بحلول العام 451 ميلاديا، عقدت الكنائس المسيحية المختلفة مجمع "خلقدونية" المسكونى المهم، سبقه مجمع "نيقية" فى العام 355، ومن قبلهما مجامع قرطاجنة وأنطاكية وأنقرة، لتدخل المسيحية القرن السادس الميلادى وقد فرغت من المجامع المسكونية السبعة التى كرّست للعقيدة وصاغت بنيتها القائمة الآن، ومع ميلاد الرسول محمد بن عبد الله فى العام 571 ميلاديا كانت المسيحية قد اكتسبت هيكلا كاملا وبنية متماسكة، هى التى نعرفها الآن، ما يعنى أن أول آية نزلت من القرآن، فى 611 ميلاديا على التقريب، جاءت فى سياق يعرف مسيحية واحدة، تتنوع المذاهب فيها بدرجة ما، ولكن هيكلها العام وخطوطها الأساسية لا اختلاف فيها بين الطوائف والكنائس المختلفة، وأن أى خطاب قرآنى يتحدث عن تلاعب أو تحريف فى بنية العقيدة، يحتاج لقراءته فى إطار تاريخى بالدرجة الأولى، وربما يكون مؤشرا على خطاب سياسى، أو على مرحلة زمنية محددة، وليس خطابا مطلقا مقطوع الدلالة.
فى الربع الثانى من القرن السابع الميلادى، استقبل الرسول وفدا من نصارى نجران، فى مسجده النبوى بالمدينة المنورة، جرى الاستقبال واللقاء والحوار فى ساحة المسجد، وحينما أراد الوفد الصلاة أفسح لهم الرسول وأصحابه مكانا ليؤدوا صلاتهم، فى المسجد أيضا، بحسب مصادر تاريخية عديدة، بينما يسير آخرون إلى ضعف الرواية، ولكن الممارسة العملية للرسول، وصحابته الأوائل من بعده، تحمل من الشواهد والآثار ما يدعم هذه الرواية وصحتها، فهل استقبل الرسول كفارا وفاسدى العقيدة فى مسجده؟ وهل سمح لحطب النار بالصلاة فى مسجد النبى؟ هذا ما تحمله رسائل الشيخ سالم عبد الجليل، وكيل الأوقاف الأسبق والداعية الدينى التليفزيونى، والداعشى المتنكر، هكذا بكل بساطة ودون تجنٍّ، الرجل جلس يستعرض مساحة مثيرة للغثيان من الجهل والتطرف وإثارة الفتن، وهو يفسر قول الله "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه"، وبعيدا عن أن تخصص الرجل المباشر الدعوة ومقارنة الأديان، ولا علاقة له لا بالتفسير ولا علم الحديث، إلا أنه لا مانع فى أن يدلى الناس بدلوهم فى كل الأمور والموضوعات، ولكن على بينة من علم وفهم، وهو ما يبدو أن "عبدالجليل" لا يتحلى بأى قدر منهما، فالرجل لا يقيم حجته على معرفة باللغة ولا بالسياق ولا حتى بالقرآن نفسه.
الآية التى فسرها الشيخ الداعشى وخرج منها باتهام المسيحيين بفساد العقيدة، وقطع لهم تذاكر جماعية للنار، التى لا يعرف "عبد الجليل" نفسه مصيره منها، تتحدث عن "الإسلام" كمصدر لغوى وعلم على طريقة تدين وعلاقة بالله، لا كعقيدة بعينها، كصيغة تجريدية لفعل أسلم، قاصدا إسلام الوجه لله فى المطلق، وليس على مذهب محمد بن عبد الله أو عيسى بن مريم أو موسى أو إبراهيم، وكلهم شملهم القرآن فى مواضع عدة بوصف المسلمين، ولكن الداعشى الأزهرى الجليل سالم عبد الجليل، جرى مجرى ابن تيمية وابن القيم وأحمد بن حنبل ومحمد بن عبد الوهاب وأبو الأعلى المودودى وأبو الحسن الندوى وسيد قطب، ورفع سيفه فى وجوه الجميع، ليحز الرقاب على طريقة "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"، بفهم صلف ومتحجر ومتغطرس للنص ومنظومته الفكرية والقيمية، التى ما جاءت إلا لتؤلف قلوب البشر وتدفع فى اتجاه عمارة الأرض وتوطين الله فى قلوب عباده، بكل الصور والأشكال، وليس احتكاره والادعاء بسجنه فى علبة ضيفة كدماغ سالم عبد الجليل وعقله.
