تلقى الكاتب الصحفى والروائى إحسان عبدالقدوس خطابا صادرا من مكتب بريد القاهرة، يوم 11 يونيو «مثل هذا اليوم» عام 1948 بتوقيع «حسين توفيق» الهارب أثناء محاكمته أمام جنايات القاهرة بتهمة اغتيال أمين عثمان، حسب كتاب «المحاكمة الكبرى فى قضية الاغتيالات السياسية» للكاتب الصحفى لطفى عثمان «الهيئة العامة لقصور الثقافة- القاهرة».
هرب «توفيق» يوم 9 يونيو 1948 «راجع ذات يوم 9 يونيو 2017»، فقررت وزارة الداخلية منح خمسة آلاف جنيه لمن يدلى بمعلومات ترشد إليه، وكان «إحسان» وقتئذ رئيس تحرير مجلة روز اليوسف، والقصة كلها كانت مصدر إلهامه لروايته «فى بيتنا رجل» التى أصبحت فيلما سينمائيا من روائع السينما المصرية بطولة، عمر الشريف وزبيدة ثروت، فكيف حدث ذلك؟
فى مذكراته «سيرة فنان صنعته الآلام» عن «الدار المصرية اللبنانية-القاهرة» يذكر رسام الكاريكاتير أحمد، أن «توفيق» التقى فى السجن بالمناضل اليسارى سعـد كــامل الذى اقترب موعد الإفراج عنه، فصارحه «توفيق» بنيته فى الهرب، وتحمس سعد للفكرة ووعده بمساعدته بل وتدبير خروجه من مصر، ويؤكد «طوغان» أنه بعد خروج سعد بشهور، دق جرس باب منزله وفوجئ بتوفيق أمامه، وكان هروبه حديث الراديو والصحافة، وبعد الأحضان والقبلات تذكر أن بقاء توفيق معه قد يؤدى إلى العثور عليه، فذهب به إلى إحسان الذى كان يبعد عن منزله باثنين كيلو متر، بشارع قصر العينى، ويؤكد«طوغان»: «أخفى إحسان، توفيق أسبوعا انتهى بهروبه إلى سوريا»، غير أن الكاتب الصحفى محمد عبدالقدوس «نجل إحسان» أكد لى أن الاختفاء كان يومين فقط، ومما يعزز ذلك أن تاريخ خطاب «توفيق» إلى «إحسان» 11 يونيو، وقال فيه:
«عندما تصلك رسالتى هذه أكون فى طريقى إلى فلسطين لأساهم فى تطهير الأرض المقدسة من عصابات الإجرام الصهيونية، وقد ظن بعضهم أنى تركت السجن فرارا من وجه العدالة، لكن ليعلم هؤلاء أنى ما أقدمت على هذا العمل إلا لأتمكن من مواصلة الكفاح ضد الاستعمار وأذنابه، فما كنت لأخشى يوما ما حكم القضاء، إلا إذا كانت الوطنية جريمة يعاقب عليها القانون، وحتى فى هذه الحالة، فإن إشفاقى لن يكون على نفسى، ولا على إخوانى فى الجهاد، وإنما إشفاقى على مصر من أن تهوى إلى هذه الهاوية السحيقة، قل لى بالله عليك ما الذى تجنيه مصر من سجن وتشريد أبر أبنائها، لقد قرأت فى صحف الصباح تصريحا للنقراشى باشا «رئيس الوزراء» يقول فيه عن هربى إنه حادث مزعج، ولا أدرى لماذا ينزعج دولته مع أن خروجى من السجن لا يزعج أحدا إلا الخونة وأعداء البلاد، وإنى واثق أن دولته ليس منهم، وإنى إن كنت آسف على شىء، فعلى مصير الضابط كمال عرفة «حارسه» وثق أنى لم أتعمد إيذائه، وإنما فكرت كثيرا فى طريقة للخلاص من سجنى بدون إيذاء أحد، ولكن كان لابد مما كان، جزاه الله خيرا وغفر لى.. أرسلت لك هذا الخطاب لأنى أعلم أنك الصديق الصحفى الوحيد الذى يفهمنى ويقدر ظروفى، وشكرا لدفاعك دائما عنى، وإلى لقاء إن كان هناك أمل فى اللقاء».
كان إحسان يبادل توفيق نفس التقدير، ففى مقال له بمجلة «الاثنين والدنيا «يوليو 1948» قال: «العلاقة بينى وبين حسين توفيق هى أغرب علاقة قامت بين كاتب وقارئ، فمنذ أن أطلق النار على أمين عثمان، وأنا أحس كلما أمسكت قلمى لأكتب مقالا أنى أكتب له، وأن صورته تلاحق كلماتى، وتسألنى معانيها وما أقصده من ورائها، كان حسين يبادلنى نفس الشعور، ويعتبر مقالاتى حكايات شخصية له، وكان يجد أن من حقه أن ينتقدنى فيما أكتب ويناقشنى فيه ويغضب منى ويغضب على، ولكن حسين توفيق لم يكن يمثل أمامى شخصه فقط، بل كان يمثل جيلا أنتمى إليه، ويعانى مثل ما أعانيه من حيرة وكبت، جيل يحقد على التاريخ لأنه لم يعش فيه، ويحقد على المستقبل لأنه لا يستطيع أن يطمئن إليه، جيلا ينظر إلى زعماء بلده فلا يجد خيطا واحدا يصل بينهم وبين واحد منهم، ويحاول أن يسمع فى أقوالهم أو يرى فى أعمالهم صدى لآرائه وترجمة لعاطفته فلا يسمع ولا يرى شيئا يقربه إليهم».
عرف الخطاب طريقه إلى النيابة، فندبت خبراء لمضاهاة الخط، وتأكدت أنه خط توفيق فعلا، ورجح المحققون أنه كتبه للتضليل، كما لاحظوا أن أسلوبه عال لا يتفق وثقافة توفيق، فاستنتجوا أنه أملى عليه، مما يدل على أن هناك شركاء له فى جريمته.