لا نبالغ إن قلنا إن أهم ما شهدته مصر منذ 25 يناير 2011 حتى 30 يونيو، أو حتى الآن، وربما لسنوات وعقود مقبلة، هو تفكيك سطوة جماعة الإخوان الإرهابية وسيطرتها على المفاصل الاجتماعية والثقافية للدولة المصرية، التى اكتملت لاحقا بسيطرة كاملة على المفاصل السياسية، استمرت سنة فقط، ولكنها تركت أثرا سلبيا على مصر يفوق آثار السنوات الثلاثين لحكم مبارك، الذى أطاحت به ثورة 25 يناير، فاقتنص الإخوان الفرصة واستولوا على الثورة والوطن.
الخطورة فى مشروع الإخوان أنه فى كل التصورات الموضوعية وحسنة النية مشروع غير وطنى، الجماعة وفق تأسيسها الفكرى ومدونات مؤسسها ومرشدها العام الأول حسن البنا، جماعة ذات طابع أممى، تسعى إلى ما أسماه البنا "أستاذية العالم"، ووفق هذا المفهوم فهى لا تحفل بصيغة الدولة الوطنية والحدود المستقلة والمصالح العليا للوطن ومواطنيه، وكان التجسيد الأبرز لهذا الانحياز فى حوار مرشد الجماعة السابق محمد مهدى عاكف مع صحيفة "روز اليوسف" قبل ثورة يناير بسنوات، والذى قال فيه نصا: طظ فى مصر وأبو مصر واللى جاب مصر، إيه يعنى لما يحكمنى واحد ماليزى".
قياسا على هذه الأفكار ومنظومة القناعات الإخوانية، وعلى ما شهدته مصر على يد الجماعة منذ اشتعال ثورة 25 يناير وحتى الإطاحة بها فى ثورة 30 يونيو، فلا تجاوز ولا افتئات لو قلنا إن مشروع الإخوان التنظيمى والسياسى هو أكبر وأخطر مخطط تفتيت واجهته الدولة المصرية فى تاريخها الحديث، وما كان يمكن مواجهة هذا المشروع الخبيث وخططه المدعومة بأجندات وتمويلات خارجية، إقليمية ودولية، إلا بحالة جادة من التوافق الشعبى الواسع، وقدرة حية وفعالة على التجانس وانسجام الوعى والحركة بين الشعب ومؤسسات الدولة، وهو ما أثمر معركة الشعب وملحمته بالغة الأهمية والعظمة فى 30 يونيو، وامتدادات هذه الملحمة المتصلة حتى الآن، للقضاء على آخر رواسب الأجندة الإخوانية ومساعيها لتفتيت الدولة المصرية المركزية.
مشهد انتخابات الرئاسة.. الأعداء فقط يهددون بإحراق البلاد
بعد أقل من ثمانية عشر شهرا على ثورة 25 يناير 2011، توافد ملايين المصريين على صناديق الاقتراع لانتخاب أول رئيس للجمهورية بعد الثورة، من بين 13 مرشحا خاضوا المنافسة وجرت المرحلة الأولى من التصفية بينهم فى 23 و24 مايو 2012.
بعد ثلاثة أسابيع تقريبا عاد الناخبون للجان التصويت مرة أخرى، يومى 16 و17 يونيو، للاختيار بين الاسمين اللذين صمدا فى المنافسة ووصلا للجولة الأخيرة، الفريق أحمد شفيق وزير الطيران المدنى ورئيس مجلس الوزراء الأسبق، ومحمد مرسى، رئيس حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية للإخوان المسلمين، ووسيلة الجماعة المباشرة لاستكمال اختطاف مصر، بعد السيطرة على مجلس النواب الذى جرت انتخاباته فى نوفمبر من العام السابق، ووضعت الجماعة وحلفاؤها من التيارات الدينية الأخرى أيديهم عليه بأغلبية مطلقة.
عقب انتهاء التصويت فى الجولة الثانية من الانتخابات، يبدو أن الأمور لم تكن منسجمة مع توقعات الإخوان، ضغطت الجماعة على الإدارة السياسية المؤقتة للبلاد، وصعّدت ضغوطها لتطال لجنة الانتخابات برئاسة المستشار فاروق سلطان، وحشدت عناصرها من كل المحافظات للاعتصام فى ميدان التحرير، مدججين بالأسلحة ومحمّلين بأوامر وتوجيهات بإشعال البلاد حال عدم إعلان فوز رجل الجماعة فى الانتخابات، وهى الرسالة التى تعمد مرشد الجماعة محمد بديع، ونائبه خيرت الشاطر، ورئيس البرلمان الإخوانى محمد سعد الكتاتنى، التأكيد عليها فى كل اللقاءات التى جمعتهم بمسؤولين وتنفيذيين ودوائر مرتبطة بلجنة الانتخابات، الجماعة تهدد بإشعال مصر، وتقرر عامدة وبسبق إصرار وترصد وضع خطوتها الأولى على طريق تفتيت مصر.
