كان ذلك قبل عام وبضعة أيام.. عندما صوت البرلمان الإيطالى على وقف بيع قطع غيار طائرات الـ"F-16" إلى مصر، رغم جسامة التحديات التى كانت تواجهها الدولة المصرية آنذاك وانخراطها فى حرب حامية الوطيس ضد الإرهاب، الذى حاول التسلل إلى سيناء ومنها إلى قلب العاصمة.
مدفوعاً بقوة الغضب اجتمع البرلمان الإيطالى مطلع يوليو 2016، لبحث التصعيد ضد الحكومة المصرية تحت مزاعم عدم جدية التحقيقات التى تجريها السلطات لفك ملابسات مقتل الشاب الإيطالىجوليو ريجينى، إلا أن الجميع فوجئ بـ55 نائبا آثروا الانحياز لصوت العقل، وصوتوا برفض قرار وقف البيع تقديراً لما يجمع القاهرة وروما من علاقات تاريخية لا ينبغى أن يؤثر عليها حادث طارئ، وإيماناً بالحرب المشروعة، التى تخوضها مصر ضد الإرهاب فى سيناء نيابة عن دول المنطقة.
بدبلوماسيةلا يقودها طيش، وحكمة لا يدفعها غضب تحركت الدولة المصرية على جبهات عدة، لتثبت يوماً تلو الآخر ما لديها من حرص شديد على التوصل للجناة الحقيقيين فى قضية مقتل الباحث الشاب جوليو ريجينى، والتى لا تكف المنظمات والهيئات الدولية عن محاولة استغلالها للضغط على القاهرة والترويج من خلالها لسلسة من الأكاذيب والادعاءات مثل الزعم بوجود تعذيب فى السجون ومقار الاحتجاز، والإدعاء بتفشى ظاهرة الاختفاء القسرى.
وفى الوقت الذى كانت فيه الدولة المصرية تواصل حربها ضد الإرهاب، وتحرز انتصاراً تلو الآخر فى ميادين القتال ضد التطرف، وميادين العمل والبناء، كانت روما تنحاز أكثر لصوت العقل وتنصت بحرص بالغ لدوائر رسمية وشبه رسمية داخل الدولة الإيطالية ناشدت ـ ولا تزال ـ بعودة السفير الإيطالى جيامبولو كانتينى إلى القاهرة، وأكدت ـ ولا تزال ـ أن ما يجمع البلدين أكبر كثيراً من أن تؤثر عليه جريمة جنائية وقاتل مجهول.
وأمام تزايد الرأى العام الإيطالى المنحاز لفتح قنوات اتصال رسمية وعودة العلاقات الكاملة مع مصر، توالت زيارات الوفود الإيطالية من محققين فى قضية ريجينى، إلى نواب بالبرلمان الإيطالى والذين عقدوا مباحثات هامة لمسوا خلالها حرص القاهرة على استمرار العلاقات.
وبعد أسبوعين على زيارته للقاهرة ومباحثاته مع الرئيس عبدالفتاح السيسي، شدد نائب رئيسمجلس الشيوخ الإيطالىماوريتسيو جاسبارى على أهمية عودة السفير الإيطالى إلى مصر، وقال فى تصريحات نشرتها وكالة آكى الإيطالية: "سفير روما ينبغى أن يكون فى القاهرة غدا".
ونقلت وكالة "آكى" الإيطالية قول جاسبارى: "لا يمكننا تجاهل الجرح الذى سببه مقتل الشاب الإيطالى جوليو ريجينى، ولكن هناك علاقات بين الدول الكبرى لا يمكن تجاهلها أيضا".
وتابع نائب رئيس مجلس الشيوخ الإيطالى: "مهمتنا فى مصر كانت لتجديد العلاقات بين روما والقاهرة، وأملى أن سفيرنا يذهب إلى مصر فى أقرب وقت ممكن، لأن ذلك يصب فى مصلحتنا، وحتى بالنسبة لقضية ريجينى، فإن وجود السفير سيساهم فى التعاون الجيد فى تلك القضية بالتأكيد، ولكن هذا القرار للحكومة، ولو كان قرارى لأود أن يكون عودته غدا، ولجنة الدفاع فى مجلس الشيوخ سيحفز فى هذا الاتجاه".
وأكد نائب رئيس الدفاع فى مجلس الشيوخ حول زيارته الأخيرة للقاهرة أن المحادثات مع الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى تضمنت التأكيد على الرغبة فى التعاون مع السلطات الإيطالية فى البحث عن الحقيقة فى هذه القضية، مضيفا: "جامعة كامبريدج حتى الآن لم ترغب فى الرد على أسئلتنا".
