يقولون تتحدث عن الرحمة والعفو والمسامحة وكأنك تقدم نسخة "مقلمة الأظافر" للإسلام، فأين تضع الجهاد والقصاص والحدود في هذه الصورة الوردية؟
الإسلام ليس بشيء يقبل تقليم أظافر، ولا توجد منه نسخة ناعمة وأخرى خشنة، إنما هناك أصل العفو والمسامحة وهناك وسائل للحفاظ على الأصل هي العقوبات للضبط والردع، الأمر الذي يسترعي الانتباه إلى علاقة العفو بالقصاص في الشرائع السماوية.
فالمبدأ في التوراة العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص، وفي الإنجيل قول السيد المسيح عليه السلام: "سَمِعْتُمْ أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فَحَوِّلْ له الآخر أيضًا".
قبل سنوات كنا في حوار مع كبار أساتذة اللاهوت بجامعة كمبريدج، فسألت واحدًا منهم عن قول السيد المسيح هذا، وهل هو بمثابة نسخ لنص العهد القديم في التوراة؟ فسكت قليلاً وقال: يصعب القول إنّ هناك نسخًا بين المبدأين، وسألني: كيف يوفق الإسلام بين القصاص والعفو؟
قلت: إنّ الله سبحانه وتعالى أوجد صفة الغضب في النفس البشرية لحكمة الدفاع عن الحق ونصرة المظلوم حال اعتدالها بعيدًا عن الإفراط والتفريط، والإنسان مجبول بطبعه على أن يحصل على حقه حال العدوان؛ فجاء التشريع بالقصاص لردع المعتدي من ناحية وتسكين نفس المعتدى عليه من ناحية أخرى، فإذا شعر المظلوم بتمكينه من القصاص وسكت عنه الغضب، تهيأت نفسه لقبول مبدأ المسامحة والعفو.
لهذا نجد أن أكثر من 65% من حالات القصاص في المملكة العربية السعودية تنتهي بالعفو في لحظة رفع السياف سيفه والجاني جاث على ركبتيه، على الرغم من المحاولات الكثيرة قبل ذلك في الحصول على العفو والإغراءات المالية والوعظ والتذكير بثواب العفو؛ إلا أنّ ولي الدم عندما يشعر بأنّه سينال حقه في القصاص ويرى ذلك أمام عينيه، يسكن غضبه وعندها يسترجع الوعظ والتذكير والترغيب الذي سمعه قبل ذلك.
ونجد بهذا المعنى آيات القصاص في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}، وذلك أنّ بعض يهود المدينة في الجاهلية كانوا يقولون لنقتلنَّ بالعبد منا الحر منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم.
بل اجتمع مرة أقارب قاتل عند والد مقتول من الأشراف وقالوا: ماذا تريد؟ فقال: إحدى ثلاث: إما تحيون ولدي، أو تملؤون داري من نجوم السماء، أو تدفعون إلي جملة قومكم حتى أقتلهم، ثم لا أرى أني أخذت عوضًا.
لهذا كان إقرار المساواة في القصاص من العدل والإنسانية.
ثم حثهم الله تعالى على العفو في عجز ذات الآية: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}، مع ربط مفهوم العفو بالشهر الحرام وبالتقوى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ، فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.
وتوجد في آيات أخرى منظومة متكاملة في الحث على العفو: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}.
ولهذا حثَّ النبيُّ ﷺ على أن يرتقي المرء بنفسه من القصاص إلى العفو بقوله: "ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا رفعه الله بها عزًّا"، وأنه "ما رُفِعَ إلى رسول الله ﷺ أمر فيه القصاص إلا أَمَرَ فيه بالعفو"، ويقول: "ما من رجل يُصَابُ بشيء في جسده فيتصدق به، إِلا رفعه الله به درجة وحطَّ عنه به خطيئة".
إذن فالقصاص علاج لإرادة الانتقام في النفوس مع الحث على العفو والمسامحة.
ونذكر إخوتنا الذين بغوا علينا ممن يظنون أنهم ينصرون الإسلام عبر تهييج الناس مطالبين بالثأر والقصاص في بعض البلدان:
حنانيكم، ما دمتم تتحدثون باسم الإسلام..
فإنّ ولي الدم هو صاحب الحق الوحيد في المطالبة بالحكم الشرعي بالقصاص.
ومهمتنا جميعًا أن نحثه على العفو والمسامحة.