حازم حسين يكتب: 23 يوليو "عجوز بدون أوراق ثبوتية" فى عيدها الـ65.. هل تلاعب محمد نجيب بالتاريخ وتستكمل أسرته المسيرة؟.. علاقة اللواء بالملك والإخوان تفجر الأسئلة.. وحكاية "الخطاب الغريب" لعبدالناصر تث

التاريخ صناعة ثقيلة، وليس كما يراه البعض مجموعا للحوادث المعلنة والأخبار المرصودة، وذكريات البشر العاديين وشهود العيان عمّا عاصروه واطلعوا عليه، فصنعة التاريخ فى جوهرها أعمق من تجميع الحوادث إلى جوار بعضها، ونَظم المواقف والأخبار فى قلادة واحدة، الأمر يحتاج قدرا من الرصد العميق والرؤية النافذة والقدرة على التحليل وربط الأمور ببعضها، رغم اختلاف السياقات والمثيرات والنتائج. ربما لتركيبة تخص الذهنية العربية، بطبعها المحافظ، وإدمانها لاستهلاك الأمور من ظاهرها دون نفاذ لجوهرها، إضافة إلى البُعد المتحفّظ فى التعامل مع الحوادث والأخبار والشخصيات، وإجلال فكرة الغرف المغلقة والدوائر الخاصة وحُرمة الحياة الشخصية، للأحياء والأموات، حتى لو كانوا رموزا وسياسيين وشخصيات عامة تتقاطع تفاصيلهم مع مصالح الوطن والمواطنين، ولا يليق أن تغيب المعلومات المتصلة بهم عن الوعى العام حتى لا تشيع حالة من الضبابية وقصور المعرفة، المهم أن هذه النقاط والمحددات الثقافية تشكل كلها أمورا تدفع قطار التأريخ الرصين والموضوعى خطوة للخلف، وتُقدّم عليه عربة الاعتباط والعشوائية وترويج الروايات الشعبوية وصناعة الأساطير والحكايات الجوفاء، وهذا بالضبط أبرز ما تعانيه ثورة 23 يوليو، بكل ما لها من رصيد وآثار وما عليها من ملاحظات وتساؤلات، بعد 65 سنة على ولادتها الضخمة، لتظل حتى الآن، وهى فى شيخوختها العمرية، عجوزا بدون أوراق ثبوتية يُعوّل عليها. خطاب محمد نجيب الانتحارى.. جواب لم يصل ليد المُرسَل إليه فى مذكراته المعنونة بـ"كنت رئيسا لمصر"، الصادرة فى العام 1984، ذكر اللواء محمد نجيب حكاية غريبة وغير منطقة، عن خطاب أرسله للرئيس جمال عبد الناصر إبان العدوان الثلاثى على مصر فى العام 1956، بينما كان "نجيب" رهن الإقامة الجبرية، إذ تحدث اللواء فى روايته عن تسطير خطاب سرى وعاجل موجه للرئيس جمال عبد الناصر، يطلب فيه السماح له بالمشاركة فى مقاومة العدوان بمنطقة القناة، ويتعهد بالعودة إلى مقر إقامته ثانية، بل وصل بالأمر إلى عرض تنفيذ عمل انتحارى أو الهبوط بمظلة محاطا بالمتفجرات، وبعيدا عن وجاهة الفكرة ومنطقية الاقتراحات المقدمة من محمد نجيب، وانسجامها مع شخصيته المحافظة التى كانت تؤثر السلامة دائما، أو تناسبها مع عمره الذى تجاوز 55 سنة وقتها، فإن الأمر الغريب هو نشر محمد نجيب لصورة الرسالة التى كان من المفترض أن تكون فى خزانة جمال عبد الناصر وورثته، أو ضمن محفوظات رئاسة الجمهورية أو الأرشيف القومى. حالة الغرابة اكتملت مع توالى نشر أسرة محمد نجيب وأقاربه المقيمين فى مسقط رأسه بإحدى قرى كفر الزيات بمحافظة الغربية، لصورة الخطاب المرسل من اللواء للرئيس جمال عبد الناصر، مكتوبا بخط يده وموقعا بتوقيعه الشهير، وهى النسخة الأصلية للخطاب، التى يثير وجودها فى حوزة "نجيب" وقت إعداد مذكراته، ثم فى حوزة أسرته وأقاربه الآن، تساؤلا مهما حول حقيقية الخطاب