تلقت مصر معلومات عن سوء أوضاع قادة الثورة الجزائرية فى السجون الفرنسية، فقررت القيام بمهمة إنقاذهم مهما تكلف الأمر، ووضعت المخابرات المصرية الخطة وبدأت فى إجراءات تنفيذها.
كان القادة أحمد بن بيللا، محمد خيضر، محمد بوضياف، حسين آيات فى السجون منذ ما يقرب من سبعة أشهر، بعد اختطاف فرنسا لهم يوم 22 أكتوبر عام 1956، وذلك فى أثناء اشتعال الكفاح المسلح للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسى. ويكشف ضابط المخابرات المصرية فتحى الديب، المسؤول عن ملف حركات التحرر العربية برئاسة الجمهورية مع جمال عبدالناصر، تفاصيل خطة «إنقاذ القادة» فى كتابه «عبدالناصر وثورة الجزائر»، دار المستقبل العربى - القاهرة، مشيرًا إلى أن المعلومات التى تلقوها فى مصر أكدت تعرض القادة لمتاعب، واحتمال قيام بعض المتطرفين من قادة الجيش الفرنسى بالجزائر باختطافهم من السجن، بمعاونة بعض أنصارهم فى باريس لإعدامهم. ويكشف «الديب» عن محاولتين، وطبقًا لخطتهم كان هناك دور لعناصر أجنبية فى التنفيذ، لكنه يرفض الكشف عن أسماء أصحابها، حفاظًا على سرية وأمن هذه العناصر، خاصة أن بعضهم تطوع بخدماته بلا مقابل، لاقتناعه بعدالة النضال العربى الذى يتزعمه جمال عبدالناصر.ويذكر «الديب» أنه كلف بعض الإخوة الملحقين العسكريين بأوروبا فى أواخر عام 1957، للاتصال ببعض الشخصيات المعروفة بقدرتها على التخطيط، وتنفيذ عمليات التهريب بنجاح، ومنهم من قام بالفعل بعمليات ناجحة، وحققوا فيها نجاحًا كبيرًا. ويؤكد «الديب» أنه تلقى عرضًا من ملحقنا العسكرى بالعاصمة الإيطالية روما، يشمل استعداد خبير إيطالى فى هذا المجال لتهريب المسجونين، وتسليمهم للطرف المصرى فى إحدى العواصم الأوروبية، وتتحمل مصر مسؤولية نقلهم إلى القاهرة، وذلك نظير مبلغ مالى فى حدود مائة ألف جنيه إسترلينى. ويقول «الديب» إنه توجه إلى روما لدراسة خطة هذا الخبير، ولما تبين له خطورة اللجوء إلى العنف فى العملية، عدل عن قبولها وعاد إلى القاهرة محتفظًا بالمبلغ المطلوب.
أما المحاولة الثانية فسافر بسببها «الديب» مع المقدم طيار عصام خليل، مدير مخابرات الطيران، إلى ميونخ فى ألمانيا يوم 27 يونيو «مثل هذا اليوم» من عام 1958، لكى يلتقى بمنفذيها فى اليوم التالى. ويذكر «الديب» أن «خليل» هو الذى تقدم إليه بهذه المحاولة فى نهاية شهر مايو 1958، وتعتمد على شخصيتين ألمانيتين كبيرتين يعاونهما ثمانية أفراد من الشباب النازى، واتفاق إحدى الشخصيتين الألمانيتين مع أحد مديرى سجن «لاسنتيه» الفرنسى الذى يوجد فيه القادة الجزائريون لمشاركتهم فى عملية التهريب، نظير تسلمه ما يساوى 15 ألف جنيه مصرى بالعملة الصعبة، وتخصيص مبلغ 5 آلاف جنيه للمصروفات النثرية للعملية.
ويذكر «الديب» خطوات تنفيذ المحاولة، وهى: «الاستفادة بوثيقة مزورة ومطابقة لأمر طلب نقل المسجونين للتحقيق معهم بقلعة «ميتز» شمال شرق فرنسا، واستخدام سيارة مشابهة لسيارات الجيش الفرنسى وموتوسيكلين وسيارة خاصة تنقل المسجونين فى حراسة الطاقم الألمانى بالزى الفرنسى، ويتم عبور حدود «سار بروكن» مستخدمين سيارة رئيس وزراء «السار» الحكومية». ويؤكد «الديب» أنه بعد إتمام الترتيبات، وتحديد ميعاد مدير السجن لموعد تنفيذ العملية يتقدم أحد الألمان فى زى ضابط جيش فرنسى، ويصاحبه باقى الألمان الثمانية فى زى جنود فرنسيين مسلحين، ويسلم الضابط مدير السجن أمر نقل المسجونين الجزائريين إلى قلعة «ميتز»، ثم تنحرف لتأخذ الطريق الموصل إلى منطقة «السار»، ويتوقف مسؤول السجن ومعه إحدى الشخصيتين الألمانيتين الكبار كضمان، ويستمر زوج ابنة مدير السجن الفرنسى مع القافلة إلى مدينة «مانهايم» الألمانية ليتم تسليم القادة الجزائريين.
وحسب «الديب»، فإن التسليم كان سيتم إليه أو من يحدده هو نظير تسليم الألمان 25 ألف جنيه، وعقب تسلم زوج ابنة مدير السجن الفرنسى مبلغ الـ 15 ألف جنيه يعود ليعبر حدود فرنسا «السار»، ليتم الإفراج عن الشخصية الألمانية، ويتحرك هو ووالد زوجته على طريق باريس،حيث يوثق مدير السجن بالحبال ويتركه على الطريق على أساس أنه وقع ضحية الذين قاموا بتهريب الإخوة الجزائريين.
تحدد بدء عملية التهريب فى الساعة الحادية عشرة مساء، ليكون هناك وقت كاف لعبور الحدود الفرنسية قبل أول ضوء. ويؤكد «الديب»: «كانت عملية انتقال القادة الجزائريين بعد وصولهم إلى مانهايم تقع على أكتافنا، من إعداد جوازات سفر ووسيلة الانتقال»، ووصل هو وعاصم خليل إلى ميونخ لهذا الغرض يوم 27 يونيو 1958، لكن اليوم التالى حمل مفاجأة.