تصريحات سالم عبد الجليل.. جهل أم ازدراء للإسلام قبل المسيحية؟
فى قضية تصريحات سالم عبد الجليل المتجاوزة، والتى تشكل جريمة ازدراء مكتملة الأركان، للإسلام والمسلمين قبل غيرهم، انبرى قطاع من المتفيهقين وداعشيى القلوب والعقول والأرواح للدفاع الضمنى عن الرجل فى سقطته الشائنة المشينة، مفككين فكرة الكفر على أرضية لغوية ومتمنطقة، وكأنهم "جابوا الديب من ديله" وأفحموا المعترضين.
النقطة البديهية التى لا تحتاج أى تفكير أو استطراد، واللغو فيها من قبيل الغباء وقلة الفهم، أن كل رافض لاعتقاد هو بالضرورة كافر به، بالمعنى اللغوى والتفسيرى للانحيازات والمواقف، وافتراض أن هذا الأمر يقبل تفسيرا أو رأيا آخر غباء ما بعده غباء، كأن تجد نفسك مضطرا لأن تقول بيقينية سطحية مقرفة إن المرأة ليست رجلا، لأن لديها ثديين وفتحة مهبل، ولكن تأكيدك فى سياق آخر متسع ولا يثير أسئلة ساخنة، وخارج بديهية أن المرأة ليست رجلا ولن تكون، لا يعنى إلا أنك تفرز على أرضية أخرى غير الفسيولوجيا والبناء الجسدى، وتسعى لترتيب أحكام قيمة وجدارة، وهذا ما فعله سالم عبد الجليل.
الرجل "ذو اللسان المجرم"، اقترب من المعروف بداهة، ليس لأنه يؤكد المؤكد المقطوع به، فى حيزه ووفق فاعليته اللغوية البسيطة، ولكن لأنه يفرز على أرضية تفرقة وتعال وازدراء، وهنا مكمن الخطورة وموجب التوقف والانتقاد، الرجل لم يقرأ القرآن القائل «قل إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين»، وانتزع حق الله في إجراء رحمته وعقابه على الناس كيفما شاء، وقبض على مفاتيح الجنة والنار ليمارس ألوهية غشوما مستترة خلف بديهيات لغوية، هنا يصبح القول جريمة، ويصبح تبريره إهانة وسطحية ونقصان عقل.
النقطة الخطيرة للغاية فى خطاب سالم عبد الجليل الداعشى، أن المنطق العالم، وضع خطا تحت العالم، لا ينحاز انحيازات الجهلة والمتطرفين، وإذا كان الإكليروس المسيحى يرى المسلمين كفارا بالمسيحية، والمؤسسة الدينية الإسلامية ترى الأقباط كفارا بالإسلام، فيظل هذا الكفر فى إطاره اللغوى، الذى يثبت عقائد المؤمنين بالدين كى لا تجرفهم تيارات الديانات الأخرى، أى أنه أداة دعم للثقة الذاتية وتثبيت للاعتقاد داخل دائرة الأتباع، ولا ينبغى أن يخرج للعلن كسلاح فى وجوه الآخرين، خاصة وأن أحدا منا لم يمتلك اليقين على صحة موقفه، وحتى الآية التى يحتج بها الداعشيون من أمثال الشيخ سالم "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه"، لا يُقصد بها المسلمون من أتباع محمد، وإنما المسلمون على اختلاف مللهم ونِحلهم، من أتباع إبراهيم وعيسى وموسى والنبيين جميعا، والقرآن وصف المسيحيين واليهود فعلا بأنهم "مسلمون" فى أكثر من موضع، ولم يخاطب أتباع محمد بن عبد الله ولو مرة واحدة بـ"يا أيها المسلمون"، كان خطابه لهم دائما بـ"يا أيها المؤمنون"، باعتبار أنهم آمنوا برسالة محمد، ولكنهم ليسوا المسلمين وحدهم.