ومنذ زيارة بابا الفاتيكان البابا فرانسيس الأخيرة للقاهرة ، وحتى الأيام القليلة الماضية، تزايدت الأصوات المطالبة بعودة السفير الإيطالى لدى القاهرة من داخل روما، حيث دعا الدبلوماسى الإيطالى أنطونيو زاناردى لاندى مستشار دبلوماسى سابق للرئيس الإيطالى، ورئيس منظمة "أنترسوس"، الحكومة الإيطالية، إلى إعادة السفير الإيطالى لدى القاهرة جيامبولو كانتينى فى أسرع وقت ممكن، نظرا لخلو المنصب منذ أكثر من عام منذ مقتل الطالب ريجينى فى مصر، مضيفا: "ليس من المنطقى أن يجرى البلدان حوارا عبر وسائل الإعلام، مشيرا إلى أن مصر تعد لاعبا رئيسيا فى عمليات إعمار دول منطقة المتوسط".
وقال زاناردى لاندى "إننا نحتاج إلى مصر مثلما تحتاج مصر لنا"، وتابع: "جميع الذين يؤججون القضية، يرون الموضوع بالكثير من التعاطف، ولكن حينما ينظر إلى الأمر بواقعية فإن عودة السفير الإيطالى فى القاهرة تشجع البحث عن الحقيقة، كما أنه يسمح بإدارة مجموعة من الملفات المعقدة (الهجرة، ليبيا، الإرهاب) فى ذروة علاقات دبلوماسية طبيعية وسيساعد على انتعاش التبادلات التجارية والاقتصادية، مضيفا: "أما بالنسبة لوضع ليبيا فإن إيطاليا تحتاج دائما إلى مصر، وإعادة السفير الإيطالى لمصر سيسهل أمور كثيرة على الطرفين وينهى أى أزمات أو خلافات موجودة".
من جانبه، قال رئيس لجنة الدفاع بمجلس الشيوخ الإيطالى نيكولا لاتورى، إن "هناك ضرورة لإعادة السفير الإيطالى إلى مصر فى الوقت الحالى، واعتقد أنه سيكون من المناسب تعزيز الوجود الدبلوماسى ليس فقط من خلال إرسال سفير روما للقاهرة نظرا لحساسية وأهمية القضايا التى ينبغى معالجتها".
وأكد لاتورى فى حوار مع صحيفة "لاستامبا" الإيطالية حول قضية مقتل الشاب الإيطالى جوليو ريجينى، أن "حل القضية أمر بالغ الأهمية، ولكن الحقيقة ليس لها علاقة بإعادة السفير إلى مصر".
وشدد لاتورى أن استمرار الفشل الدبلوماسى بين مصر وإيطاليا سيكون له عواقب سلبية ومخاطر ستأخذنا إلى طريق مسدود حتى فى قضية ريجينى، وشدد على أن إيطاليا ومصر تربطهما شراكة تجارية وسياسية قوية ومتماسكة ولا ينبغى أن تنهار لمجرد ملف أو قضية معينة.
ومنذ استدعاء السفير فى إبريل 2016، وما تلا ذلك من تغييرات إقليمية ودولية تدفع روما بطبيعة الحال إلى مزيد من التنسيق على الدول التى تشاركها البحر الأبيض المتوسط، يؤكد مراقبون حاجة الحكومة الإيطالية الماسة لقنوات اتصال مفتوحة على كافة المستويات مع القاهرة فى العديد من القضايا والملفات وفى مقدمتها الأزمة الدائرة فى ليبيا، والتى تشكل تهديداً حيوياً على أمن الحدود الإيطالية.
وبخلاف التنسيق الاستخباراتى والأمنى الذى تفرضه الطبيعة الجغرافية لمصر وإيطاليا، يرتبط البلدين بعلاقات مصالح مشتركة يستوجب معها وجود تمثيل دبلوماسى كامل، حيث يعتبر وجود سفير إيطالى فى مصر ضرورة ملحة ومهم فى الوقت الحالى.
وخلال الفترة الماضية ، شهدت إيطاليا تراجعاً حاداً فى عدة مجالات ضمنها الاقتصاد، فعلى الرغم من أنها تعتبر واحدة من أكبر 10 اقتصاديات فى العالم من حيث حجم الناتج المحلى الإجمالى، إلا أن دينها العام ارتفع إلى 2.217.909 مليون يورو، مع ديون 132.6 من الناتج المحلى الإجمالى. وفى مايو تراجع النمو 1.4%.
وتراجع مؤشر التنمية البشرية، كما تعتبر ايطاليا من أكبر البلدان الأوروبية التى تعانى من البطالة وصل حجم البطالة فى أبريل 2017 إلى 11.1%، وبالنسبة للشباب الأقل من 25 عاما وصلت نسبة البطالة إلى 34.0%، وبلغ عدد العاطلين عن العمل فى إيطاليا أكثر من 3.103.000، كما أنها تأتى فى المرتبة 60 فى ترتيب إدراك الفساد من 176 دولة.
ومثلما تبدى مصر تفهماً للمواقف الإيطالية، وفى الوقت الذى تؤكد فيه القاهرة على النوايا الطيبة فى تحقيقات مقتل الشاب الإيطالى، تظل روما فى حاجة ماسة إلى القاهرة، حيث يجمع البلدين تبادل تجارى بلغ حجمه فى عام 2016 ما يعادل 4.6 مليار يورو.