والعطف، بينما يمثل الأطفال الأيتام أنهم سعداء ينعمون بهذا الحنان، وتمثل وزارة التضامن أنها تهتم بهؤلاء الأطفال، ونتقمص نحن دور من أدوا واجبهم نحو الأيتام، ومع نهاية اليوم تنتهى التمثيلية، ليعود الوضع كما كان، أبواب مغلقة على الأيتام فى دور الرعاية، يشهدون فيها أقسى درجات التعذيب والانتهاكات التى لا نلتفت إليها إلا حين يتم اكتشاف إحداها صدفة.
عذاب ييدأ من لحظة ميلاد الطفل اليتيم الذى يتعامل معه الكثيرون على أنه سلعة أو وسيلة سهلة للتربح، يمكن بيعه أو حرقه وتعذيبه واغتصابه دون أن يهتم به أحد أو يستطيع البوح بما يعانيه، فيتعامل معه الكثيرون ممن يتولون رعايته على أنه «طفل مالوش دية وماحدش هيسأل عنه» فى نظام يرمى الأيتام فى أيادى ضعاف النفوس دون إشراف أو اشتراطات، وكأن الدولة فى محاولتها للتخلص من عبء الطفل اليتيم تعرضه لكل من يستغله رافعة شعار «خد يتيم اكسب فيه واغسله واكويه».
حوادث انتهاك الأيتام.. وقائع يتم اكتشافها بالصدفة، وما خفى أعظم
صدمة شعر بها الكثيرون مع تداول فيديوهات تعذيب الأطفال فى دور الأيتام ومنها الفيديو الذى سجلته إحدى السيدات من جيران أحد فروع دار الأورمان للأيتام لطفل صغير يتم تعذيبه بإجباره على الاستحمام بالماء البارد فى السابعة صباحا فى الشتاء القارس، يناير الماضى، وبعد انتشار الفيديو تحركت وزارة التضامن لإحالة المشرفة للنيابة وإغلاق الدار وتوزيع الأطفال على دور أخرى تابعة لنفس الجمعية.
سيناريو يتكرر فى كل حوادث انتهاك الأطفال الأيتام وتعذيبهم وحرقهم أو اغتصابهم، مواطن يسجل فيديو لما يحدث فى بعض هذه الدور فينتشر الغضب فتتحرك الوزارة، التى لا تعلم شيئا عما يحدث فى هذه الدور رغم أنها تقع تحت مسؤوليتها وإشرافها، وتفاجأ بهذه الجرائم بالصدفة وهو ما حدث فى معظم الوقائع التى تم الكشف عنها، لكن بالطبع ماخفى أعظم، وما لم تصل إليه عدسات الفيديوهات أكثر، وما يحدث لهؤلاء الأطفال من انتهاكات يفوق ما نراه مسربا منها بالصدفة.
فى كل وقائع انتهاك الأيتام وزارة التضامن متفاجئة ومعندهاش فكرة
اللافت للنظر أن كل وقائع التعذيب كشفها مواطنون من جيران هذه الدور أو ممن سبق لهم العمل بها والذين استطاعوا تسجيل فيديوهات لبعض الوقائع، ولم تكن وزارة التضامن الاجتماعى تعلم شيئا عما يدور فى هذه، وهو ما يؤكد غياب الدور الرقابى والإشرافى لوزارة التضامن الاجتماعى على دور الأيتام.
والمستفز أيضا أن مسؤولى الوزارة يفاجأون بهذه الوقائع، ويعلن بعضهم أنهم لم يتصوروا أن تصل القسوة فى دور الأيتام إلى هذه الدرجة وهو ما أكدته الدكتورة عزة عبدون، مدير الإدارة العامة للأسرة والطفولة بوزارة التضامن الاجتماعى، فى تعليقها على وقائع التعذيب التى تعرض لها الأطفال بدار إشراقة لرعاية الأيتام والمملوكة لزوجة عاطف عبيد، رئيس الوزراء الأسبق، من تجويع وانتهاكات جنسية وحرق الأطفال فى مناطق حساسة، مؤكدة أنها لم تستطع النوم من بشاعة ما تعرض له الأطفال.
رعاية الأيتام سبوبة ووجاهة اجتماعية
المثير أيضا أن بعض دور الأيتام يقوم بإنشائها شخصيات عامة، كنوع من الوجاهة الاجتماعية واستخدامها كسبوبة لتلقى التبرعاتا، وهو ما حدث فى دار أيتام إشراقة التى تولتها زوجة عاطف عبيد بعد وفاته، وكان وهبها كوقف خيرى للأيتام، ودار أيتام بنت مصر التى أنشأتها د. عصمت الميرغنى المحامية صاحبة الإعلانات الشهيرة للتبرع للدار التى استخدمت فيها الأطفال بعبارة: «تعالوا زورونا.. باى باى»، حتى تم إغلاق الدار بسبب المخالفات المالية وطرد الأطفال قبل بلوغهم 18 عاما، وهى السن القانونية لخروجهم من الدار، وذلك للاستيلاء على مخصصاتهم من التبرعات ودفاتر التوفير والشقق التى تخصصها لهم وزارة الإسكان، فضلا عن قيام بعض مسؤولى وزارة التضامن بإنشاء دور أيتام خاصة بعد خروجهم على المعاش.
