طلب فضيلة مفتى الديار المصرية إحالة إبراهيم الوردانى المتهم بقتل بطرس باشا غالى، رئيس الحكومة، يوم 20 فبراير 1910 إلى لجنة طبية لمراقبته، وذلك ردًا على إحالة محكمة الجنايات لأوراق القضية إليه لإبداء الرأى، وحسب الدكتور محمود متولى فى كتابه «مصر وقضايا الاغتيالات السياسية»، (دار الحرية-القاهرة): «كانت هذه هى المرة الأولى التى يعترض فيها المفتى على حكم الجنايات بعد انفراد المحاكم الأهلية بالمسائل الجنائية، وفى يوم الأربعاء الموافق 18 مايو (مثل هذا اليوم)، قضت المحكمة بإعدام المتهم، وذكرت الصحف آنذاك أن حكمدارية العاصمة عينت ثلاثة عساكر لحراسة أعضاء المحكمة أينما ذهبوا».
سبق صدور الحكم تقديم المحامين المدافعين عن «الوردانى» كل الحجج لتبرئته، وحسب محاميه إبراهيم الهلباوى بك، فى مذكراته عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب-القاهرة» تحقيق: دكتور عصام ضياء الدين، فإن المتهم(25 عاما) كان من أبرز شباب الحزب الوطنى، وبرر جريمته بأن «الرجل خائن لوطنه وسياساته ضارة لبلاده»، وعدد الأسباب، فقال: «أبرم اتفاقية السودان سنة 1899 مع الاحتلال الإنجليزى (أعطت لإنجلترا حق مشاركة مصر فى حكم السودان)، ورئاسته محكمة دنشواى، وإصداره لقانون المطبوعات(25 مارس 1909، ويصادر الصحف ويزج بالصحفيين فى السجون)، ومحاولته مد امتياز قناة السويس (تبقى تحت السيطرة الأجنبية إلى عام 1968)».
كان دور «الهلباوى» كمحام فى القضية حتى يوم إصدار الحكم مثيرًا، فهو الرجل، الذى يطارده دوره ضد المتهمين من أهالى دنشواى بالتعدى على الإنجليز، حيث قام بدور النائب العمومى فى المحاكمة، التى انعقدت المحكمة فى صوان كبير بالقرية يتسع نحو ثلاثة آلاف شخص، وبرئاسة بطرس باشا، وأصدرت حكمها يوم 27 يونيه 1906 بإعدام أربعة شنقا، ومعاقبة اثنين بالأشغال الشاقة المؤبدة، والأشغال الشاقة لمدة 15 عاما على متهم واحد، وسبع سنوات على ستة، وخمسين جلدة لثلاثة، والحبس مع الشغل لمدة عام، وخمسين جلدة لخمسة.
يعترف «الهلباوى»: «ابتعد عنى حسن ظن كثير من الشبيبة المصرية لوظيفتى فى قضية دنشواى، وما أصابنى من التشهير فى الجرائد، وبالأخص فى جرائد الحزب الوطنى»، ولذلك لم يخف سروره بمنح «الوردانى» له توكيلا من سجنه بالدفاع عنه «اعترانى الغبطة والسرور بهذا الحظ، والدفاع بما يبين أبطال الوطنية، الذين ذهبوا شهداء فى حب وطنهم»، ورأى بعد أن قابله فى السجن عدة مرات أنه: «من نوادر الشباب الممتلئين تحمسًا واستعدادًا للتضحية فى سبيل خدمة وطنهم والعمل على تحريره بأية طريقة ممكنة»، ويذكر أنه سأله عن سبب عدم فراره ليتخلص من الخطر، عقب إطلاقه النار على «بطرس باشا»، وكان ذلك ممكنا، فأجاب بأنه فكر فى ذلك فعلا، «ولكن ما أسرع ما مرت على فكرة أخرى أوقفتنى، وهى إنى تذكرت إذا فررت من يد القضاء سيجهل سبب الجريمة، وربما تحدث الناس بأن القاتل كان ذا غرض شخصى جره إلى ارتكاب جريمته، فيذهب الأثر المطلوب منها مع أنه من أكبر مقاصدى أن يعلم أبناء وطنى أن من بينهم من يضحى بحياته فى خدمة وطنه».
يذكر«الهلباوى» وقائع الجلسة، التى قررت المحكمة بعدها إحالة أوراق «الوردانى» إلى المفتى، وكان هو آخر المتحدثين من الدفاع، ولأهمية القضية كتب مذكرة باللغتين العربية، والفرنسية، تحتوى على هجوم ضد الاحتلال الإنجليزى، ووزعها يوم الجلسة على الحاضرين، لكن رئيس المحكمة أمر بجمعها، وقررت سرية الجلسة بعد أن قال الهلباوى لرئيس المحكمة، إن دفاعه سيكون على المنوال المكتوب فى المذكرة.
تحدث «الهلباوى» ببلاغة نادرة موجها كلامه إلى هيئة المحكمة، وإلى الورادنى، قائلا له: «إذا كنت قاسيا فى وصفك أيها المتهم، فذلك لأننى مرغم على هذا الوصف بحكم قانون لا تتفق دائمًا اتجاهاته– للأسف–مع عواطف القلب وأمانى النفس، وإذا أبت روحك السامية أن تعيش مكبلة بالسلاسل، وإذا تعاليت أن تحيا فى السجن حياة قطاع الطرق والأشقياء– لأن هذا هو أبعد حد من الرحمة يجوز لقضاتك أن يأخذوك به-فتقبل الموت بقدم راسخة وجنان ثابت»، فالموت آت لا ريب فيه إن لم تلقه اليوم فستلقاه غدًا، اذهب يا ولدى إلى ساحة ربك، حيث العدالة الخالصة المجردة من الزمان والمكان، اذهب فقلوبنا ستكون دائمًا معك، وعيوننا ستسح عليك الدمع مادامت الأرض والسماوات، اذهب فقد يكون فى موتك أبلغ عظة لأمتك منك فى حياتك، فإلى اللقاء يا ولدى.. إلى اللقاء».