وصدق رواية محمد نجيب بشأنه. تبدو رواية الخطاب السرى غير منطقية لاعتبارات عدّة، ربما يتصل أولها بوضع محمد نجيب العسكرى وتعامله مع المحيطين بمنطق القائد منذ 1952، لا منطق المقاتل، وإنشاؤه لقوات الحرس الوطنى فى وقت تال للثورة مباشرة، وهى قوات شعبية غير نظامية، كان غرضها الأساسى توفير الدعم الشعبى للجيش، وتحقيق حالة الترابط بين المجتمع والمؤسسة العسكرية، وهى البنية الأساسية التى اعتمدت عليها المقاومة الشعبية فى خط المواجهة بالقناة، مع دعم لوجيستى وتسهيلات وتواجد غير مباشر من عناصر الجيش، وبالتأكيد كان يعرف "نجيب" طبيعة هذا الصراع وتعقيداته وحدود التواجد العسكرى فيه، وحدود ما يسمح به عمره وما يمثله من حاجز مباشر لتواجده مقاتلا على جبهة الصراع مع ثلاثة جيوش كبرى. النقطة الأبرز فى رواية الخطاب الغريب، أن هذه الحكاية لم ترد على لسان جمال عبد الناصر ولا أى من المحيطين به، سواء من مساعديه المقربين أو خصومه داخل مجلس قيادة الثورة، فلم يذكرها سامى شرف سكرتير عبد الناصر وأقرب مساعديه، ولم ترد على لسان الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذى انتهج استراتيجية كشف وتعرية لحقبة "عبدالناصر" مع صعوده للحكم فى أكتوبر 1970 وحتى آخر يوم له فى 6 أكتوبر 1981، ولم يتحدث أبناء "عبد الناصر" عن العثور على هذه الرسالة فى خزانة والدهم، ولم يوثق أى من الباحثين التاريخيين أو المهتمين بتحقيق التراث والوثائق التاريخية هذا الخطاب، ما يُعنى أنه إما كُتب فى وقت العدوان الثلاثى ولم يُرسل، أى لم يصل ليد جمال عبد الناصر، أو أنه لم يُكتب وقتها، وربما كتبه محمد نجيب فى مرحلة صياغة مذكراته المنشورة فى 1984، أى أنه ربما يكون محاولة مباشرة للتدليس والتلاعب بالتاريخ. 23 يوليو.. ثورة عظيمة الأثر تبحث عن أوراقها الثبوتية حكاية خطاب محمد نجيب الغريب لجمال عبد الناصر، تلخص أبرز أزمات ثورة 23 يوليو، التى انطلقت عبر تحرك مباشر للجيش لتصحيح الأوضاع السياسية التى قادت مصر لحالة من التردى فى أواخر حكم الملك فاروق، أسماها الجيش "الحركة المباركة"، وأسماها عميد الأدب العربى طه حسين "ثورة"، والأهم أن جموع الشعب تبنتها ونقلتها بالفعل من خانة الحركة أو التحرك العسكرى، إلى خانة الثورة أو الفعل الشعبى، وقياسا إلى حجم ما أنجزته من تغييرات كبرى فى بنية الدولة المصرية، سواء رأى البعض أنها إيجابية أو اعتبرها آخرون تغييرا سلبيا، فإنها ربما تكون الحدث الأبرز الذى شهدته مصر فى القرن العشرين بكامله، وربما حتى الآن، قياسا على امتداد آثارها لوقتنا الراهن، ما يجعل مسألة بقائها دون توثيق دقيق وواضح، أو دون أوراق ثبوتية موثقة، أمرا فى غاية الغرابة وإثارة التساؤلات. منذ انطلاقتها واجهت 23 يوليو مستويات متعددة من الترحيب والخصومة، تلقفها الشعب بمختلف طوائفه واتجاهاته، انحازت لها جماعة الإخوان مرحليا بهدف اقتناص أكبر قدر من المكاسب، ثم انقلبت عليها لاحقا، وخاصمها وأشهر سيف العداء فى وجهها رجال الملك ودوائر القصر ووجهاء وباشاوات الأحزاب السياسية الكبرى، وفى مقدمتهم حزب الوفد ورموزه، فريق تعامل معها باعتبارها ثورة وفتحا عظيما، وفريق اتهمها بكل