كانت قنا حتى فترة قريبة محكومة بعاملين أساسيين: أخلاق القبيلة، ونسبة التعليم المرتفعة فى بعض القرى والنجوع البعيدة عن المركزية.. قد يبدو للعيان أن هذين العاملين لا يجتمعان وفقا للنظريات الاجتماعية، لكن هذا ما حدث بالفعل..لم تكن قنا تعرف التطرف إلا بعدما بدأت الحملات الممنهجة لتغيير نفوس الذين يعملون بالخارج نحو بلدهم، ولم تسمع يوما عن "الأخونة" إلا بعدما تولى محمد مرسى وعشيرته السلطة..وباستثناء بعض الذين وردت أسماءهم فى موجة الإرهاب التسعينية لم تفقد المحافظة سمعتها كواحدة من المناطق التى تشتهر باعتقادها الوسطى، لكن فى 20 عاما مضت، جرى فى نهر الأفكار مياه كثيرة قليل منها صاف، والبقية أفكار عكرة وعقائد دخيلة.
"نجع الحجيرى" تلك البقعة الصغيرة التى لم يأتِ ذكرها فى الإعلام من قبل، تصلح لأن تكون نموذجًا تدرسه أى حكومة تريد فعلا أن تواجه الأفكار الغريبة التى تتسلل لنفوس أبنائها.. لن أقول لك ما تسمعه دائمًا عن التهميش والبطالة والفقر، وأضرار المركزية، سآخذك حيث تسكن الشياطين، سأحدثك عن الفراغات الصغيرة بين التفاصيل التى تتركها هذه الظواهر فيملؤها من يصل أولا أو من يدفع أكثر، كان "نجع الحجيرى" واحدًا من أهم منارات الوسطية فى مركز "فقط" جنوب مدينة قنا، حين كان أغلب أبنائه من أتباع مسلك صوفى اسمه "الأسرة الدندراوية" والتى أسسها محمد الدندراوى الملقب بالسلطان، لكن من عاصرناه منها كان "الأمير" أبو الفضل بن العباس الدندراوى، وهى طريقة أو مسلك يلخص منهجه فى جملة واحدة "جمع إنسان محمد".
ودون الخوض فى تفاصيل "الأسرة – الطريقة" فإن ما يعنينا هنا أن نذكر مسلكهم الفكرى الذى لم يكن يسبب مشاكل لأحد، لا المتدينين ولا الدولة ولا حتى الطرق الصوفية الأخرى، حيث كان أميرها يقول:"نحن قوم نعلم بالسياسة..لكن لا نعمل بها" فهى أقرب للنظام الاجتماعى الفلسفى منها إلى منهج كهنوتى للعبادة.. كان "نجع الحجيرى" يفخر بهذا ويمارس الناس حياتهم الطبيعية دون أن يسبب الانتساب للأسرة أو عدم الانتساب أى مشكلة، إلى أن بدأت موجات من الأفكار الخارجية تهب على أطراف القرية، مدعومة بسيل من الكتب والشرائط التى كانت توزع مجانًا على الحجاج أو من يسافر من الشباب للعمل فى خدمة الحجيج، شرائط دعوية لمجهولين وفتاوى متشددة لمن يسبق اسم الواحد منهم لقب "العلامة" وكتب تحشر أفكارًا متشددة بين نصائح تعليم مناسك الحج، وهنا بدأ الوحش يطل برأسه.
كان الفراغ الذى تتركه الدولة بمؤسساتها المختلفة، وحشًا أعمى يتسع ويتحالف مع كل الطاقات المظلمة: البطالة وتردى مستوى التعليم، والإحباط، والفساد السياسى الذى تمثل فى صمت النظام حينئذ على فساد نواب البرلمان، وحصر المكتسبات التى توفرها لهم الدولة على أنفسهم وأهليهم وقراهم، فشعر الناس فى القرى والنجوع التى ليس منها نوابا فى البرلمان بالتهميش والاضطهاد، وكان الشباب أول من أصابته سهام الضلال ففقد الأمل فى أن يكون للبلد مستقبل، ومرة أخرى بدأ وحش الفراغ يتضخم ويلتهم كل يوم قطعة جديدة من مساحة الرضا والقناعة والمسالمة التى فرضتها الطبيعة المتصوفة على أهل النجع، وبدأ التشدد يكسب أنصارًا جدد، وبدأ الأنصار يفرضون على أنفسهم سياجا من العزلة وصلت قسوته لدرجة أنهم اختاروا لأنفسهم مسجدًا آخر غير المسجد القديم الذى كانت تقام فيه الأذكار المحمدية عقب كل صلاة ضمن الأوراد المعروفة، وهو ما اعتبره الطرف الثانى بدعة لا يجب السكوت عليها أو على الأقل المشاركة فيها.
كان هذا الانقسام بداية لمرحلة جديدة من العزلة فرضها كل طرف على الآخر.. حدث كل هذا والدولة غائبة، سنوات كثيرة تمضى والناس يصنعون أجندتهم الفكرية الخاصة، المتصوفون مسالمون لا يفرضون اعتقادهم على أحد، ويتركون لأبنائهم اختيار ما يرضيهم منها لأن كلها خير للنفوس التى تريد أن ترتقى ضمن مبادئ "جمع إنسان محمد"، لكن الأفكار الجديدة فتية مندفعة، وغريبة مدعومة بالمال والإحباط وخيالات الحور العين، فهل سنظل نتركها حتى تلتهم ما بقى من الاعتدال فى نفوس أبنائنا؟.