يومًا بعد آخر تستفحل ظاهرة التحرش في مصر، حدّ أن وصلت إلى نسبة 99.3% حسبما تشير إحصائيات دولية، أبرزها ما أعلنت عنه منظمة الأمم المتحدة منذ ثلاث سنوات. ونظرًا لخطورة الظاهرة يتبارى المحللون في البحث وراء الظاهرة "الغول" التي تنهش أجساد النساء في الأماكن كافة بـ"المحروسة"
ومع وجود تحليلات علمية تتناول القضية، تبدو أراء المسئولين عن الشئون الدينية في مصر «مُضحكة»، لكنها بوصف الشاعر العربي القديم أبي الطيب المتنبي «ضحك كالبكا»، ولا يسلم من ذلك السلفيون ولا غيرهم سواء كانوا من الأزهرية الأشاعرة أو المعروفين بميولهم الصوفية!
مؤخرًا، شهدت مصر حوادث مؤسفة، تركزت في محافظة الشرقية، بدأت بحادثة تحرش جماعي في شوارع مدينة الزقازيق، بفتاة عائدة من حفل زفاف، بحجة ارتدائها ملابس قصيرة، أعقبتها حادثة التحرش بطالبة بالمعهد الفني التجاري بالمدينة نفسها، دون أن يرفع المتحرشون حجة "الملابس القصيرة" هذه المرة!
الوضع حقًا مأساوي، لكن الأصوليين عامة، يغردون في وادٍ آخر، يطرحون رواءهم التي تعتمد «ثقافة لوم الضحية» متكئًا رئيسيًا، محملين النساء السبب وراء انتشار الظاهرة، بحجة عدم الالتزام بما يسمونه بـ«الزي الشرعي»! دون أن يخبرونا بأسباب التحرش بالمحجبات والمنتقبات والأطفال والعجائز!!
ومن جهتنا، نطرح على الأصوليين كافة، كيف يمكن أن تفسروا أن 72% ممن تعرضن للتحرش محجبات حسبما أوضحت نتائج دراسة ميدانية للمركز المصري لحقوق المرأة؟
يبدو أن التساؤل عن سبب تبرير التحرش من قبل الأصولويين «مشروعًا»، ومن جهتنا نرى أن أحد الأسباب الرئيسة في تحميل المرأة سبب ما تتعرض له من انتهاكات هي ثقافة كراهية النساء Gynophobia، التي تشير إلى نزعة كراهية أو خوف، بدأت فى تاريخ البشرية مع سيادة البطريركية، أي الثقافة الأبوية عقب التحول عن مرحلة زمنية من تاريخ البشرية تعرف بـ«المطريركية»، أو مرحلة عبادة الأمومة، وفيها عبد الإنسان الأنثى، ومع التحول ومجيء الأديان بدأت عملية التنظير لكراهية النساء.
ويستند الأصوليون دائمًا إلى رؤى خرافية وميثيولوجية في تكوين موقفهم من المرأة، فهي- في نظرهم- سبب شقاء البشرية والنزول إلى الأرض حد الرواية التوراتية، التي تزيد في الشيطنة بخلق الأنثى من "القاذورات والرواسب". وفي المسيحية تعد رسائل القديس بولس الأسس الأولى لكراهية النساء، من خلال إبراز الشعور بالذنب إزاء ممارسة الجنس، والتركيز على ضرورة إخضاع المرأة، والتحذير من غوايتها. وفي الإسلام ورث المسلمون الصورة العربية القديمة عن النساء، واستندوا إلى آيات قرآنية أو أحاديث نبوية من قبيل "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء" و"وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ" وأحاديث كـ"ناقصات عقل ودين"!!
وتعليقًا على حلدثة فتاة الزقازيق، واصل نائب رئيس الدعوة السلفية ياسر برهامي، هوايته في جلد الضحايا، ونشر الثقافة الذكورية الرجعية، واصفًا ضحية التحرش الجماعي بشوارع الشرقية بـ«المجرمة، والكاسية العارية، وفتاة نزعت حياءها وطهارتها قبل أن تنزع ثيابها»!! واعتبر «طبيب الأطفال» أن الدفاع عن حرية الملبس هدمًا للأخلاق، متعجبًا من الإعلاميين أو الكتّاب الذين دافعوا عن «فتاة الزقازيق»!!
