بالضربة القاضية أقصى "اليسار" من الانتخابات الفرنسية بشقيه "اليسار التقليدى" وممثله بنوا آمون، زعيم الحزب الاشتراكى والذى حصل على نتيجة تعد فضيحة، أو بشقه "الراديكالى"، الذى مثله "لوك ميلنشون" والذى حل رابعا بنتيجة 19.5%.
تلك الضربة ليست النهاية، فهناك نهاية أخرى مرتقبة أوربيا فى الثامن من يونيو، حيث من المنتظر أن يتلقى "جيمى كوربن" وحزبه "العمال"، صفعة قاسية على يد حزب "المحافظين" ورئيسته "تريزا ماى"، والتى بادرت إلى إعلان انتخابات مبكرة للتخلص من "ضجيج اليسار" فى مجلس العموم البريطانى، مرة أخرى وربما إلى الأبد.
لم يزل اليسار أوروبيا فى سلطة "اليونان" البلد الذى يعانى كثيرا، لكنه يسار بطعم "ماسخ"، فالإحباط الذى دفع الناخب اليونانى قبل عامين لانتخاب الحزب اليسارى الراديكالى "سيريزا" والإتيان برئيسه أليكسيس تسيبراس إلى سدة الحكم، لم تنخفض بل زادت وتضخمت، أما الوعود بمواجهة الإجراءات التقشفية، والتى ساقها الحزب للوصول إلى السلطة، فذهبت أدراج الرياح.
ما يدور فى أوربا من انتكاسة كبرى لليسار لا يمكننا أن نفصله عما يحدث فى مصر من انتكاسة "يسارية" واضحة ومتجلية، فرغم أن ثورة 25 يناير حملت فى فحواها مبادئ "يسارية" بسيطة، لخصها الهتاف الشهير "عيش - حرية - عدالة اجتماعية"، ولخصته حتى فى مظاهرها الخارجية، إذ بعثت الروح فى ألحان "الشيخ إمام"، وكلمات "أحمد فؤاد نجم"، تلك التى طالما تسلح بها اليسار المصرى فى زمن السادات، إلا أن صدى هذه المبادئ اليسارية وجد تمثيلا صفريا على أرض الواقع من القوى اليسارية "الشابة والعجوز على حد سواء".
يقول الكاتب الإنجليزى برنارد شو: "إذا لم تكن يساريا قبل الثلاثين فأنت غبى، أما إذا كنت يساريا بعد الثلاثين فأنت أكثر غباء"، ولأن قوام ثورة يناير الرئيسى كان من الشباب، فكان طبيعيا أن تصطبغ باليسار، الآن وبعد ست سنوات من ثورة يناير، فإن اليسار منى بفشل ذريع على جميع الأصعدة، فصار من الطبيعى مثلا أن نجد "يسارا" مرتميا فى أحضان جماعة الإخوان، وليس أدل من ذلك على "حفنة" من الكتاب اليساريين الذين انضموا إلى قائمة الكتاب فى قناة الجزيرة مباشر مصر، أما الأحزاب اليسارية الشرعية فى مصر فشهدت إخفاقات فى انتخابات برلمانى ما بعد الثورة 2012، و2016، يكفينا فقط أن نرى حزب "التجمع" الحزب اليسارى الأول والأكبر فى مصر، وهو غير ممثل فى البرلمان سوى برئيسه السيد عبد العال، وغير المنتخب بل "المعين"، فيما غابت أحزاب يسارية لم تزل شابة مثل "التحالف الشعبى الاشتراكى"، و"الكرامة"، وتيارات اليسار.
الخسائر لا تلاحق اليسار فقط على مستوى الأحزاب، لكن يمكنك أن ترصده فى نقابة الصحفيين المصرية على سبيل المثال، وكيف فشل اليسار متمثلا فى النقيب السابق يحيى قلاش فى إدارة النقابة خلال العامين اللذين قضاهما فى منصبه، وكيف تراكمت مشاكل عدة للصحافة دون حل فى عهده، كما يمكنك أن ترقبه فى مؤسسة صحفية مثل الأهرام، لتراقب فشلا ذريعا لأحمد السيد النجار، فى الفترة التى تولى فيها رئاسة مجلس الإدارة، وانتهت نهاية دراماتيكية بتقديم استقالة من 2000 كلمة، يستعرض فيها إنجازاته فى قيادة المؤسسة، وهى الإنجازات التى لا يراها العاملون بمؤسسة الأهرام بالقطع، والذين طالما عانوا الفصل التعسفى، والإيقاف عن العمل، حتى أن بعضا منهم أعلن اعتزامه تقديم بلاغات إلى النائب العام ضده بعد خروجه من منصبه.
واختلف حسين عبد الرازق، القيادى اليسارى، مع وجهة النظر تلك، قائلا: "ليس لدينا مقياس حقيقى فى مصر حول تراجع اليسار، ملقيا باللوم على قانون الأحزاب القائم، والذى يمنع نشاطات الأحزاب من العمل فى أماكن تواجد الجماهير مثل الجامعات والمصانع".
وعزى حسين أيضا تراجع اليسار إلى الحالة السياسية التى مرت بها مصر بعد ثورة 23 يوليو، حيث حظرت الأحزاب لمدة 23 عاما، وشنت أجهزة الدولة وقتها حملة ضد فكرة الحزبية، فأصبح لدى المواطن فكرة سلبية عن الأحزاب السياسية، وحتى حين عادت السادات فى عهدى "السادات ومبارك"، كان الانضمام لحزب إلى ملاحقة أمنية، ادى للناس البعد عن الحياة السياسية؛ على حد قوله.
حسين عبد الرازق لم يلقى باللوم على "المناخ التاريخى" فقط، لكنه يوجه اللوم على الأحزاب اليسارية نفسها، قائلا: "إنها جميعا لم تنزل إلى الشارع بعد الثورة، وحاصرت نفسها فى مقاراتها، ولم تخاطب من يفترض بأنها جماهيرا، بل وظلت متمحورة حول ذاتها، وكأنها مازالت تعيش نفس قيود ما قبل ثورة يناير لذلك تراجعت كثيرا".
ويرفض حسين عبد الرازق اعتبار أن أحلام اليسار "الكبيرة" هى مجرد أحلام لا صدى لها، لكن الواقع صعب فلقد انهار الاتحاد السوفيتى وكتلة "أوروبا الشرقية" الداعمة لليسار، و"تكلس أفكار الأحزاب اليسارية بشكل ملفت للنظر"، وعدم مواكبة التطورات والتغيرات التى أدت بها العولمة، وهو ما أدى فى النهاية لهزيمة تجربة "اليسار".