أفصح الشيخ عبدالرحمن الجبرتى لعدد من أصدقائه، وللمشايخ الذين كان يجتمع بهم ويتبادل معهم الرأى، عن آرائه المعارضة لمحمد على باشا والى مصر منذ عام 1805، فاستقر رأى «الباشا» وأقاربه على إسكات صوته، حسبما يؤكد الدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى فى كتابه «الأزهر جامعا وجامعة»، الصادر عن «مكتبة الأسرة - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة».
هو عبدالرحمن الجبرتى المولود سنة 1755 ميلادية، وينتسب إلى بلدة «جبروت» من بلاد «زيلع» بأرض الحبشة، وكما يذكر «الشناوى»: «ارتحل جده السابع زين الدين عبدالرحمن الجبرتى إلى جدة، ثم انتقل إلى مكة المكرمة وجاور بها وحج مرارا، ثم جاور بالمدينة المنورة سنتين وعاد إلى جدة، وارتحل إلى مصر فى القرن السادس عشر الميلادى وجاور بالأزهر، وأخذ «عبدالرحمن» العلوم الرياضية والفلكية عن والده، وانتفع بما كان يقصه عليه من أخبار العلماء والحكام، فجمع بين البراعة فى الفلك والحساب والتعمق فى المذهب الحنفى والإلمام بالدراسات التاريخية، وكانت باكورة إنتاجه العلمى كتاب «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيين» بمناسبة جلاء الحملة الفرنسية عن مصر عام 1801».
ثم جاء كتابه المهم «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»، ويتضمن الأحداث التى عايشها منذ العصر العثمانى المملوكى فى آواخر القرن الثامن عشر الميلادى ثم عهد الحملة الفرنسية، وفترة الاضطرابات السياسية «1801-1805» وحكم محمد على، وتوقف عن التأريخ عند يوم 27 سبتمبر 1821، ويذكر الدكتور عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم فى مقدمته لـ«عجائب الآثار» «مكتبة الأسرة - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة»: «الجبرتى فى مؤلفه هذا وعى واستوعب لكل ما كتب قبله، ومن هنا جاء تحليله للأحداث التى لم يعاصرها، ونقده وتحليله للأحداث التى عاصرها بعبارات موجزة وبسيطة، لأنه أدرك أهمية علم التاريخ، وأنه المقياس الحقيقى الذى به «يقيس العاقل نفسه على من مضى من أمثاله فى هذه الدار»، ويؤكد الدكتور محمد أنيس فى كتابه «مدرسة التاريخ المصرى فى العهد العثمانى» «مطبوعات معهد الدراسات العربية - القاهرة - 1962»: «يتميز بالدقة والموضوعية فى ذات الوقت، فهو يكتب للتاريخ والحقيقة المجردة، دون أن يتطلع إلى التقرب للحاكم طمعا فى الظفر بمناصب أو منافع مالية».
كان لـ«عجائب الآثار» دوره الرئيسى فى موت «الجبرتى»، فالكتاب يؤكد نفوره من حكم محمد على، وحسب «الشناوى»: «رأى أنه لم يتوفر فيه الشرطان الأساسيان للحاكم المسلم المثالى، وهما العدل والعلم، وعلق عليه تعليقات لاذعة، فهو منطبع على الظلم، ومستبد وليس له صديق أو حبيب، يغدر بأى إنسان، ومن صفته الحقد والحسد والتطلع إلى ما فى أيدى الناس»، وحاول الجبرتى أن يكون عادلا فى نظرته إلى محمد على فقرر أنه» كان له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان، فلو وفقه الله لشىء من العدالة، على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة، لكان أعجوبة زمانه وفريد آوانه».
كانت معارضة «الجبرتى» لحكم محمد على باشا، صامتة، وحسبما يؤكد الدكتور محمد فؤاد شكرى فى كتابه «مصر فى مطلع القرن التاسع عشر» عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة»، لم يعرف عن «الشيخ» أنه حاول أن ينقد بصورة علنية أساليب الباشا فى الحكم، أو أن يوجه النصائح لتقويمه، أو الانضمام إلى المعارضة السافرة عند ظهورها، إلا أن معارضته كانت خطيرة لأنها قامت على مبادئ معينة تتصل فى جوهرها بضرورة توافر العدل والعلم شرطا أساسيا لوجوب الطاعة للحاكم، وأفصح «الجبرتى» عن آرائه لأصدقائه وللأشياخ الذين كان يجتمع بهم ويتبادل معهم الرأى فى الأحداث الداخلية، ويذكر «شكرى» أن أجزاء من مذكرات الجبرتى «عجائب الآثار» ذاع أمرها فى أوساط المشايخ، فلم يكن فى صالح النظام القائم أن تنتشر هذه الآراء، ومن ثم استقر رأى محمد على وأقاربه، أخذا بالحيطة والحذر على إسكات صوت الجبرتى حتى فى معارضته الصامتة، فأجمع التواتر على أن صهر الباشا «محمد بك الدفتردار» فتك بابنه «خليل»، وقتله فى يونيو 1822 فقصم هذا البلاء ظهر والده، وعزف عن تسجيل الأحداث، ولم يلبث أن ذهب الحزن بجانب إجهاده السابق فى القراءة والكتابة ببصره حتى جاز إلى ربه بعد قليل»، ويذكر «الشناوى» نقلا عن «شفيق بك منصور يكن» أنه حقق سنة وفاته بمناسبة ترجمة «عجائب الآثار» إلى الفرنسية، وكتب فى مقدمة الترجمة أنه توفى يوم 18 يونيو «مثل هذا اليوم» 1822، وترك غلاما وبنتا، ومات الغلام عقب وفاة والده بسنوات قليلة، وأما الابنة فعاشت بعد وفاة والدها «نسيا منسيا».