ظاهرة سالم عبد الجليل.. الأزهرى عدو الأقباط على طول الخط
سالم عبد الجليل ظاهرة مثيرة للدهشة، الرجل يرتدى الزى الأزهرى الذى يؤسس خطابه طوال الوقت على أحاديث الوسطية والصيغة السمحة للإسلام، ولكنه فى حقيقة الأمر يحمل قلبا أصوليا وعقلا داعشيا، يزين تشوههما بوجه مراوغ وابتسامة بلاستيكية مدّعاة، وإذا قطعنا الشوط الذى أراد "عبد الجليل" لمصر كلها أن تقطعه، مع ما يحمله من شبهات ومساوئ ومؤشرات إثارة فتنة، فيمكننا من داخل بنية العقيدة ونصوصها ومدوناتها أن ننحاز انحيازا آخر، يرى القول وقائلة جهلة ومسطحين ومحدودى الوعى بالدين ونصه ورسوله وإلهه، ومن هذا الباب فإنه يسىء لعقيدتنا ونصنا وإلهنا، ويزدرى الإسلام قبل غيره، وهنا فالصمت عليه باب شك ومثار علامات استفهام عديدة.
الرجل المراوغ، الذى يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب، كان وكيلا لوزارة الأوقاف لشؤون الدعوة الإسلامية بين 2007 و2012، وادعى خلال هذه السنوات انحيازه لغهم وسطى سمح للإسلام، ولكن هذا لم يمنعه فى الفترة نفسها من معارضة قرار الرئيس الأسبق حسنى مبارك باعتبار عيد الميلاد المجيد "ميلاد المسيح عليه السلام" إجازة رسمية، دون منطق كالذى يرفعه السلفيون والداعشيون الرافضون لتهنئة المسيحيين والاحتفال معهم بعيد القيامة المجيد، متذرعين بأن المسيح لم يمت ولم يقم من الأموات وفق اعتقادهم، وبعيدا عن أن المسيح مات ورُفع ميتا إلى السماء بنص القرآن وقول الله الواضح "إني متوفيك ورافعك إليّ"، فإن عيد الميلاد لا يحمل أي شبهة تثير حفيظة السلفيين والداعشيين، الذين ينتمي لهم الأخ سالم عبد الجليل أكثر من انتمائه للأزهر الأشعرى الماتريدى، إلى حد أن يتجرأ بكل خفة وابتذال على رفع سيف التكفير والازدراء والإهانة فى وجوه المسيحيين، مهينا خمسة عشر مليون مصرى لهم من حقوق المواطنة المصون بالدستور والقانون ما يكفى لردع كل الجهلة والمتخلفين والداعشيين المنتسبين زورا إلى السماحة والوسطية.
الشيخ الأزهرى يسرق القرآن من المسلمين ويسرق الجنة من الله
الشيخ المتطرف سالم عبد الجليل يُكفر المسيحيين ويرميهم بفساد العقيدة، ويجزم بهذا ببساطة وتجبر، مهددا ومتوعدا «عودوا لصوابكم فلن تُقبل توبتكم قبل الموت، عقيدتكم فاسدة ومن يقل غير هذا يخدعكم»، وكأنه امتلك الحقيقة وحاز اليقين من أطرافه، وكأنه لم يقرأ ولم يع الآية القرآنية «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا»، ولم يلحظ أن النص القرآنى الذى بدأ رحلته فى هذا العالم فى القرن السابع الميلادى، جاء وكانت الكنائس المسيحية على اختلافها انتهت من بناء هيكل عقيدتها، وتجاوزت مجامع قرطاجنة ونيقية وخلقدونية وغيرها، واتفقت على صيغتها العقدية والرسالية القائمة الآن، ولم يقدح القرآن الذى تلاها بقرنين أو يزيد فى بنيتها، وتحدث عن كلمة سواء، قائمة وسارية، وعن أقرب الناس مودة للمسلمين، وعن أتباع المسيح وفق تصور عقدى حق، "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"، والحديث عن فساد واعتلال شابا العقيدة المسيحية بعد نزول القرآن أمر من باب الجهل والغباء وعدم الدراية بالتاريخ وقراءة النصوص فى جوهرها، خاصة إذا لم يكتف القائل بهذا بوصف الأمر فى إطار اعتقاده الشخصى غير الملزم لغيره، وجاهر به بعنف وتطرف، وأتبعه بأحكام وتصنيفات، لا تسرق الجنة والنار من الله وحسب، وإنما تقدم تبريرا دينيا للكراهية والعنف والقتل على الاعتقاد.
