معركة بقاء.. بهذه الكلمات يمكن ايجاز الصراع تخوضه صحف عالمية كبرى مع عمالقة السوشيال ميديا "فيس بوك" و"تويتر" ومحرك البحث الشهير "جوجل"، ردًا على احتكارهم سوق الإعلانات الرقمية، والسطو على حقوق الملكية الفكرية للصحف دون وجه حق من خلال إعادة نشر المحتوى عبر المنصات الإلكترونية المختلفة دون قيد أو شرط، ودون دفع ما هو مستحق من مقابل مادى.
وما بين صحيفة بريطانية كبرى فى ثقل "الإندبندنت" تتوقف عن استمرار نسختها المطبوعة لارتفاع التكاليف، وصحيفة أمريكية فى وزن "نيويورك تايمز" تبدأ خطة تقشف قاسية لخفض التكاليف أمام خسائر تقدر بملايين الدولارات لتراجع عائد الإعلانات، تخوض الصحف العالمية معارك منفردة كان القاسم المشترك فيها هو احتكار "السوشيال ميديا" للإعلانات، وتداعيات ذلك على مستقبل صناعة الصحافة بالكامل.
وبعد تراجع لافت فى إيرادات الصحف على مدار السنوات القليلة الماضية، كشفت دراسة حديثة لمركز بيو للأبحاث انحسار إيرادات الصحف الأمريكية من 18 مليار دولار عام 2016 مقارنة بـ50 مليار دولار العام الماضى، مشيرة إلى أن الصحافة لم يعد بمقدورها الصمت أمام احتكار هذه المواقع للإعلانات وهو ما يهدد صناعة الصحافة حتى فى أكثر البلدان ثراء مثل الولايات المتحدة وبريطانيا.
وأمام احتدام الأزمة، أقدم كبار ناشرى الصحف فى الولايات المتحدة، هذا الأسبوع على إعلان تحالف جديد للتصدى إلى ممارسات فيس بوك وجوجل، مطالبين الكونجرس بإعفاء التحالف من قوانين منع الاحتكار مثلما يتم التعامل مع عملاقى التكنولوجيا اللذان لا يخضعا لهذه القوانين.
وخلال الأشهر الماضية تزايد الجدل بشأن سطو فيس بوك وجوجل على أخبار الصحف، وردد الكثيرون سؤالًا مفاده: "إذا كان فيس بوك يريد أخبار الصحف لماذا لا يدفع مقابل؟"، وهو السؤال الذى طرحته صحيفة الجارديان البريطانية، ونقلت عن الخبير الإعلامى البريطانى بيتر بريستون قوله، إن أموال الإعلانات التى كانت تمول الصحف تذهب إلى "حوصلة الإنترنت"، فيس بوك وجوجل، وإن هذا يضع الصحافة فى أزمة تصل إلى إغلاق الصحف أبوابها.
وبحسب الخبير الإعلامى البريطانى،فأن "فيس بوك" و"جوجل" بحاجة للأخبار لكى يحافظا على استمرار تصفح المستخدمين لصفحاتهم، وإنهما إذا تسببا فى ضياع مصادر الأخبار سيكون عليهما أن يستبدلاها، طارحا فكرة أن يمولا الصحف.
وبحسب خبراء من مباردة "تقرير ستانفورد للابتكار الاجتماعى"، التابعة لجامعة ستانفورد الأمريكية، فإن مشاكل الإعلام فى العقدين الأخيرين تتخلص فى التالى 5 محاور أولها نقص القاعدة التمويلية للصحافة المطبوعة، ثم التفتت المتزايد لمجموعات الجماهير، بجانب تسارع النشر الرقمى والعشوائى والفورى للمعلومات، بالإضافة إلى استبدال المعلومات المكتوبة والتليفزيونية والإذاعية بمقاطع الفيديو، وأخيرًا تناقص كمية وجودة التعليم وما يليه من تدنى فى المعرفة بالشأن العام.
وقبل عام، سقطت صحيفة الإندبندبت البريطانية لتكون أول ضحية من الكبار، وأعلنت التوقف عن إصدار نسختها المطبوعة والاكتفاء بالموقع الإلكترونى، وذلك بعد صدور استمر 30 عامًا، لعبت فيه الصحيفة دورًا كبيرًا فى المجتمع البريطانى، فيما أعلنت مجموعة "جادريان" الإعلامية، الشهر الماضى، أن صحيفة الجارديان البريطانية وشقيقتها "الأوبزرفر" التى تصدر كل أسبوع يوم الأحد ستتحولان إلى صحف بحجم أصغر "تابلويد"، وكذلك أعلن مالك الصحيفة أن القرار سيدخل حيز التنفيذ فى مستهل عام 2018 بعد قرار إسناد طبعها مع صحيفة أخرى معروفة إلى جهة ثانية لخفض التكلفة.
