وصلت «جولدا مائير» إلى تل أبيب بالطائرة صباح يوم 11 مايو «مثل هذا اليوم» 1948، ومنها توجهت بالسيارة إلى حيفا، وتنقلت من حيفا إلى أماكن أخرى فى طريق رحلتها السرية إلى العاصمة الأردنية عمان، للقاء الملك عبدالله ملك الأردن حسب طلبها، بنصيحة من «بن جوريون» أول رئيس لحكومة إسرائيل بعد الإعلان عن تأسيس الدولة العبرية فى 15 مايو 1948 «راجع ذات يوم 10 مايو».
قابلت «مائير»، عزرا دانيين حسب الموعد المتفق عليه بينهما، وكان له لقاءات سرية سابقة عديدة مع الملك عبدالله، واستعد للقاء الجديد بأن ارتدى غطاء عربيا على الرأس للتنكر، وكان يجيد الحديث باللغة العربية، بحيث يمكن اعتباره عربيا، وفقا لما تذكره جولدا فى مذكراتها «اعترافات جولدا» ترجمة «عزيز عزمى» «دار التعاون- القاهرة».
استعدت «مائير» لرحلتها بالتنكر بارتدائها عباءة سوداء وحجاب عربى لتظهر كامرأة عربية مسلمة، حسب تأكيدها: «كامرأة مسلمة تصاحب زوجها لم يكن مطلوبا منى أن أتحدث مع أحد، وكان علينا أن نغير السيارات عدة مرات، لنضمن أن أحدا لا يقتفى أثرنا إلى أن نصل إلى منطقة قريبة من قصر الملك حتى يقابلنا دليلنا ويقودنا إليه، وكانت أكبر المشاكل هى كيفية تجنب إثارة شكوك رجال الفيلق العربى فى مواقع التفتيش التى سنمر من خلالها».
كانت الرحلة طويلة خلال الليل، وتم فيها تغيير السيارات ثلاث مرات، وتؤكد «جولدا» على أنها كانت على ثقة فى مقدرة «عزرا دانين» فى المرور من خطوط «الأعداء» «تقصد رجال الفيلق العربى»، وأنها وعزرا وقائد السيارة لم يتحدثوا أبدا طوال الرحلة حتى لا يلفتوا الأنظار، وتذكر عما جال فى خاطرها وقتئذ: «كنت أفكر فيما قد يحدث لو أن أمرنا افتضح؟»، وتضيف: «كان الرجل الذى سيصحبنا إلى الملك عبدالله بدويا تبناه الملك منذ طفولته ورباه، وكان يقوم بالمهام الخطرة من أجل سيده، واصطحبنا الرجل فى سيارته، ووصلنا إلى منزله حيث جلست أتحدث مع زوجته الجميلة التركية الأصل، ثم دخل عبدالله إلى الغرفة»، وتصف «مائير» حالته: «شاحب اللون، مرهقا»، وتضيف: «تولى عزرا الترجمة بيننا، ودخلت إلى الموضوع مباشرة»، وعن تناولها الطعام تذكر: «دعتنا سيدة الدار إلى تناول الطعام، ورغم أننى لم أكن أشعر بالجوع فقد نصحنى دانين بأن أملأ طبقى، وإلا كنت كمن يرفض كرم الضيافة العربى».
لا تذكر «مائير» اسم «الدليل العربى» الذى استقبلها وقاد بها السيارة إلى عمان، لكن يكشف عنه عبدالله التل، الضابط الأردنى فى الفيلق العربى، وقائد الكتيبة التى أنقذت القدس من الدمار فى حرب 1948، يقول «التل» فى مذكراته «كارثة فلسطين» «دار الهدى- القاهرة»، أن محمد الضباطى «أحد مساعدى الملك» هو الذى أرسله عبدالله لنقل «مائير» بسيارة «بيك آب» من سيارات «الضباطى» التى يعتمد على قوتها وصلاحيتها، ووصل إلى «الغور» فى التاسعة مساء، وفيما قالت «مائير» إنها ارتدت «عباءة سوداء وحجاب كامرأة مسلمة تصاحب زوجها»، يقول «التل»: «كانت تنتظر فى مكان بين الأشجار بمزرعة مرتدية الكوفية والعقال».
يؤكد «التل»، أن «الضباطى» عاد إلى عمان بأقصى سرعته، فقطع المسافة بأقل من ساعتين وجولدا بجانبه لا تتكلم، ولم يذهب إلى قصر رغدان الملكى، بل توجه إلى قصره هو الذى يقع على طريق «المحطة-عمان»، وكانت هناك أوامر بأن يتم إعداد العشاء فى قصر «الضباطى»، حتى لا يطلع الكثيرون من موظفى رغدان على ذلك الاجتماع، وحينما دخل «الضباطى» وفى صحبته جولدا، أنبأ الملك بأن الضيفة وصلت بخير، ويصف»التل»حال الملك فور سماعه نبأ وصولها: «سر جلالته وأشار بإدخالها، وهو الذى كان ينتظرها منذ اللحظة التى تحركت بها السيارة لإحضارها»، ويأتى هذا الوصف مغايرا لما ذكرته «جولدا»: «كان الملك شاحب اللون، مرهقا».
ويضيف التل: «دخلت جولدا فنهض جلالته وتصافحا ودعاها ومن معها إلى العشاء وقد قاربت الساعة الحادية عشر مساء، وعلى المائدة لم يدر حديث هام، ولم تأكل جولدا كثيرا لأنها كانت مضطربة وكأنها مقبلة على معركة، فلاحظ جلالته عليها ذلك وصار يلاطفها ويطمئنها، إلى أن انتهوا من تناول الطعام، وانتقلوا إلى غرفة الاجتماع».
فى الاجتماع دار أخطر حوار بين الاثنين، واستمر حتى صباح يوم «12 مايو» وكان ما حدث فيه بمثابة فتح الطريق لهزيمة الجيوش العربية من العصابات الصهيونية.