خطاب التكفير الذى يمكن أن يرفعه الداعشيون قلبا وعقلا،حتى لو لم يرفعوا السلاح، ومنهم الشيخ سالم عبد الجليل بالطبع، وفق انحيازاته وما صدر عنه من تصريحات وليس تجنيا أو زورا، سيستند بالتأكيد لآيات قرآنية، يدعون أنها تحمل تسويغا لأفكارهم ودعواتهم للكراهية، بينما تمثل قراءاتهم نفسها ازدراء للقرآن كنص نركزى مقدس، فإن سألت "عبدالجليل" وشيعته ممن يحملون الأفكار نفسها، سيردون عليك "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم"، ويُلحقونها باستعارة آية "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة" وانتزاعها من سياقها، والحقيقة أن الاستشهاد بالآيتين فى هذا السياق دليل أكبر على الجهل وغياب القدرة على قراءة القرآن، النص المقدس لدينا كمسلمين، فكيف نمتلك وسط هذا الجهل جرأة وصلف الحكم على عقائد الآخرين ولم نُحسن فهم عقيدتنا بعد؟
الحقيقة أن المسيحيين لم يقولوا إن الله ثالث ثلاثة، الله لديهم واحد يتجلّى فى صور ثلاثة، والفارق كبير، الآية تتحدث عن أشخاص يقولون إن هناك إلهين، ويحل الله ثالثا بعدهما، بينما يقول الأقباط "بسم الآب والابن والروح القدس إله واحد آمين"، وفق النص الحاضر على ألسنتهم وفى صلواتهم دائما، أى أن إلههم واحد كإلهنا، والله المطلق يتجلى فى كل شىء، يتجلى فى الأشجار والثمار والسماء والأرض والهواء وكل كائن فى الكون، ولكن الأقباط يحتفظون من كل هذه التجليات بثلاثة، وهى فى النهاية ظلال للإله الواحد، وبالمنطق نفسه فإنهم لم يقولوا إن الله هو المسيح ابن مريم، هم قالوا إنه تجلّ من تجليات الله، والله نفسه قال "ونفخنا فيه من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين"، أى أن المسيح نفخة مباشرة من روح الله وتجل حى ومُعجز من تجلياته، تجليات الإله الواحد، إذن فالآيتان اللتان يستشهد بهما الداعشيون المعادون لأبناء المسيح لا محل لهما هنا، ربما يقصان أثرا عن قوم غابرين وطائفة مضت من طوائف كثيرة مبتدعة عبرتها كل الأديان فى رحلاتها الطويلة، ولكن على قلوب أقفالها، ومن يقرؤون القرآن ويفسرونه بشكل خاطئ منذ 14 قرنا، لن يُحسنوا قراءته اليومن بل سيستمرؤون الخطأ والتزييف، لتوظيف النص المقدس السمح فى صنع العداوة والكراهية، هكذا فعلها سالم عبد الجليل، وهكذا يفعلها الدواعش.
سالم عبد الجليل اختصار وتكثيف لتاريخ الأصولية الإسلامية، المذهب المعتل الذى يبحث عن عصمة عقيدته فى محاولات دحض عقائد الآخرين وإهالة التراب عليها، وكأن الإسلام لن يقوم على ساقين قويتين وحقيقيتين إلا لو كان وحيدا فى الساحة، أو مارس النفى والإقصاء على الآخرين، بينما فى حقيقة الأمر ما زالت المسيحية العقيدة رقم 1 فى هذا الكوكب، بتعداد يتجاوز عدد المسلمين بـ700 مليون نسمة، ومجموع المسلمين والمسيحيين أقل من نصف سكان الكوكب، أى أن 50% من البشر يعبدون الله بطرق ومذاهب وعقائد أخرى لا نعرفها ولا نقر بها كمؤمنين بعقائد سماوية - حسب اعتقادنا الذي لا يُلزم غيرنا - أى أننا لسنا الطريق الواحد فى هذا العالم، ولا حتى الأكبر، وهذا إن تغاضينا عن طوابير اللادينيين والملحدين الذين ما زالوا ضمن تعداد الديانتين ظاهريا، وانفصلوا عنها روحا وممارسة، بفضل الخطاب الداعشى للشيخ سالم ومن على شاكلته من المتطرفين وناقصى العقل.