ومن لندن إلى نيويورك، يتوالى سقوط ضحايا "فيس بوك" و"جوجل" ، حيث أعلنت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية قبل أسابيع تبنى خطة لتخفيض التكاليف تعتمد على شراء الموظفين العاملين بها لأسهم من الجريدة، وأكدت فى بريد إلكترونى داخلى للموظفين أن الصحفيين من الممكن أن يتعرضوا للتسريح الإجبارى فى حال عدم وجود عدد كافٍ من مشترى الأسهم.
كما ألغت الصحيفة أيضًا منصب المحرر العام، المعروف عالميًا بـ"أمين عام المظالم"، والذى يشكل لجنة حكم بين القراء والمحررين حال حدوث مشكلات، مشيرة إلى أن الصحيفة ستعتمد أكثر على تعليقات القراء، حيث جاء تقليل هيكل وظائف التحرير كإحدى التوصيات التى خرج بها تقرير داخلى نشر فى يناير الماضى تحت اسم "2020"، يدرس كيفية نقل الأعمال إلى عهد "الديجتال"، فرغم أن نيويورك تايمز لديها 2.2 مليون مشترك رقمى، إلا أنها تعانى من تراجع عائدات الإعلانات التى تؤثر على جميع وسائل الإعلام المطبوع.
وكشفت فى مايو الماضى، أن الإعلانات فى العدد المطبوع الخاص بنيويورك تايمز تراجعت بنسبة 18% فى آخر ربع سنوى، ليصل بذلك التراجع الكلى فى إيرادات الإعلانات إلى 7%.
وبحسب مراقبون، تنبئ هذه التطورات بمصير قائم لصناعة الصحافة التى تمثل لاعب أساسى فى حماية المجتمعات وكشف الفساد، وهو ما تنبه له الناشرين الأمريكيين الذين أعلنوا أمس الأول عن تأسيس " تحالف وسائل الإعلام"، الذى يطالب الكونجرس بالتدخل ومنحهم الحق للتفاوض جماعيا مع منصات وسائل التواصل الاجتماعى.
ويتمثل المطلب الرئيس للتحالف من الكونجرس منح الصناعة استثناء من قواعد مكافحة الاحتكار للتفاوض بشكل جماعى مع عمالقة التكنولوجيا، حيث تهدف هذه القوانين لمنع الشركات من الهيمنة على سوق معينه، وهو الأمر الذى لم تكن الصحف متهمة به من قبل، خاصة أن قوانين منع الاحتكار تستثنى فيس بوك وجوجل من قوى السوق، وهو ما بات يحتم على ناشرى الصحف ضرورة كبح جماح هذه القوى للدفاع عن استثماراتهم فى الصحافة، بحسب ديفيد تشافرين، رئيس التحالف الصحفى.
وكتب تشافيرن، فى مقال بصحيفة وول ستريت جورنال، الاثنين الماضى، قال فيه: "إن فيس بوك وجوجل لا توظف الصحفيين ولا تتعقب السجلات العامة للكشف عن الفساد، وإرسال المراسلين فى مناطق الحرب، إنهم يتوقعون أن يقوم صناع الأخبار، الذين يتعرضون للضغوط الاقتصادية، أن يقوموا بذلك العمل المكلف بدلا منهم".
وأضاف رئيس التحالف الصحفى، أن الطريقة الوحيدة التى يمكن للناشرين أن يواجهوا بها هذا التهديد العنيد هى الاتحاد معا، متابعًا: "إذا فتحوا جبهة موحدة للتفاوض مع جوجل وفيس بوك، عاملين على الدفع نحو تعزيز حماية الملكية الفكرية ودعم أفضل لنماذج الاشتراك وتحقيق حصة عادلة من الإيرادات والبيانات، فيمكن أن نبنى مستقبل أكثر استدامة لصناعة الأخبار".
وشدد تشافيرن، على أن الدور الفريد الذى تلعبه وسائل الإعلام فى السياسات الأمريكية وتاريخ الولايات المتحدة يجعل من المهم ضمان معركة عادلة حول الإيرادات بين الناشرين وهذه المنصات الضخمة.