لم يلبث الشيخ التسعينى، الرئيسالتونسى الباجى قائد السبسى أن يُنهى كلمات التهديد والوعيد فى خطابه الشعبى حتى وجد رد فعل غاضب فورى من النخبة والشعب التونسى على حد سواء، فلم يكن ما أعلن عنه الرئيس من انتقادات للاحتجاجات الشعبية ضد البطالة واعتراضا على عمل الحكومة متوقعا من قبل هذا الشعب الذى ناضل للحصول على حريته، ويبدو أن خطاب الرئيس بدلا من أن يعيد الهدوء للشارع ويحتوى الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية دفع بالبلاد الى حافة الهاوية.
وتوالت ردود الأفعال بشكل فورى على خطاب السبسى الذى حمل قرارات مثلت تحدى لإرادة الشارع فى مقدمتها إصراره على قانون المصالحة مع رموز نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن على، وإعطاء أوامر للجيش التونسى بالتدخل لحماية المنشأت الحيوية والنفطية ومنع أى تعطيل للإنتاج بسبب الاحتجاجات، كما أكد أنه ليست كل التظاهرات التى تخرج تتوافق مع القانون والدستور ملوحا بتعامل أمنى حازم مع تلك المظاهرات.
وبالأمس بدأ السبسى تنفيذ تهديداته بشكل فورى وهو ما ظهر فى التعامل الأمنى مع مظاهرات اندلعت فى طبربة بالقرب من العاصمة تونس بعد أن أقدم شاب تونسى على إضرام النار فى نفسه بعد خلاف مع السلطات، مما أشعل ثورة غضب من جديد فى الشارع فى ظل تأزم الأوضاع واحتقان الشباب على خلفية انتشار البطالة وتراجع التنمية وفشل الحكومة فى توفير أبسط مطالب الثورة التى خرجت ضد نظام بن على فى 2011، وخرج مئات الشبان الغاضبين إلى الشوارع فى أماكن متفرقة ليبدأ التطبيق لتعليمات السبسى بالتعامل الأمنى مع تلك المظاهرات.
وبعد ليلة غاضبة قضتها تونس على وقع كلمات الرئيس، أعلنت الحماية المدنية عن حصيلة هذه الاشتباكات والتى سجلت 4 محاولات انتحار حرقا فى كامل التراب التونسى وشهدت ولاية القيروان وحدها حالتين، فى نذير شؤم على هذا البلد الذى اندلعت فيه الثورة بمعطيات مشابهة حيث كان الشباب يعانون سوء الأوضاع الاقتصادية والبطالة عندما أقدم الشاب "محمد البوعزيزى" على حرق نفسه فكان الشرارة الأولى لثورة هزت أركان المنطقة العربية بأثرها.
وبدأت صفوف المجتمع المدنى التونسى والذى يعد من أحد أقوى أضلاع النظام السياسى هناك فى إعادة ترتيب صفوفها لتعلن صرخة اعتراض جديدة فى وجه السبسى، واتفقت المنظمات يساندها فى ذلك أحزاب المعارضة على تنظيم مظاهرات حاشدة السبت المقبل ضد قانون المصالحة مع بن على وخطاب الرئيس، وعبرت مجموعة "مانيش مسامح " عن استنكارها لما وصفته بـ"منطق الوعيد والترهيب والتهديد" الذى طغى على خطاب السبسى أمس، محذرة فى بيان لها اليوم من "انزلاق السلطة الحاكمة فى ضرب المؤسسات المنوط بعهدتها ضمان الشفافية ومكافحة الفساد وفى تشويه مختلف التحركات المطالبة بالتنمية والتشغيل، للتغطية على عجزها فى إدارة الزمات وخاصة التنمية".
ودعت الحملة جميع القوى والفعاليّات السياسيّة والمدنيّة الحيّة، إلى المشاركة بكثافة فى مسيرة "لا لقانون تبييض الفساد"، السبت القادم بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، وجددت مساندتها "المبدئيّة لجميع التحرّكات الاحتجاجيّة ولمختلف الحركات الاجتماعيّة المشروعة فى كافّة جهات البلاد، وعلى رأسها اعتصام منطقة الكامور بولاية تطاوين".
وفى مقدمة أحزاب المعارضة التى ستشارك حركة مشروع تونس والجبهة الشعبية والإتحاد الوطنى الحر و"الهيئة التسييرية" لحركة نداء تونس، وفى هذا الإطار قال محسن مرزوق الأمين العام لحركة مشروع تونس، أن خطاب رئيس الجمهورية "لم يتعرض للقضايا الرئيسية المطروحة، والتى من أبرزها فشل حكومة يوسف الشاهد والتوافق السياسى المغشوش، إضافة إلى مشاركة أطراف من الإئتلاف الحاكم فى الإحتجاجات التى تشهدها بعض الجهات"، محملا رئيس الحكومة وحكومته مسؤولية عدم الإستقرار الذى تعيشه البلاد.