بين التطرف والمواطنة.. الداعشى الأزهرى يزدرى الوطن ودستوره
إذا تجاوزنا جانب الخلاف الدينى، وتوقفنا أمام القضية من منظور اجتماعى ووطنى، فالشيخ الأزهرى المعمم بعمامة داعش، لم يهن المسيحية والإسلام وحسب، ولكنه ازدرى وأهان الوطن ودستوره، الدستور الذى يكفل اعترافا وحماية قانونية للمسيحية كواحدة من عقائد هذا البلد الكبرى، ما يعنى أننا أمام جريمة تحقير وكراهية تطال 15 مليون مصرى، بحسب كثير من التقديرات المتاحة لأعداد المواطنين الأقباط، وفكرة الكراهية هذه أخطر ما تضمنه خطاب سالم عبد الجليل، لأنه أخرج الموقف العقدى الشخصى للغاية، الذى يرى عقيدته الصواب حتى يكون لديه مبرر فى استمرار الاعتقاد فيها، إلى حيز الفضاء العام الذى لا يجب أن يحكمه إلا الدستور والقانون التوافقيين، اللذين يحوزان قبولا من المجموع العام باختلاف محمولاتهم الفكرية والعقائدية، وهنا فلا قبول على الأطلاق لأى محاولة للتمايز والفرز بين المواطنين على أرضية غير أرضية الوطن وبنيته التشريعية وأمنه القومى واحترام مصالحه وعقده الاجتماعى، وكما لا تقبل المنظومة القانونية السليمة فى نظام مدنى عصرى أن يتمايز أجنبى بجنسيته، أو ثرى بأمواله، أو أسمر أو أبيض أو بدوى أو فلاح بعرقه وجغرافيته ولونه، ما دام الجميع سواء داخل حيز الوطن، فليس مقبولا أن يتمايز داعشى بأفكار معادية للإنسانية، ولصحيح الدين وجوهره، وليس مقبولا إفساح المجال لخطاب كراهية مجانى، لا مبرر له ولا منطق، خاصة أننا إزاء قضية لن تفصل فيها إلا محكمة الله، ولا يمتلك أحد غيره مفاتيح الجنة والنار، وأى اقتراب من هذه القضية المؤجلة لمدى لا نعلمه ولا نراه، هو بالضرورة اقتراب مشبوه وموجه، أو على الأقل يبحث عن الفتنة وإثارة الضغينة.
ما يؤكد أن الرجل ينحاز للفتنة المجردة لا للعقل، أنه لا يثير نقاشا حول أفكار ونصوص وتواريخ، وفق رؤية علمية تحليلية من تاريخ الكنيسة أو من قراءات مقارنة للكتاب المقدس وآثار الرسل والبطاركة، وهو بالمناسبة متخصص فى الأديان المقارنة، لا يُعمل عقله كما فعل فرج فودة الذى قتله متطرفون بدعم من أزهريين، فى نقد الخطاب الإسلامى الأصولى، وفعل نصر حامد أبو زيد وإسلام بحيرى وسيد القمنى وغيرهم ممن وُضعوا على مقاصل التكفير، ولكن الأخ "سالم"، شائه القلب وشائن اللسان، ينطلق من رؤية دينية كهنوتية، تصادر الإسلام نفسه لصالح فهم واحد، لا يبدو أنه يختلف كثيرا عن أفهام القاعدة وداعش وجبهة النصرة وجماعة الإخوان والجماعات الجهادية على اختلافها، رؤية تهين العقائد الأخرى بمرجعية ذاتية لا تخص إلا أصحابها، وهذه جريمة كبرى لا مناص من إخضاع مرتكبها للتأديب، والتأديب فى مجتمع حديث وعاقل يكون بالقانون، طالما لم يرتدع رجل الدين برسالة ربه "وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ"، ويسعى لأن يشعل حريقة من التلاسن والتكفير والتكفير المضاد، فإذا رأيت المسيحى كافرا وعاديته بهذا الرأى، فله أن يتخذ الموقف نفسه، وبالتأكيد من يدفع فى هذا الاتجاه يعادى المجتمع ويسعى لتفخيخه وتفجيره.