الاتهامات واعتبرها انقلابا عسكريا وردّة بالبلاد، بينما وقفت 23 يوليو نفسها مستجيبة لنسيم الموالين ومناورة لأعاصير المعادين، ولم تهتم باستصدار أوراق ثبوتية موثقة تحفظ لها كيانها وذاكرتها مع امتداد العمر وسيرورة الأيام. أكبر المشكلات التى واجهتها 23 يوليو، هى مستويات العداء التى جاءت من دوائر الموالين، التيارات اليسارية اعتبرت الثورة صنعة فردية للضابط يوسف صديق "الشيوعى"، ونفت كل التفاصيل والرموز والأسماء الأخرى، الإخوان اعتبروها صنيعة "عبد المنعم عبد الرؤوف" وتابعيه، وزوّروا التاريخ ليثبتوا انتماء جمال عبد الناصر وخالد محيى الدين وزكريا محيى الدين لهم، والملكيون اعتبروها هدما للبلد الملكى المستقر، وتجاوزوا كوارث فاروق السياسية وتخاذله الكبير فى كثير من القضايا الوطنية وانبطاحه أمام الإنجليز، والوفديون اعتبروها انقلابا على الديمقراطية والرخاء اللذين حققتهما حكومات الوفد المتعاقبة، متناسين أن مصطفى النحاس صعد لرئاسة الحكومة فى 4 فبراير 1942 على دبابات الإنجليز، وأنه كان ينحنى ليقبل يد فاروق ذى الثلاثين عاما، وأن أكبر مبادرات حزب الديمقراطية والرخاء قبل ثورة يوليو كانت مبادرة قومية لمكافحة "الحفاء". محمد نجيب.. هل تلاعب اللواء بتاريخ مصر و23 يوليو؟ وسط دوائر العداء العديدة التى ترصدت ثورة 23 يوليو، وتفرغت لكيل السهام لها، وأكثرها ممن ادعوا موالاتها أو دعمها، ربما لا يبعد اللواء محمد نجيب كثيرا عن مستوى العداء، أو لنقل الخصومة، الأسباب تتباين بطبيعة الحال، ومنطلقاته ليست كمنطلقات الشيوعيين أو الإخوان أو الوفد، ولكن الرجل تحرك وفق رؤى وانحيازات وخطط مرسومة، يمكن اعتبارها "أجندة مكتملة"، ومسألة الخطاب الانتحارى الغريب الموجه لـ"عبد الناصر" ليست فاصلة القول الوحيدة. وفق رواية محمد نجيب لمشهد رحيل الملك فاروق عن مصر على متن يخت "المحروسة" فى 26 يوليو 1952، أن اللواء تأخر فى الطريق بسبب الزحام وعدم معرفة سائقه بالطريق، فوصل بعد صعود الملك لليخت وتحركه من الميناء، فاستقل "لانش" ولحق به فى البحر، دار دورتين حول اليخت ثم صعد لوداع الملك، وأنه قال له فى حوار ودى هادئ إن ممارساته هى السبب فى تحرك الضباط الأحرار ضده، وإنه كان من مؤيدى الملك قديما، ولكن أمورا عديدة تغيرت وغيرت موقف الجيش منه. الجانب الخفى من الرواية، الذى تناوله بعض المؤرخين ومن اشتبكوا مع هذه المرحلة، وأشار له جمال سالم الذى رافق نجيب فى رحلته حتى قبل سعوده يخت المحروسة، أن محمد نجيب تعمد التأخير حتى لا يلتقى فاروق على رصيف الميناء وأمام عناصر الجيش والأفراد المكلفين من مجلس قيادة الثورة بالإشراف على خروج الملك، كى تتوفر له فرصة ومبرر لأن يصعد له على متن يخت "المحروسة"، وأنه بعد صعوده لسطح اليخت أدى التحية العسكرية للملك، وانحنى مقبلا يده، واعتذر له عن تحرك الجيش، مؤكدا أنه لا يقف وراءه وإنما هو واجهة، ومشددا على عدم علمه بالتفاصيل إلا قبل ساعات. الرواية السابقة تتفق جزئيا مع رواية متواترة من عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وذكرها بيان للمجلس فى فبراير 1954، مفادها أن "نجيب" التحق بتنظيم الضباط الأحرار قبل