تعذيب الرضع.. من وزارة الصحة إلى وزارة التضامن «يا قلبى لا تحزن»
ويبدأ مسلسل تعذيب الأيتام منذ اليوم الأول لولادتهم، فبعد العثور على الرضيع اليتيم، يتم تسليمه إلى أقسام الشرطة التى تحيله إلى أقرب مركز صحى من مراكز رعاية الأمومة والطفولة التابعة لوزارة الصحة، والتى يوجد بها دار إيواء للرضع، ويبلغ عددها 33 مركزا على مستوى الجمهورية، حيث تتولى وزارة الصحة رعاية هؤلاء الأطفال حتى سن الفطام بين عام ونصف وعامين، ليتم تسليمه بعد هذه الفترة إلى وزارة التضامن الاجتماعى، حيث يتم إيداع الطفل أحد دور الأيتام التابعة لها.
وخلال هذه الفترة يتولى رعاية الطفل المربيات العاملات فى هذه المراكز الصحية، وتبدأ معاناته بعدما يرتبط بالمربية، معتقدا أنها أمه، وسرعان ما يتم انتزاعه من هذه الأم البديلة، عندما يحين وقت تسليمه لأحد دور الأيتام التابعة لوزارة التضامن الاجتماعى بعد سن الفطام، ليتعرض الطفل لأصعب صدمة فى حياته ويمر بأزمة نفسية كبيرة، ويمرض أغلب الأطفال بعد هذه التجربة القاسية.
نظام لإيجار الأيتام الرضع مقابل 90 جنيها وعلبتى لبن
مشهد عايشناه منذ سنوات يشبه مشاهد أسواق تجارة الرقيق فى العصور القديمة.. عشرات الأطفال لا تتجاوز أعمارهم عامين، وسيدات تبدو عليهن علامات الفقر، وأصحاب دور أيتام ينتظر كل منهم دوره لاستلام حصته من هؤلاء الرضع، ويزدحم الجميع فى إحدى إدارات الشؤون الاجتماعية.
تبكى النساء وكأنهن أمهات أجبرتهن الظروف على بيع أبنائهن، بينما يتفحص أصحاب دور الأيتام وجوه الأطفال ويتمنى كل منهم أن يكون نصيبه عددا من الأطفال الأكثر جمالا والأشد صحة حتى يكونوا بضاعة مربحة يستطيع أن يجمع بها المزيد من التبرعات.
هذا المشهد هو حصيلة نظام كانت تتبعه مراكز رعاية الأمومة والطفولة التابعة لوزارة الصحة خلال فترة توليها رعاية الأطفال الرضع الأيتام، والمسمى بنظام المرضعات أو المربيات فى المنازل، حيث تتعامل هذه المراكز بنظام تقوم فيه بتسليم الطفل لأم بديلة تتولى رعايته فى منزلها مقابل علبتى لبن للطفل أسبوعيا، وأجر 90 جنيها شهريا للأم البديلة، فلا يتم التدقيق فى شروط من تتسلم الطفل، حتى إن الكثير من السيدات احترفن هذه المهنة، وبعضهن استلم 9 أطفال بالتوالى، واستخدم بعض الأطفال فى التسول، وبعد مرور عام ونصف أو عامين من عمر الطفل تعقد إدارة التضامن الاجتماعى جلسة لاستلام الأطفال من وزارة الصحة.
فى هذا المشهد شاهدنا صراخ الأطفال والأمهات لحظة تسليم الأطفال لدور الأيتام، وعايشنا صدمة الطفل حين يتم انتزاعه ممن اعتقد أنها أمه وأنهم أشقاؤه، حيث يرتبط الطفل بهذه الأسرة حتى وإن كانت تسىء معاملته، وللإنصاف وجدنا الكثير من الأمهات اللاتى أصبن بانهيار وحاولن الاحتفاظ بالطفل، ولكن القوانين تمنع، فيما يحرص أصحاب دور الأيتام على حرمان الأم البديلة من زيارة الطفل بعد استلامه خوفا من تمسكه بها وبسبب ما يعانيه الطفل من حالة صحية ونفسية سيئة بعد صدمته حين تم انتزاعه من الأم التى تولت رعايته.