من هذا المنطلق يستوجب الأمر التوقف والمساءلة، ليس بمنطق رفع تهمة ازدراء الأديان التى طالما رفعها المتطرفون والأصوليون فى وجه كل من يفكر ويقدم تصورا جديدا لقراءة النصوص والأفكار والأحداث التاريخية والعقائدية، ولكن بمنطق ازدراء الوطن والدستور، بمنطق توظيف منبر الدين فى إثارة مشاعر الكراهية، بمنطق الانحياز ضد فصيل وطنى وقطاع واسع من المواطنين الذين يكفل لهم الدستور حق الاعتقاد، ويكفل أيضا تأمين اعتقادهم من المتطرفين والإرهابيين، ولأننا إزاء تطاول يمس الهوية المصرية والصيغة الوطنية الجامعة، ويضرب مقصا حادا فى نسيج هذا البلد، فالأمر يستوجب المساءلة، فمن ادّعى أنه يتحدث باسم الله والقرآن زورا، ومن وظف كلام الله فى خدمة تطرفه، ومن تربح من هذا الخطاب المروج للكراهية والشقاق، يجب تقليم أظافره الطويلة ومحاسبته على هذا، ولا وصاية ولا إرهاب فى الأمر، والتعامل مع هذا الموقف على أن فيه إرهابا، أقرب لأن تصف من يطلق رصاصة على مجرم يستهدف قتلك قبل أن يضغط "زناد" مسدسه بثوان، بأنه قاتل مجرم ومعتدٍ على قداسة الحياة البشرية، فالرد على المتطرف لا مفر من أن يحمل لمسة قاسية، خاصة إن كان يُرهب ويشوه عقائد ونصوصا مقدسة لدى ملايين الناس.
هل يأخذ الأزهر موقفا من سالم عبد الجليل؟ أم يوافق على تصريحاته؟
وسط هذه الحالة من الصراع، ستتوجه عينك بشكل مباشر إلى الأزهر الشريف، حتى وإن حاولت تحييد المؤسسات الدينية عن التدخل فى المجال العام، ولكن يظل الأزهر المؤسسة المرجعية فيما يخص الشأن الإسلامى، ويظل سالم عبد الجليل أحد أبنائه ومن صُنعوا فى مصانعه.
لا شك فى أن خطاب مؤسسة الأزهر، على الأقل فى الفترة الحالية وبفضل اعتلاء رجل بروح متصوف لمنبره الأول، ينحو منحى وسطيا متزنا، ولكن ما زالت البيت مغلقا على أسرار وأمور مثيرة للريبة والشكوك، ما زال كتاب "الإقناع فى حل ألفاظ أبى شجاع" مقررا دراسيا لطلاب الثانوية الأزهرية، وما زال مجموع فتاوى ابن تيمية حاضرا، وما زالت الأمور الخلافية والأفكار المستدعاة من أعماق فترات التطرف والضعف التى ضربت الدولة العربية الإسلامية، وقادت الفقهاء للتمترس خلف أفكار الوصاية والتكفير، كوسيلة مقاومة لمحاولات كسر الأمة واستلاب إرادتها، هكذا كان ابن تيمية يطلق فتاواه قذائف ورصاصا فى وجه المغول، لا يبتغى بها الدين ولا جوهره، قدر ابتغائه وحدة الأمة وتماسكها، ومن هذا الباب أنتجنا الشطر الأعظم من ميراثنا الفكرى والفقهى، والآن تغيرت صيغة العالم وقواعد لعبته، ولم نعد بحاجة لفقه الأزمة، قدر احتياجنا لفقه التعايش والتجاوز، لفقه الحضارة والانفتاح، لفقه الإعمار وتحقيق سنة الله فى الخلق.