الثورة بشهرين، وأنه لم يعلم بتوقيت التحرك إلا ليلة 23 يوليو، ولم يختره ضباط التنظيم الذين تراوحت رتبهم بين يوزباشى "نقيب" وبكباشى "مقدم" إلا لأنه كبير السن - كانت أعمارهم وقت الثورة تتراوح بين أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات وعمره فى الحادية والخمسين - وأنه يحمل رتبة لواء، وقليلا من الشعر الأبيض، والنقطة الأهم أنه من رجال الملك المقربين طوال سنوات، ما يوفر له مساحة اطلاع على تفاصيل القصر، ومساحة قبول من بعض رجاله. علاقة محمد نجيب بالملك والقصر تعود لوقت مبكر، وتحديدا منذ الملك فؤاد والد الملك فاروق، التحق "نجيب" بالحرس الملكى قى 1923 وترقّى فيه، وكان يتمتع بعلاقات وطيدة بالحاشية الملكية ويحمل ولاء ضخما للمنظومة ولشخص الملك، ووصل الأمر إلى الاستقالة من الجيش فى 4 فبراير 1942، احتجاجا على حصار دبابات الإنجليز لقصر عابدين وإجبار الملك على اختيار الوفد لرئاسة الحكومة، معللا استقالته بعجزه عن حماية ملكه. فى كتابه "كنت رئيسا لمصر" يقول اللواء محمد نجيب: "مشاعرى مع الإخوان رغم أنهم تخلوا عنى وعن الديموقراطية، ورفضوا أن يقفوا فى وجه عبد الناصر إبان أزمة مارس، بل وقفوا معه وساندوه بعدما اعتقدوا خطأ أنهم سيصبحون حزب الثورة"، وهى الرواية التى تصطدم مع روايات عديدة لأعضاء بمجلس قيادة الثورة، ووثائق محفوظة فى الأرشيف البريطانى، تؤكد قِدَم علاقة محمد نجيب بجماعة الإخوان، ومبايعته لمرشد الجماعة الأول حسن البنا، وولاءه للمرشد الثانى حسن الهضيبى، وأنه كان يساهم فى تحقيق السيناريو الإخوانى بوساطة واتصالات وتسهيلات من المخابرات الإنجليزية والسفير البريطانى فى مصر، وهذا مثلا ما تؤكده وثيقة تحمل الرمز (E1016/24)، ويتضمن نصها التفصيلى الطويل القول: "سيد قطب لعب دور الوسيط بين الإخوان والمجموعات الشيوعية، لتقريبهم من الجماعة، بخلاف أن الهضيبى أخبره أنه بمجرد عودته من سوريا فى أغسطس 1954، فإن محمد نجيب سيقود جزءا من الجيش للتخلص من مجلس قيادة الثورة"، وتقول الوثيقة نفسها فى موضع آخر: "ناقش الهضيبى خطة للإطاحة بمجلس قيادة الثورة والإمساك بزمام السلطة، بالتعاون مع اللواء محمد نجيب، من خلال مظاهرات سلمية، بحيث يتحول التنظيم السرى للإخوان لمنظمة تطالب بالحريات". إلى جانب الوثائق البريطانية، اتجه بعض المؤرخين والمهتمين بتلك المرحلة، إلى أن الإطاحة باللواء محمد نجيب من رئاسة الجمهورية، كانت بسبب توثيق اتصالات ومهاتفات جمعت "نجيب" بالمستشار حسن الهضيبى، مرشد جماعة الإخوان، تضمنت الاتفاق على ترتيبات وتحركات ضد مجلس قيادة الثورة، وتفاصيل خطط إخوانية للإمساك بزمام الأمور، ومساعدة نجيب فى الانفراد بالسلطة، وهو الأمر الذى تحتمله صيغة استقالة محمد نجيب الغامضة، التى حملت من الأسئلة أكثر مما قدمت من إجابات. استقالة محمد نجيب.. اللواء يواصل صناعة الألغاز وإثارة الأسئلة فى استقالته من رئاسة الجمهورية، التى سبقت وضعه رهن الإقامة الجبرية، قال محمد نجيب: "السادة أعضاء مجلس قيادة الثورة.. بعد تقديم وافر الاحترام، يحزننى أن أعلن لأسباب لا يمكننى أن أذكرها الآن، أننى لا يمكن أن أتحمل من الآن مسؤوليتى فى