ولم يكتف برهامي بذلك، وإنما راح يحاول البحث عن سند شرعيّ لرؤيته التي تساهم في نشر الذئاب البشرية في الأرض، وتبرر جرائمهم، فلجأ إلى حديث ينسب للنبي، ورغم ورود ذكره عند الإمام مسلم، لكنه حديث عليه بعض المآخذ، ألا وهو حديث «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا». وكما أشرنا فإن الحديث بالفعل ورد عند مسلم، كِتَاب اللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ، ومع ذلك فثمة ملاحظات حول سند الحديث وأخرى حول تركيبه اللغوي.
بالنسبة لسند الحديث، تتمثل الإشكالية في خلاف علماء أهل الحديث عليه، فذهب شمس الدينالذهبي في كتاب «ترتيب الموضوعات» إلى أن الحديث على شرط مسلم ولكنه منكر، لكنّ وروده في صحيح مسلم جعل كثيرون يسارعون إلى تصحيحه، وعلى كلّ حتى لو ثبتت صحته، فإن الروايات تثبت صحتها بالرفع للنبي عن طريق أبي هريرة، وبعيدًا عن إشكالية ذلك الصحابي نفسه، يظل الحديث مرويًا من صحابيّ واحد، الأمر الذي يشكك فيه، فهل يعقل أن يكون صحابيًا واحدًا قد سمع حديثًا بمثل هذه الخطورة التي تتحدث عن علامات تظهر في أزمان تلي زمن النبي؟!!
أما بشأن تركيبه اللغوي، فإن الحديث مبني على صيغة (صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس: الأمراء والعلماء)، وهو حديث ضعيف، فضلًا عن أن الحديث محور كلامنا يتحدث عن صنفين من أهل النار، الأول: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، والآخر: نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، ومع ذلك يتحدث شق الحديث الثاني عن عدم دخول الكاسيات العاريات الجنة، وتأتي الجملة بصيغة التأنيث «لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا»، ويتمحور بقية النص حول النسوة، حتى يكاد ينسى المتلقي الصنف الأول، الذي قيل عنه أنهم أدوات المستبدين والمتجبرين في البطش بالبسطاء!! من جهة أخرى، نرى أننا أميل إلى ما جاء في «المنتقى شرح الموطإ» لأبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي (المتوفى: 474هـ)، حول الحديث إذ «قَالَ الْمَازِرِيُّ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: كَاسِيَاتٌ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَارِيَاتٌ مِنَ الشُّكْرِ»، كما أضاف «مَائِلَاتٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا يَلْزَمُهُنَّ مِنْ حِفْظِ فُرُوجِهِنَّ»، وهي محاولة تراثية لشرح تقدمي للحديث بعيدًا عن الاختصار في الملابس.
لم يكن ياسر برهامي أول المبرراتية لاستحلال أجساد النساء ونهش الأعراض في الشوارع بحجة «الكاسيات العاريات»، وإنما يمتلأ تاريخ خطابنا الديني بمثل هذه الأراء التي تتنافى مع العقل والإنسانية، أبرزها ما جاء في إحدى جلسات الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي، وهو ما نود أن نتوقف أمامه بالتحليل، لنتكشف سويًا الضلالة الفكرية التي يمررها «الشيخ المتصوف»، والمصير المأساوي الذي ينتظرنا حال تصديق تصريحاته.
في معرض حديثه عن الآية 59 من سورة الأحزاب «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا» يتوقف الشعراوي أمام ما يراه شرطًا في ملبس المرأة وزيها، متجاوزًا ذلك إلى الحديث عن الاعتداء الجسدي على النساء بسبب «عدم احتشامهن»!! وعلى الرغم من التفسيرات التراثية للآية التي تؤكد نزولها في زوجات النبي للتفرقة بينهن والإماء، يمد الشيخ المتصوف تفسيره ليصل إلى «لي عنق النص» وتصويره وكأنه يُحمل النساء أسباب التحرش أو الاعتداء الجنسي عليهن في الطرقات.