وبعد هذه الصدمة تتوالى صدمات الطفل خلال فترات حياته، بسبب تكرار تغيير المربيات والمشرفين فى دور الأيتام، كما يتنقل الأطفال خلال فترات حياتهم بين أكثر من دار بسبب الكثافة أو عزلهم بسبب الجنس والسن، مما يؤدى لحرمانه من أقرانه الذين ينشأ ويعيش معهم فترات طويلة، وهو ما يتسب فى أزمات وآلام نفسية شديدة لهؤلاء الأطفال، فضلا عما يرونه من وقائع تعذيب وانتهاكات فى عدد كبير من دور الأيتام.
سر إجبار الأطفال على مغادرة دور الأيتام وطردهم قبل بلوغ سن 18 سنة
تنتشر فى معظم دور الأيتام ظاهرة طرد الأطفال أو إساءة معاملتهم لإجبارهم على مغادرة الدار قبل سن 18 عاما، وهو ماحدث فى العديد من دور الأيتام ومنها دار إشراقة ودار أيتام بنت مصر، وذلك للاستيلاء على حقوقهم المادية فى التبرعات.
ويترتب على طرد الأطفال من الدور قبل بلوغهم السن القانونية حرمانهم من حقوقهم المادية التى يحددها قانون دور الرعاية المصرى بنسبة 5% من التبرعات التى تتلقاها الدار سنويا، إضافة إلى وحدة سكنية يوفرها بنك الإسكان والتعمير عند بلوغهم السن، بالانتفاع دون أن يتملكها، ولكن عند مغادرة هؤلاء الأطفال قبل سن 18 عاما، تظل أسماؤهم فى السجلات، ومخصصاتهم تحت تصرف إدارة الدار.
وينص قانون الطفل رقم 49 لسنة 2009، واللائحة التنفيذية للقانون رقم 12 لسنة 1996 المعدل بالقانون 126، على أن سن بقاء الذكور الأيتام فى دور الرعاية تمتد إلى 18 عاما يجوز تمديدها فى حالة الاستمرار فى التعليم.
إشراف وزارة التضامن حبر على ورق.. ليس باللوائح وحدها يعيش الأيتام
فى يونيو 2014 اعتمدت غادة والى، وزيرة التضامن الاجتماعى، اللائحة النموذجية لمؤسسات الرعاية الاجتماعية للأطفال المحرومين من الرعاية الأسرية ومعايير الجودة داخل هذه المؤسسات، ورغم مثالية هذه اللوائح فإنها مجرد حبر على ورق ولا وجود لها على أرض الواقع المكتظ بحوادث انتهاك وتعذيب الأيتام.
وأكدت الوزيرة وقتها أن الوزارة لم تنفرد بوضع اللائحة النموذجية ومعايير الجودة، ولكنها كانت نتاجًا لحوار بناء مع المهتمين والمتخصصين بمؤسسات الرعاية، بل شارك فى وضعها الأطفال الأيتام.. طيب شوفت لوائح أحسن من كدة؟!!
وأشارت الوزارة إلى أنها قامت بتعديل القرار الوزارى المتضمن اللائحة النموذجية لمؤسسات الرعاية الاجتماعية والصادر منذ عام 1977.
ولفتت الوزيرة إلى أن المعايير تتضمن ستة محاور أساسية منها البيئة والبنية والتجهيزات والإدارة والتوثيق، وحماية الطفل ومناصرته وكفاءة التعامل مع شكاوى الأطفال، والتوثيق والإبلاغ عن الأحداث المتعلقة بحماية الطفل، وبرامج وأنشطة التوعية وتنمية قدرات الحماية والرعاية المتكاملة والممارسات المهنية، وكفاية وكفاءة العاملين.
وشددت الوزيرة على أهمية قيام الجمعيات والمؤسسات الأهلية التابع لها مؤسسات لرعاية الأطفال الأيتام والمحرومين من الرعاية الأسرية بالالتزام باللائحة وتطبيق دليل قياس معايير الجودة داخل تلك المؤسسات.
ورغم مرور عامين لم نر أى وجود لهذه اللوائح والقوانين المثالية إلا فى بيانات الوزارة، بينما يتزايد يوميا حجم وقائع الفساد والانتهاك فى دور الأيتام.
اللى مالوش أهل الحكومة مش أهله
وفى النهاية فإن رعاية الأيتام وحمايتهم لن تتحقق بالشعارات واللوائح، وعيد اليتيم سيظل أكبر كذبة طالما لا توجد رقابة أو إشراف حقيقى على دور الأيتام وضوابط وشروط صارمة لمن تسمح لهم الدولة بإنشاء دور أيتام، وستبقى وقائع تعذيب وانتهاك الأيتام مستمرة تصدمنا يوما بعد يوم مادام كل من هب ودب من حقه أن يحصل على عدد من هؤلاء المساكين ليتاجر بهم وينتهكهم كما يشاء وهو مطمئن القلب أن الأيتام اللى مالهمش أهل الحكومة مش هتسأل فيهم.