الحكم بالصورة المناسبة التى ترتضيها المصالح القومية، ولذلك فإننى أطلب قبول استقالتى من المهام التى أشغلها، وإننى إذ أشكركم على تعاونكم معى، أسأل الله القدير أن يوفقنا إلى خدمة بلدنا بروح التعاون والأخوة". الاستقالة الموجزة للواء الذى تولى الرئاسة سبعة عشر شهرا، وتولى رئاسة الوزراء تسعة عشر شهرا، واحتفظ بالمنصبين معا لشهور طويلة، لم تحمل أسبابا مباشرة لهذا الموقف، يبدو من الصيغة أن الرجل فى موقع ضعف، وأنه يواجه إدانة قوية أعجزته عن الكلام، بينما أصدر مجلس قيادة الثورة بيانا كشف فيه تفاصيل الاستقالة وأسبابها، قال فيه إن اللواء نجيب طلب سلطات أكبر من سلطات المجلس وأعضائه، وتمسك بأن يكون له حق الاعتراض على القرارات حتى لو صدرت بأغلبية أعضاء المجلس. صمت اللواء فى نص استقالته، وصمته على اتهامات مجلس قيادة الثورة له وما أعلنه أعضاؤه من أسباب لإبعاده، لم يكن موقفه مع كتابة مذكراته "كنت رئيسا لمصر" التى نشرها بعد وفاة عبد الناصر والسادات وكثيرين من أعضاء المجلس، إذ قال نجيب: "كان كل ضابط من ضباط القيادة يريد أن يكون قويا، فأصبحت لكل منهم شلّة، وكانت هذه الشلة غالبا من المنافقين الذين لم يلعبوا دورا لا فى التحضير للثورة ولا فى القيام بها، وقد رصدت بعض السلوكيات الخاطئة التى يرتكبها بعض الضباط فى حق الثورة وحق الشعب"، وهى الأمور التى كان يتوجب على اللواء الشجاع الذى طالب بعدها بشهور بالسماح له بتنفيذ عملية انتحارية، أن يعلنها فى استقالته إن كانت حقيقية، ولكن يبدو أنها كانت بطولة بأثر رجعى إو إمعانا فى تزوير التاريخ. استقالة محمد نجيب وخروجه من منصبه لم تكن الأولى، سبق أن فعلها فى فبراير 1954، ثم عاد بعد أزمة مارس، وخلال شهور شغله لمنصبى الرئيس ورئيس الوزراء، اصطدم "نجيب" بمجلس قيادة الثورة أكثر من مرة، لأسباب تتعارض مع فلسفة الحركة وانحيازاتها المباشرة، إذ اعترض مثلا على مصادرة 322 فدانا من أراضى زينب الوكيل، زوجة مصطفى النحاس باشا زعيم حزب الوفد، ضمن قانون الإصلاح الزراعى الذى أعاد توزيع الملكية الزراعية على الفلاحين، كما اعترض على محاسبة الوزراء والوجهاء المتورطين فى قضايا فساد، وأفرج عن مئات من مسجونى الإخوان على خلفية اغتيال النقراشى والخازندار وأحمد ماهر وقضية السيارة الجيب وتفجير حارة اليهود ودور السينما، وأحال إبراهيم عبد الهادى باشا، وزير الخارجية الأسبق، إلى المحاكمة بتهمة تعذيب الإخوان فى السجون عامى 1948 و1949، كما أعاد التحقيق فى قضية مقتل مرشد الجماعة حسن البنا، واستجاب لقائمة أخرى من إملاءات الجماعة فيما يخص عددا من الترتيبات الأمنية والسياسية، وتحرك بتوجيهاته لرفض قرارات جمهورية صادرة بإجماع مجلس قيادة الثورة بإسقاط الجنسية عن عدد من عناصر الإخوان المتورطين فى جرائم إرهابية، كما رفض محكمة الثورة التى تشكلت لمحاكمة رموز الفساد فى العصر السابق. هل محمد نجيب بطل كما صور نفسه فى مذكراته ويصوره أقاربه؟ خلاصة الصورة، وفق أغلب ما يتوفر من حقائق ومعلومات، أن اللواء محمد نجيب لم يكن بطل تحرك الجيش فى 23 يوليو 1952، رغم أنه حاول تصوير نفسه على هذه الصورة، كما لم يكن مؤمنا بكثير من فلسفة وأهداف الثورة وانحيازاتها، كان الرجل عسكريا "تكنوقراط"، ترقّى فى مؤسسات الجيش قياسا على التزامه وطاعته، خدم فى الحرس الملكى وكان يتمتع بعلاقات إيجابية واسعة مع حاشية الملك وطبيبه الخاص يوسف رشاد، ويحمل ولاء كبيرا لشخص الملك، سواء فؤاد أو فاروق، وكان يسعى للانفراد بالسلطة وإبعاد أعضاء مجلس قيادة الثورة الآخرين. الموضوعية نفسها تقتضى الإقرار بأن أعضاء مجلس قيادة الثورة الاثنى عشر الآخرين لم يكونوا تجمعا من الملائكة، كانت لديهم مشكلاتهم وأطماعهم، ولدى كل منهم تصوراته الخاصة عن الثورة وأهدافه منها، وزاد من تعقيد الأمر حداثة السن وقلة الخبرة، ولكن كان لديهم حد أدنى من المشتركات، تخص شكل النظام السياسى وصيغة الاقتصاد وآليات العدالة الاجتماعية والتعامل مع رموز النظام السابق، ويبدو أن اللواء ابن المنظومة الملكية والمتمتع بمكاسب واسعة خلالها، لم يكن راضيا عن كثير من هذه التفاصيل. ربما يكون اللواء محمد نجيب تعرض لقدر من الظلم والتعسف فى التعامل معه، إذا تغاضينا عن حقيقة الوثائق البريطانية وشهادات بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، وبعض عناصر وقيادات الإخوان، وحتى الوثائق المحفوظة فى الأرشيف البريطانى، وتعاملنا مع مسألة علاقته بالإخوان واتصالاته بالإنجليز وسعيه للإطاحة بمجلس قيادة الثورة والانفراد بالسلطة وتمكين الإخوان من مفاصل الدولة، على أنها شائعات أو معلومات لا ترقى لدرجة البناء المعرفى المتماسك الذى لا يقوم عليه دليل قاطع، ولا يصلح أساسا لتدشين تحليل كاشف للمرحلة وتعقيداتها، ولكن ما يحيط باللواء نفسه من حكايات عائلية، وما دوّنه فى مذكراته "كنت رئيسا لمصر" ويصطدم مع مواقفه المعلنة وقت الأحداث، كلها تحمل مؤشرات وشكوكا على تورط اللواء محمد نجيب فى إشاعة حالة من التضليل، لو أحسنّا الظن فى التفسير، أو تعمّد التلاعب بالتاريخ، لو شئنا الدقة فى التوصيف. قد نتفق أو نختلف على دور محمد نجيب فى ثورة يوليو وحدود تأثيره الفعلى فيها، على علاقته بالإخوان واتصالاته بالإنجليز، على ولائه للملك ومعاداته لأهداف واستراتيجيات تحرك الجيش، ولكن مقارنة مذكرات الرجل بسياق الأحداث وتفاصيل الوقائع وروايات أطرافها وشهود العيان عليها، والنظر فى الخطاب الغريب الذى كتبه لعبد الناصر ولم يصل ليد المُرسَل إليه، بل استخدمه اللواء وسيلة لغسيل يديه وتبييض صفحته والخروج من المعادلة بطلا وسط قطيع من الأنذال، كلها أمور ترقى لمستوى الأدلة، على أن محمد نجيب تورط، بحسن أو سوء نية، فى التلاعب بالتاريخ، وأنه استغل حقيقة أن 23 يوليو ثورة بدون أوراق ثبوتية، فحاول السطو عليها وتشويه منافسيه فى المعادلة، بقدر لا يقل عن موقف المنافسين أنفسهم حينما حددوا إقامته وحذفوه من المناهج الدراسية وتجاهلوا اسمه، الحالتان تقعان فى دائرة التجاوز والتلاعب، ربما يستند التلاعب فى إحدى الحالتين على شكوك واتهامات حول علاقات مباشرة مع أعداء الثورة من الداخل والخارج، ولكنه فى الحالة الثانية قد يكون تلاعبا من أجل التلاعب، صنعه اللواء، وربما تتورط أسرته فى ترويجه حتى الآن.












الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;