أما القيادى بالهيئة التسييرية لحركة نداء تونس رضا بلحاج، فقد صرح بأن خطاب رئيس الجمهورية "كان أقل بكثير من مستوى الإنتظارات، ومن شأنه أن يتسبب فى مشاكل إضافية عوض إيجاد حلول لتلك القائمة"، وأكد أن الرئيس لم يتحدث عن التحركات الإحتجاجية التى تشهدها بعض الجهات فى تونس، وتم التعامل معها بنوع من الصلابة".
وما أن أعلن الجيش أنه سينفذ تعليمات الرئيس بحماية الأمن والإستقرار والانتاج حتى اندلع الجدل حول تسرع السبسى فى هذا القرار، والذى يراه قرارا متسرعا يدفع بالمؤسسة العسكرية لمواجهة الشعب، وقال محمد الكيلانى الأمين العام للحزب الاشتراكى والقيادى بجبهة الإنقاذ، إن أن قرار إقحام الجيش فى الصراع الاجتماعى عبر مواجهة المحتجين لحماية المنشآت العمومية المرتبطة بإنتاج الفسفاط والمحروقات، "هو قرار غير صائب"، مؤكدا أن اللجوء إلى الجيش لا يتم إلا فى حالة تردى الأوضاع وخروجها عن السيطرة قصد حماية دورة الإنتاج، وكان على رئيس الجمهورية تشريك الأحزاب ومكونات المجتمع المدنى عوض اللجوء إلى أيسر السبل.
ووسط هذا الضجيج التزمت حركة النهضة الإسلامية – إخوان تونس - الشريك فى الحكم الصمت تجاه خطاب السبسى مع بعض الدفاع على استحياء عن قرارات قصر قرطاج ممسكة بالعصا من المنتصف، وقال الناطق الرسمى باسم حركة النهضة عماد الخميرى أن رئيس الجمهورية هو الشخص الوحيد القادر على إيصال البلاد لجميع المحطات الانتخابية المقبلة، مشيرا الى أن النهضة مقتنعة بأنه لا توجد أى جدوى من تغيير حكومة يوسف الشاهد، لافتا الى أن البلاد فى حاجة الى استقرار سياسى وهو ما أكد عليه رئيس الجمهورية فى خطابه.
وتصاعد الأوضاع فى الشارع ليست فقط بسبب قانون المصالحة بل بسبب الكساد الذى انتشر مؤخرا وتفاقم البطالة، وفى هذا الإطار أكد رئيس المنتدى التونسى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عبد الرحمان الهذيلى اليوم الخميس رفض المنتدى إقحام المؤسسة العسكرية فى معالجة ملف الحراك الاجتماعي.
وقال الهذيلى أن الخطاب برمته موجه بالأساس إلى الحركات الاجتماعية والاحتجاجية فى تونس، وفق تقديره، معتبرا أن "الحكومة قد فشلت فى التعاطى مع الملف الاجتماعى والتنموى بدليل العدد الكبير للإحالات على القضاء لحوالى 300 شاب من المحتجين بتهمة تعطيل المرفق العام"، محذرا من تفاقم الأوضاع الاجتماعية، لا سيما وان كل المؤشرات تدل على توجه الأوضاع نحو التأزم .
كما عبر رئيس المنتدى التونسى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عن الاستغراب من عدم تطرق رئيس الجمهورية فى خطابه للشعب التونسى إلى استشراء الفساد فى مفاصل الدولة ومعالجة هذه المعضلة، مضيفا أن "جزءا هاما من الخطاب تطرق إلى تبييض الفساد والمفدسين بدفاع السبسى عن مشروع قانون المصالحة فى المجال الاقتصادى والمالي"، داعيا إلى وجوب فتح قنوات الحوار مع المحتجين والمعتصمين تفاديا لمزيد احتقان الأوضاع فى صفوف الحركات الاجتماعية، التى قال أن المنتسبين إليها "هم دعاة حوار ويحافظون على الطابع السلمى والمدنى فى احتجاجاتهم واعتصاماتهم".
وفى ظل هذا الغضب الذى يتسع فى كافة التراب التونسى مازال هناك فرصة أمام قصر قرطاج بالدعوة الى حوار وطنى موسع يضم كافة الأطياف السياسية والمجتمع المدنى، يتم خلاله وضع جميع الأزمات سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية لبحثها من خلال النقاشات الصريحة، وهى ليست المرة الأولى التى تصل فيها حالة الغليان الى الذروة فى تونس ثم تهدأ بالحوار.