مع اقتراب شهر رمضان الكريم، تصطدم أثناء سيرك فى مختلف الشوارع والميادين بأشخاص، تلتقط أذناك كلمات تخرج من أفواههم تحثك على التبرع لبناء المساجد استغلالا لحاجة الناس لكل عمل يقربهم من الخالق فى هذا الشهر المبارك .
ولم يكتف أصحاب دعوات التبرع باعتراض طريقك فحسب بل تجدهم يعتلون المنابر فى الزوايا والمساجد المنتشرة فى القرى والنجوع وينادون فى مكبرات الصوت بضرورة توجيه أموال الزكاة لبناء مسجد واثنين وعشرة، يفعلون هذا دون أن يدركوا أن أهل القرية التى يصرخون فيها بحاجة ماسة لمدرسة تقى أطفالهم من خطورة عربات النصف نقل التى تقلهم مطلع كل شمس لمدارس القرى المجاورة، ودون أن يعوا أيضا أن أهل تلك البلدة يشتاقون لقطرة ماء نظيفة وتوصيل شبكات الصرف الصحى لمنازلهم بدلا من حمل الجرادل على رؤسهم ذهابا وايابا بحثا عن المياه .
يطلبون من الناس توجيه أموالهم لصالح غرضا بعينه، دون أن يخطر ببالهم سؤال رئيسى نابع من فقه الأولويات وهو هل بناء المساجد أهم أم المدارس، هل توجيه أموال الزكاة لتخصيص مكان للصلاة انفع أم بناء مستشفى يتلقى فيها المرضى البسطاء علاجهم؟، هل كثرة بناء المساجد دليلا على الإيمان وعملا يقربنا إلى الله ورسوله (ص) أم توصيل المياه فى القرى الفقيرة أكثر قيمة ؟
زيارة قصيرة لا تستغرق دقائق معدودة للموقع الاليكترونى الخاص بدار الإفتاء المصرية، كافيه لتعريفك باهتمامات المسلمين وبحثهم الدائم عن مصارف أموال الزكاة الخاصة بهم خاصة مع كثرة حثهم للتبرع لبناء المساجد تحديدا، وفى هذا الصدد جاء فتوى دار الإفتاء حاسمة لتؤكد على الآتى أن مصارف الزكاة واضحة ومحددة كما وردت فى الآية الكريمة : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ "التوبة :60 " وبالتالى لا تدخل فيها بناء المساجد ونصحت دار الإفتاء الناس بأن يبادروا إلى التبرع لبناء وتطوير المستشفيات والمستوصفات فى مجتمعاتهم وان لا يقتصر هذا على زكواتهم، وأن ينشأ لذلك صناديق ثلاثة الصندوق الأول: يكون للوقف، فيوقِف فيه الناسُ أموالَهم ويجعلون رِيعَها وثمرتها لصالح هذا المستشفى أو المستوصف وعلاج المترددين عليهما أَبَدَ الدهر. والصندوق الثاني: يكون للصدقات، ويتصدق منه على البناء والتأسيس والصيانة وإظهار هذا المبنى بصورةٍ لائقةٍ بالمسلمين إنشائيًّا ومعماريًّا وفنيًّا. والصندوق الثالث: يكون للزكاة؛ يُصرف مِنه على الآلات وعلى الأدوية وعلى مصاريف العلاج والإقامة والأكل والشرب المتعلقة بالمرضى؛ سواء أكان ذلك بصورة مباشرة أم غير مباشرة؛ كمرتبات الموظفين وأجور الأطباء ومصاريف العمليات الجراحية والإشاعات ونحو ذلك.
وكان للدكتور على جمعه مفتى الجمهورية السابق ردا ايضا فى هذا الشأن وهو أن جمهور الفقهاء يرون عدم جواز الصرف من مال الزكاة لإقامة المساجد أو عمارتها؛ وذلك لأنَّ المساجدَ ليست من الأصناف المندرجة فى الآية الكريمة سابقة الذكر ويرون ايضا أن الله تعالى قد وصف الزكاة وسماها بالصدقة، وهى جزء من المال يعطى للمحتاجين إليه من فقراء المسلمين، وليس المسجدُ مِن هذا القبيل، وعليه: فإن أموال الزكاة تكون للأصناف المذكورة فى الآية الكريمة، ويُقدَّم ما قدَّمه الله تعالى، وليس من بينها بناء المساجد؛ لأن الإنسان مقدمٌ على البنيان، وبناء الساجد قبل بناء المساجد.
ويبدو أن انشغال المسلمين باوجه صرف أموال الزكاه الخاصة بهم وسط حث البعض المستمر لهم للتبرع بها لصالح بناء المساجد، ليس قاصرا على المصريين فحسب ولكن يشمل مسلمو العرب أجمعين الذين لا يتهاونوا فى توجيه السؤال نفسه لفقائههم منعا لإرتكاب أى اثم، وبناء عليه افتى الإمام عبد القادر الجيلانى او تاج العارفين كما يلقبه اتباعه فى هذا الشأن وفقا للمعلومات المتداولة قائلا " لقمةٌ فى بطن جائع خير من بناء ألف جامع، وخير ممن كسا الكعبة وألبسها البراقع، وخير ممن قام لله بين ساجد وراكع، وخير ممن جاهد للكفر بسيف مهند قاطع، وخير ممن صام الدهر والحر واقع، فيــــــا بشرى لمن أطعم الجائع".
