رست الباخرة فى ميناء الإسكندرية مساء يوم 5 مايو 1936، كان على متنها الملك فاروق قادمًا من بريطانيا ليتولى حكم مصر بعد وفاة والده فؤاد الأول يوم 28 إبريل.
تلقى فاروق نبأ وفاة أبيه بحزن وأسى، فهو مثله الأعلى، حسبما تؤكد الدكتور لطيفة سالم فى كتابها «فاروق الأول وعرش مصر» عن «دار الشروق - القاهرة»، وتضيف: «توافدت عليه برقيات التعازى الرسمية، سواء داخل بريطانيا أم خارجها، وغير الرسمية من زملائه، وعندما تحدد ميعاد السفر فى 30 إبريل، التقى مع ملك بريطانيا إدوارد الثامن وزوجته، كما كان فى وداعه «دوق كنت» موفدا من الملك، ووزير الخارجية «إيدن»، ولقى من الحفاوة أقصاها، وسافر على الباخرة «فيس روى أوف إنديا»، وبناء على أوامر وزير الحربية البريطانية، خصصت مدمرتان حربيتان لحراستها، إذ إنه أصبح ملك مصر الجديد، الذى ستترك لديه مثل هذه التصرفات وتلك المظاهر الأثر فى علاقته المستقبلية ببريطانيا».
كان فاروق فى بريطانيا منذ شهر أكتوبر عام 1935 بغرض الدراسة، وسافر وعمره نحو 15 عاما وشهرين «مواليد 11 فبراير 1920»، ولم يمض عليه فى رحلة سفره أكثر من ستة أشهر حتى تلقى نبأ وفاة والده، ومطلب العودة لوراثته فى حكم مصر، وتذكر «سالم» الحال الذى كان عليها «الملك الصغير» طوال رحلة العودة إلى القاهرة التى استغرقت ستة أيام: «تزاحمت الأفكار فى ذهن الملك الجديد، وجالت الخواطر فى نفسه، إذ تأزم من الفشل الذى أصابه فى العملية التعليمية التى أعدت له، فهو لم يمكث فى بريطانيا سوى ستة أشهر وستة عشر يوما، قضى معظمها فى التعرف على الدنيا الجديدة، وبالفعل فقد صرح لرئيس وزرائه عند وصوله بأسفه فيما يتعلق بذلك».
فور أن وطأت قدما فاروق ميناء الإسكندرية فى صباح يوم 6 مايو «مثل هذا اليوم» عام 1936، صعد فاروق إلى قاعة العرش برأس التين، يرافقه رئيس الوزراء على ماهر، وبعد استراحته رافقه رئيس الوزراء فى المركبة الملكية المكشوفة إلى محطة مصر ليستقلا القطار إلى محطة باب الحديد بالقاهرة، ويصف أحمد بهاء الدين فى كتابه «فاروق ملكاً» عن «مكتبة الأسرة- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة» حال الرحلة من الإسكندرية إلى القاهرة: «خارج أسوار القصر «رأس التين» كان الناس يهتفون بجنون، ولم تنقطع الهتافات طيلة رحلة الملك إلى القاهرة، وقد وقف الملك الجديد فى إحدى نوافذ القطار يحيى المواكب التى لا تنقطع، وتترقرق الدموع فى عينيه وهو يرى رعاياه بثيابهم المهلهلة وأيديهم الخشنة، يتعلقون بقطاره الأبيض، متعرضين لخطر الموت، من أجل نظرة يخطفونها إلى طلعته، وكبير وزرائه «على ماهر» خلفه يحدق فيه، بحدب الرجل على ابن صاحب له مات، وتكرر المشهد فى القاهرة، حتى دخل إلى هذه القاعة الكبيرة واستوى على العرش».
ويشرح «بهاء» سر هذا الفرح الطاغى: «الطيبة الساذجة فى قلوب المصريين تعطفهم على هذا اليافع الذى فقد أباه فى غربته، وجاء من بلاد بعيدة ليجلس على عرش أجداده، كحكايات الأمهات الطيبات، والقصص التى تنشرها الصحف عن الملك الجديد لا تدع فى نفوس الناس مجالا للشك فى أنهم مقبلون على عهد جديد»، ويذكر «بهاء» جانبا من هذه القصص التى تنشرها الصحف بعد أن يمدها بها أحمد حسنين باشا «رئيس ديوانه الملكى فيما بعد»: «ينثر على مندوبى الصحف جعبة مليئة بالقصص عن ديمقراطية فاروق»، و«بالاتفاق مع الملكة والدته، يطهر القصر من حاشية فؤاد: فالإبراشى ناظر الخاصة العتيد يستقيل، والسيدة التى عرفت باسم «الخازندارة» التى كانت صاحبة الكلمة النافذة فى القصر الملكى الأولى عند رب القصر، وتعدى نفوذها حياة فؤاد الخاصة إلى كتابة التقارير، هذه «الخازندارة» تطرد من القصر على ألا تعود، وتطرد معها الجارية الشهيرة «فردوس» وأربع جوارٍ أخريات من «قوله»، وبعض السفرجية، ورئيس الخدم الذى كان يدعى «أحمد الكردى»، وكلها أسماء كان الناس يلوكونها، ساخطين خائفين».
يضيف «بهاء»: «أقبل المصريون الذين نشأوا على تأليه السادة يلتهمون ما تنشره الصحف عن ذكاء فاروق، ورقة قلبه، وسرعة خاطره، وسعة اطلاعه، وتخصصه فى الآثار القديمة، ومدرسوه القدامى يؤكدون ذلك كله فى أحاديثهم، حتى مرضعته تلك التركية العجوز «عائشة جلشان» لا تنساها الصحف، فهى تدلى بحديث عن العبقرية التى لاحظتها على الطفل الصغير، وهو لايزال على صدرها رضيعا». هكذا تم صنع صورة الملك الجديد، فكانت حفاوة المصريين البالغة به عند استقباله.