المشكلة أنك ربما لا تستبين رؤية واضحة فيما يخص اتجاه الأزهر وبوصلة أفكاره الآن، المؤسسة بدأت شيعية، وحولها صلاح الدين الأيوبى ضمن ما حوّله على امتداد الخارطة العربية، بالسطوة والسيف وغيرهما، إلى مؤسسة سنية، بعد إغلاقه تماما لسنوات طويلة، وبدأت المؤسسة السنية رحلتها الطويلة أشعرية ماتريدية، ولكنها فى غفلة من الزمن سقطت فى مستنقع الاتجاهات السلفية الأصولية، فأصبحت تخرج الأشعرى والحنبلى، والصوفى والسلفى، والوسطى والإرهابى، فالأمر لم يعد منهجا ومؤسسة قادرة على التصنيع الثقيل والدقيق للعقول والأفهام بشكل منتظم، وإنما أصبح بوابة يعبر منها الناس، مجرد عبور، ويخرجون كما أرادت لهم نفسياتهم وبيئاتهم وأسرهم أن يخرجوا، لا كما عملت المؤسسة على إخراجهم وتهذيب عقولهم، وإذا شئت دليلا فيكفى مراجعة آخر أسبوع فقط، الذى طالعنا فيه تصريح الدكتور أحمد حسنى، القائم بأعمال رئيس جامعة الأزهر سابقا، الذى أقيل من منصبه بعد تصريحات تليفزيونية اتهم فيها إسلام بحيرى بالردة والكفر، واليوم نقف أمام تصريحات للشيخ سالم عبد الجليل، يتهم فيها 15 مليون مصرى بالكفر وفساد العقيدة قطع تذكرة مضمونة للنار.
ربما يرد الأزهر ورجاله بأن طارئا ما شهدته مصر، وأن حالة من التراجع شهدتها مصر خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ساعدت على توسع نشاط الإخوان والسلفيين وسيطرة الأفكار المتطرفة على المجتمع المصرى، وأبناء الأزهر فى القلب منهم، ولكن الحقيقة أن الصورة ليست بهذه البساطة، فالأزهر نفسه فى ردّه على انتقادات وُجّهت له مؤخرا، استشهد بمن تخرجوا فيه من العلماء الوسطيين الموضوعيين، وذكر فيمن ذكرهم الشيخين محمد الغزالى ومحمد متولى الشعراوى، والأول أطلق أحكام تكفير وإخراج من الملة، كان أبرزها موقفه من الدكتور فرج فودة، الذى أفتى الغزالى بردّته وتطوع للشهادة أمام جهات التحقيق لصالح المتهمين بقتل الرجل وسعيا لتبرئتهم من دمه، والآخر فتح بابا واسعا لأفكار شبيهة وله عشرات التسجيلات الصوتية والمصورة التى يهين فيها النساء والأقباط والعلم والمنطق، ووصل الأمر إلى أن وصف الرئيس السادات بوصف توقيفى من أوصاف الله، بأن قال له "لو كان لى من الأمر شىء لوضعتك فى موضع من لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون"، فهل هذان النموذجان يكفيان لإثبات أن الأزمة قديمة نوعا ما، وأقدم من تمدد السلفيين والإخوان وسيطرتهم على المجتمع والمساجد؟
الأهم الآن ليس توزيع الاتهامات، ولا تعليق جريمة سالم عبد الجليل، وكل الجرائم الشبيهة، فى عنق الأزهر ورجاله، حتى لو كانت لدينا ملاحظات لا أول لها ولا آخر على منطقه ومناهجه وآليات صياغته للعقول، الأهم أن تضطلع المؤسسة الدينية الرسمية، والأكبر، بدور فاعل فى تجاوز هذا المستنقع الذى سقطنا فيه، ألا تصمت كى لا يكون الصمت عنوانا لإقرارها لهذا التطرف والإرهاب الذى يشيعه بعض المنتسبون إليها، وأن تأخذ خطوة مبادرة على طريق محاسبة الداعشيين الذين تسربوا فى غفلة من الزمن إلى المؤسسة السنية الوسطية، أو التى ترى نفسها وسطية، ولكن بعض عيالها لا يرونها هكذا، وآه يا أزهر، كيف ترعرع فى صحنك الطيب هذا الكم من "الداعشيين والأوغاد"؟ الإجابة تبدأ من هنا، من محاكمة سالم عبد الجليل.