" أغرق المسلمون الأرض مساجد ومن هنا تفرقت كلمة المسلمين، ولو أن هناك مصلحة عامة مثل مستوصف طبى أو مكتب بريد أو مستشفى أو كوبرى أو مكان يستفيد به الناس وفى البلدة مسجد يكفى حاجة المصلين فلا داعى للمسجد إلا بعد أن تنشأ تلك المصلحة العامة لأنها مقدمة دائما وابدا على المصلحة الخاصة وهناك مصالح أهم من المساجد بكثير" هكذا قدم الدكتور عبد الحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف، رأيه مؤكدا على أولوية بناء المدارس والمستشفيات وكل ما يخدم المصلحة العامة عن بناء المساجد.
وأضاف الأطرش : المسجد بدون إمام ليس له جدوى والمستشفى بدون طبيب ليس منه فائدة واهمية المدرسة فى هذه الحالة هى انها تخرج لنا الامام والطبيب وبالتالى طالما البلد متوفر فيه مسجد يكفى حاجة المصلين ينبغى حث الناس على التبرع لإنشاء مصلحة عامة تخدمهم جميعا .
وتابع : البقعة التى يبنى فيها مسجد مكتوبة فى علم الله منذ أن خلق الارض وسيُبنى فيها مسجد تحت اى ظرف، ولكن فى ظل الظروف التى نعيشها الآن فالأولوية لما يحقق المصلحة الآن خاصة وان المساجد كثيرة ومنتشرة فى كل مكان وبالتالى بإمكان المسلم أن يصلى فى اى مكان، قائلا : عندما يبعد المسجد 2 أو حتى 5 كيلو عن منزل المصلى فهذه مسافة ليست بعيدة عليه أن يسعى إليه ماشيا لأن كلما كثرت الخطى إلى المسجد كلما كثر الأجر والثواب وحاليا اصبحت المساجد تبنى من اموال الفقراء لأن الغنى عندما يخرج مال الزكاه الخاص به لبناء المسجد فهى فى الأساس من حق الفقير . وأكد الأطرش على أن بناء الإنسان أهم من البنيان، ولابد من توجيه أموال الزكاة "نقودا" للفقراء وفقا لمصارف الزكاه الثمانية الواردين فى سورة التوبه.
واتفق معه الدكتور عبد الفتاح إدريس، استاذ الفقه المقارن بجامعه الأزهر قائلا مازالت فكرة الأوقاف، فى اذهان الناس ضبابية وذلك لانها قاصرة لديهم على بناء دور العبادة، مع أن الوقف يجوز أن يكون مالا او منقولا او منفعة وسواء كان هذا الوقف مؤبدا او مؤقتا لوقت محدود ولهذا فان الناس تفشت فيهم الامية الدينية واصبحوا لا يتصورون الوقف إلا فى بناء المساجد كما كان عليهم سلفهم مع أن الوقف قد يكون ممثلا فى احدى وجوه الصدقة الدائمة كبناء المدارس والمستشفيات ومعاهد العلم ودور الرعاية وغير ذلك .
وأضاف : والوقف صادقا على هذه الجهات سواء كان وقفا مؤبدا او مؤقتا بوقت معين ولهذا فأن عجز القائمين عن الدعوة فى مصر أحال دون وصول المفهوم الصحيح لكثير من المفاهيم الدينية ومنها الوقف ولهذا فأنه يجب على المسلمين أن يغيروا مفهومهم للوقف فأن من يخصص طابقا من بيته لرعاية العجزة واصحاب الاعاقات لإيواءهم فيه فهذا وقف ومن يخصص منزلا ليكون مدرسة او معهدا علميا فهو وقف ايضا ومن يجعل حجرة او اثنين من منزله لعلاج المرضى وصرف الدواء لهم فهو وقف كذلك .
وأشار إدريس إلى انه اذا زادت المساجد عن حاجة المصلين فى بلد معين فأن بناؤها يؤدى إلى هجرها فى الامد القريب أو البعيد وذلك لأنه لن يكون لهذه المساجد الكثيرة عن الحاجة أئمة يصلون بالناس او يأمونهم فى صلاة الجمعة والجماعات فتصير هذه المساجد مهجورة، وبالتالى فالبلاد التى يوجد بها كثرة من المساجد تزيد عن حاجة أهلها يجب أن توجه تبرعاتها لاقامة المدارس والمشافى ودور الأيواء ونحو ذلك من وجوه الوقف المختلفة .
"وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا، وأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل"، على هذا الحديث استند الدكتور محمود عاشور، عضو مجمع البحوث الإسلامية، مؤكدا تفضيل بناء المدارس والمستشفيات وغيرها من الخدمات التى تلبى احتياجات المصلحة العامة عن المساجد قائلا: لدينا مساجد كثيرة والصلاة تصلح ولو على الارض ولكننا بحاجة ماسة للمستشفيات والمدارس، وبالتالى ينبغى أن نوجه الناس لأحتياجاتنا وأولوياتنا، فعلى سبيل المثال الناس التى تعتمر كل عام ما الداعى من ذلك فمن الأولى أن يوجهوا أموالهم لبناء المدارس والمستشفيات خاصة وأن العمرة سنة عن النبى صلى الله عليه وسلم، والاعتمار مرة واحدة يكفى مقابل المساهمة فى حل مشكلات مجتمعنا وفى رأى فى هذه الحالة سيجازينا الله خيرا ولنا ثواب اكبر بأذن الله .