سافر مصطفى كامل إلى فرنسا فى شهر مايو 1895، ليدعو للقضية المصرية، مطالباً فيها باستقلال مصر عن الاحتلال البريطانى، فتندر الكثيرون، وتشككوا وقللوا من شأن المهمة، وكان صغر سنه هو السبب، حسبما يؤكد عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «مصطفى كامل- باعث الحركة الوطنية»، «دار المعارف- القاهرة»، مشيراً إلى ما كتبه صديقه «فؤاد بك سليم» فى جريدة المؤيد «القاهرة» عدد 31 يوليو 1895: إنما الأعمال بالنيات، حياة طيبة أو موت شريف، هذه كانت إحساسات الشاب مصطفى كامل ودواعى سفره، بارح القطر المصرى فى أول شهر مايو الماضى «سنة 1895»، قاصداً أوروبا، نائباً عن أهله وأحبابه، مضحياً بنفسه وكل ما تملك يداه فى سبيل خدمة وطنه والمدافعة عن حقوق أمته، فإن كان صغر السن كل ما يؤخذ عليه، فليس ذلك ذنبه، وإن لم يكن من الطبقة الأولى فى مصاف الأمة، فإنما نهضته تشرفه.
كان «كامل» وقتئذ يبلغ من العمر 21 عاما «مواليد 14 أغسطس 1874»، لكنه وحسب فتحى رضوان فى كتابه «مصطفى كامل»، «دار المعارف- القاهرة»، أصبح منذ أن حصل على إجازة ليسانس الحقوق من فرنسا فى نوفمبر عام 1894 «قادراً على أن ينزل بقاربه الصغير إلى محيط الحياة العامة، لا فى مصر وحدها، بل فى الدنيا قاطبة، ليناجز أكبر دول الأرض قوة، ويندد بأخطائها فى حكم بلده، وبسوءات احتلالها لوطنه»، أما الخديو عباس الثانى، فيذكر فى مذكراته «عهدى» عند «دار الشروق- القاهرة»: «كان شاباً يحمل وقتئذ كل رشاقة الشباب، بما فى ذلك الخيالات المقدسة، وكان بسيطاً صريحاً، وتحت شكله اللطيف تختبئ نفس متفتحة لكل الأحاسيس، وقلب يتأثر بكل الحنان».
فى هذا السياق جاءت دعايته فى أوروبا لقضية مصر، وكانت هذه الزيارة المبكرة نموذجاً، فلماذا اهتم بالدعاية فى الخارج؟، يجيب «الرافعى»: «المسألة المصرية كانت مجهولة للرأى العام الأوروبى، بل كانت الفكرة الذائعة عن المصريين أنهم راضون عن الاحتلال، وأنهم أمة قانعة بالحكم الإنجليزى، ليست لها آمال ولا حقوق تطالب بها، فنشط إلى تعريف الرأى العام الأوروبى بحق مصر فى الاستقلال»، ويؤكد «الرافعى»: «هو أول مصرى أسمع العالم صوت مصر، وعرف الرأى العام الأوروبى من مقالاته وأحاديثه وخطبه أن على ضفاف النيل أمة تشكو الاحتلال، وتطلب الحرية والاستقلال، وسافر إلى فرنسا فى مايو 1895، وقصد إلى باريس ليرفع فيها صوت الوطن، وهناك اتصل بكثير من رجال السياسة والصحفيين ليعاونوه فى أداء رسالته، وكتب فى هذا الصدد إلى شقيقه على بك كتاباً من باريس قال فيه: «إنى الآن أقضى ليلى ونهارى فى مخالطة كبار السياسيين لانتفع منهم بخدمة مصر المحبوبة، والحمد لله قد تشرفت بمعرفة الكثيرين، ورأيت من الجميع استعداداً لمعاونتنا وتحريك المسألة المصرية وطرحها على بساط المناقشة من جديد».
فى زيارة «مايو 1895» ابتكر أسلوباً دعائياً للقضية المصرية، يعتبره «الرافعى»: «أقوى وأكثر أثراً من مئات المقالات أو عشرات الخطب التى يلقيها»، ويذكر رضوان، أنه عهد إلى فرنسى فنان رسم لوحة تمثل فرنسا «ماريان» رمز هذه الدولة، وقد اتشحت بالعلم الفرنسى المثلث، وهى تتسلم من شاب مصرى طلباً، وإلى جانبها الأمم التى حررتها فرنسا وهى، أمريكا واليونان وبلجيكا وإيطاليا، وفى الجانب الأمامى من اللوحة، وقفت فتاة ترمز إلى مصر مكبلة بالأغلال يحرسها جندى غشوم مدجج بالسلاح، يرمز إلى الاحتلال البريطانى، ويقف إلى جانبه أسد يرمز إلى امبراطورية البريطانيين، وإلى جانب الفتاة النيل يمثلها شيخ يتكئ إلى جرة ينساب منها الماء غزيراً، ونظم «كامل» تحت هذه اللوحة الملونة أبياتاً من الشعر البسيط وترجمتها إلى الفرنسية.
يذكر «الرافعى»أنه ذهب هو وستة من زملائه المقيمين فى باريس إلى سراى مجلس النواب الفرنسى، يوم الأربعاء 4 يونيو «مثل هذا اليوم» من عام 1895 لتقديم الصورة والكتاب المتصل بها، فقابلهم المسيو «بريسون»، رئيس مجلس النواب، وتسلم منه الكتاب والصورة، وأبدى عطفه على الأمانى القومية المصرية، وأرسل «مصطفى» عقب المقابلة نسخاً من الصورة والكتاب إلى جميع صحف العالم، كما وزعها على جميع النواب والصحفيين والسياسيين فى فرنسا، وأرسل الآلاف منها لتوزيعها فى مصر، ويؤكد الرافعى: «كان لهذا العمل دوى هائل فى أوروبا وفى مصر لأنه نداء غير مألوف»، ويؤكد رضوان: «كسب مصطفى منها شهرة ومكانة، وتداولها الناس فى مصر سراً وكل من وصلته نسخة حرص على الاحتفاظ بها وربما أورثها لأولاده».