يقول الشعراوي: «للمرأة جسم يكشف، وجسم يوصف وجسم يلتفت إليه، فيشترط في الحجاب بالنسبة للمرأة ألا يكون كاشفًا، لكن قد يكون اللباس أو الجلباب غير كاشف لكنه ضيق كده ومحبوك كده، ومبين الخصر ومبين الصدر ومبين .. ويبقى طويل ومكسي، طويل وكويس أوي، نقول هو، هو غير كاشف إلا أنه واصف، والواصف عادة في الحتة دي يبقى تلات حتت، الصدر والخصر والأرداف، فساعة اللباس ما يبقاش كاشف صحيح إنما مبين شكل هذه المسائل إلا أنه واصف، فقال لك الخمار مش بس يغطي الراس ويغطي فتحة الرقبة، اللي هي الجيوب، بل ينزل شوية علشان يغطي ال إيه؟ الحتة دي (مشيرا إلى منتصف البطن)، دي مبالغة ف الـ إيه؟ مبالغة في التستر (بصوت رخيم مع إشارة الحزم باليد) يبقى خدها.. اللباس الشرعي للمرأة ألا يكون إيه؟ كاشفًا ولا أن يكون واصفًا، بقي شيءٌ آخر، وهو ألا يكون ملفتًا، ولذلك بعض تعابير أدبية من الناس ال..(كلمة غير مفهومة) قال لك: مبالغة من المرأة في تبرجها إلحاح منها في عرض نفسها على الرجل، (يشدد كثيرًا على إلحاح) أكنها بتقوله ااا (يشير بيديه على فعل ما، ربما يقصد به التحرش) بصوا (يشير بيديه إشارة طلب) يعني بتلفت النظر، طيب وتلفت النظر ليه؟ طيب يمكن تكون بنت ناس معقولة علشان تتجوز، واللي متجوزين؟ واللي اتستفوا (يقصد اتستتو)، علشان إيه؟ يبقى ذلك أدنى أن يعرفن.. فلما نساء النبي والبنات ونساء المؤمنين، يلبسوا الحاجات الطويلة يُعلم أنهم مش من دول، ما حدش يتقرب لهم أبدًا، إنما لما يلاقوها عاملة ف نفسها ايه يعرفوا إنها ايه؟؟ يعني..، ذلك أدنى أن يعرفن أنهن لسن ممن يعرض أنفسهن عرضًا مهينًا»!!
يبدو المقطع السابق للشعراوي، أنموذجًا دالًا على استخدام استراتيجيات الإقناع عبر أدوات أدائية متداخلة ومتنوعة، أبرزها التنويع على طبقات الصوت ودرجته والإشارات والإيماءات الجسدية، واللجوء إلى الأداء «الشعبوي» الذي ينتهي إلى ترييف الخطاب الديني، أي إكسابه السمات الريفية، الأمر الذي يتوافق مع توطيد النزعات البطريركية وتثبيت أركان الثقافة الذكورية، واتهام المرأة التي لا ترتدي زيّا بمواصفات الشعراوي"عارضة لنفسها"؛ بل مُصرة على العرض، وحينها تصبح هي المسؤولة عما يحدث لها!!
كما يلجأ الشعراوي إلى تقنيات أخرى لغوية أهمها ما يسميها هربرت ماركيوز بـ«اللغة المقفلة»، إذ يقرّ ماركيوز أن اللغة التي لا تبرهن عل شيء، ولا تقدم تفسيرًا محددًا، مكتفية بتبليغ الحكم أو الأمر أو القرار، هي لغة "مقفلة" تقرر الصواب والخطأ، الصحيح وغيره بطريقة لا تقبل نقاشًا، وعندما تُعرف لا يتجاوز التعريف عن كونه تمييزًا بين متناقضين لا أكثر، فضلًا عن تبرير قيمة ما بواسطة قيمة أخرى. ويلجأ إليها الشعراوي هنا ما يسميه بشروط اللباس الشرعي للمرأة دون أن يبين لنا من الذي حدد هذه الأوصاف الثلاثة «ألا يكون كاشفًا، وواصفًا، وملفتًا» ودون أن يظهر نطًا قرآنيًا واضحًا أو صريحًا في ذلك، مكتفيًا بعبارات مثل «يقولون، ويقول لك»، فمن جهة كأن الخطاب موجه لكل متلق على حد «يقول له بصفة خاصة»، ومن جهة أخرى لا يمكن على وجه الدقة تحديد من الذي يقول هنا، ويعمل البناء للمجهول على تغييب الفاعل أو القائل، كنوع من التثبيت في العقل الجمعي أن القائل جهة عليا لا تقبل النقاش وتنتظر من المتلقيين الإقرار والتصديق، وهي جهة واحدة ووحيدة، تتمثل في الذات الإلهية، ما يكسب خطاب الشعراوي ووجهة نظره تحصينًا من النقد أو النقض بوصفها رسالة الله التي يعمل الداعية على تبليغها وما علينا سوى السمع والطاعة!!