الملازم عمر محمد جبر، الضابط صغير السن، الذى أبكى الجميع بكلمته فى حفل تخرج دفعة جديدة من طلاب كلية الشرطة، ليطلب الرئيس عبد الفتاح السيسى مصافحته، وسط تصفيق لا يتوقف من الحضور.
"عمر"، نجل الشهيد الراحل محمد جبر مأمور مركز شرطة كرداسة، الذى استشهد فى المذبحة الشهيرة عقب فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة، ظهر ثابتا واثقا من نفسه، لديه إصرار وصوت جهور يشبه صوت الأب، جعل كثيرين يردد "اللى خلف ماماتش".
هذا الشبل من ذاك الأسد، هكذا وصفته القيادات الأمنية بوزارة الداخلية، ممن عملوا مع والده فى جهاز الشرطة لعدة سنوات، إذ شهدوا له بالإصرار والعزيمة والتفانى فى العمل.
كنت محررًا فى بداية عملى بقسم الحوادث بـ"انفراد"، أتابع مع أقسام الشرطة فى الجيزة، ما يقع من جرائم والتقاط صور للمتهمين وإجراء بعض الأحاديث معهم، وتعرفت فى هذه الأثناء على اللواء محمد جبر، الذى كان يحمل رتبة "عقيد" وقتها.
جلست معه عدة مرات فى مركز شرطة أبو النمرس، قبل أن ينقل إلى مركز شرطة كرداسة، الذى استشهد داخله، إذ كان يحضر منذ التاسعة صباحاً، ويرفض مغادرة المركز مثل باقى زملائه فى وقت الرائحة ما بين الرابعة عصراً وحتى التاسعة مساءً، وإنما كان يواصل فترة عمله الصباحية بالمسائية، فيحضر من التاسعة صباحا، ويغادر المركز عندما تشير عقارب الساعة إلى الواحدة بعد منتصف الليل.
"جبر" لم يكن يجلس على مكتبه كثيراً يتحرك داخل مبنى المركز بنشاط، ويستقل "بوكس" الشرطة ليلا لعمل دوريات أمنية بنفسه، مكرراً جملته الشهيرة "أصل حياة الناس مسئولة مننا وإحنا بنعمل عشان نرضى ربنا"، قبل أن يعود فى المساء إلى المركز، ويضع على وجهه نظارته الطبية، ويقلب فى المحاضر التى تم تسجيلها على مدار اليوم، ويفحصها، ويدون فى ورقة خارجية ملاحظته.
مجند صغير يقف أمام باب مكتبه بالطابق الثانى على يمين السلم بمركز شرطة كرداسة، ينظم دخول المواطنين إليه لسماع شكواهم، فكان لا يمل ولا يهدأ له بال حتى يحل مشاكل الجميع .
لا مكان للمحسوبية ولا الوساطة في المركز، فالكل سواسية أمام اللواء محمد جبر، وربما تسببت دبلوماسيته فى الحل الخلاف بين المتنازعين، ويتنازل الطرفان عن المحضر، ويشرب الجميع الشاى فى مكتب المأمور، ويخرجون، وكأن المشكلة لم تكن.
نشاط "جبر" وتصرفاته المتزنة، جعلت صغار الضباط يتعلمون منه كيفية إدارة الأمور، فهو الحزم الشديد فى عمله، المرن الدبلوماسى فى حديثه، ذو الأخلاق العالية، يسأل عن الجميع، ويتصل من هاتفه الشخصى على صغار الأفراد عندما يعلم أن هناك مكروها أصابهم، ولا يغادر المركز حتى يطمئن على الجميع.
في آخر زيارة لي له قبل استشهاده، تحدث معي عن استعداده لزفاف ابنته، وتحدث معي عن رغبة "عمر" ابنه فى الالتحاق بكلية الشرطة مستقبلاً، ولم يك "جبر" وقتها يدرى، أن "عمر" سيتخرج من كلية الشرطة، وصورة والده في مقدمة صور الشهداء.
"عمر" نجل الشهيد محمد جبر، هذا الشبل الذي يشبه ذاك الأسد، لا يختلف كثيراً عن والده، لديه الرغبة الحقيقة أن يكمل مسيرة والده، الذي مات وهو يدافع عن بلده ووطنه، بعدما رفض أن يتخلى عن المبنى ويتركه للإرهابيين ووقف بصمود لآخر لحظة في حياته وهو يردد الشهادتين، فلم يخش الموت، وكأنه يعلم أنه سيأتى بعده ابنه لإكمال مسيرة الوالد.