الإخوان.. محاولة قذرة لتفتيت الوطن بدأت من وادى النطرون
فى الساعات الأولى لثورة 25 يناير 2011، وبينما كان الشباب وعموم المواطنين يهتفون فى الشوارع والميادين بشعارات إصلاحية، تطورت لاحقا للمطالبة بإسقاط النظام وإنهاء حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، كانت سيناريوهات أخرى أكثر خطورة يجرى تنفيذها على مستويات متعددة، وفى مجالات جغرافية أبعد وأكثر اتساعا من رؤية الثورة وشبابها.
استغلالا لحالة الانفلات الأمنى وانشغال الأجهزة الأمنية بالتوترات المتصاعدة التى يشهدها الشارع المصرى، عبرت مجموعات عديدة من حركة حماس الفلسطينية خط الحدود مع الساعات الأولى من مساء 25 يناير، حاملة معها مخططات فى انتظار التنفيذ، وهو ما توفر لها مساء 28 يناير "جمعة الغضب"، مع تصاعد الأحداث وانسحاب أجهزة وزارة الداخلية من الشوارع، فاقتحمت عناصر "حماس" - الفرع الفلسطينى لجماعة الإخوان الإرهابية – عددا من المنشآت والسجون، فى مقدمتها منطقة سجون وادى النطرون بمحافظة البحيرة.
كان الهدف الموكل لعناصر حركة حماس تحقيقه، إلى جانب إشاعة حالة الفوضى والانفلات، وإيصال رسالة داخلية وخارجية مفادها تفكك مؤسسات الدولة المصرية وتحلل سيطرتها، هو إطلاق عناصر جماعة الإخوان المحبوسين فى عدد من السجون على ذمة قضايا سياسية وجنائية، وبالفعل نجحت ميليشيات حماس فى اقتحام عدد من السجون، وأطلقت سراح محمد مرسى وعدد من عناصر الجماعة الإرهابية، وكانت الخطوة الثانية بعد الخروج مباشرة، إذ أجرى "مرسى" مداخلة مباشرة مع قناة الجزيرة القطرية، باستخدام هاتف "ثريا" الذى لا يتوفر بكثافة، وتستخدمه كثير من الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة فى تأمين خطوط اتصال فاعلة وخارج منظومة الرقابة والتتبع.
مخطط الجماعة الإرهابية لاختطاف مصر من بوابة الثورة
فى الأيام الأولى من يناير، التى سبقت النزول فى تظاهرات 25 يناير 2011، اجتمع عدد من القوى السياسية وقيادات حركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير، للاتفاق على تفاصيل التحرك وقائمة المطالب السياسية التى يمكن رفعها وتحقيق مكاسب مضمونة من نظام مبارك من خلالها، ومثّل الإخوان فى هذه الاجتماعات القيادى بالجماعة محمد البلتاجى، الذى اعتذر عن المشاركة ورفض التظاهر ضد نظام مبارك، متعللا بصعوبة رفع أى مطالب أو تحقيق أى مكاسب سياسية.
مع اندلاع المظاهرات وتحقيق مكاسب ملموسة فى الأيام الأولى، دفعت الإخوان بعناصرها وبدأت مخططا للسيطرة على الساحة وركوب موجة الثورة، وهو ما تحقق لها مع تصاعد كثافة التظاهرات، وغياب التخطيط والتنظيم عن القوى السياسية الأخرى، وحقيقة أن التواجد الشعبى والواسع بالشارع كان تواجدا مستقلا وغير منظم سياسيا أو حزبيا فى جانبه الأكبر، واكتمل الأمر باقتحام السجون وإطلاق سراح عناصر الجماعة وقياداتها، وصولا إلى مسارعة الجماعة بتلبية دعوة رئيس الوزراء أحمد شفيق والقيادات السياسية والتنفيذية للحوار، الذى قاطعه شباب الثورة مدفوعين بتصورات رومانسية عن الثورة وقطيعتها مع مؤسسات الدولة التى اعتبروها بكاملها محسوبة على نظام مبارك ولا يصلح أن تكون شريكا فى أى ترتيبات مستقلة.
بحلول نهاية يناير والأيام الأولى من فبراير، أحكمت جماعة الإخوان قبضتها على التحركات الشعبية، وصدّرت نفسها باعتبارها طليعة التحرك المشتعل فى الشارع، والمفاوض الرسمى باسم الثوار وميدان التحرير، وجاءت "موقعة الجمل" فى الثانى من فبراير 2011 لتمثل نقلة مهمة على صعيد مكاسب الجماعة، فبينما تشير أدلة ومؤشرات عديدة لتورطها فى الأمر، ويؤكد شهود عيان موقفا جمع اللواء حسن الروينى، قائد الشرطة العسكرية السابق، بالقيادى الإخوانى محمد البلتاجى، بينما كانت وحدات الشرطة العسكرية تستعد لتطهير أسطح بعض العقارات المطلة على ميدان التحرير من اتجاه المتحف المصرى، فتعهد "البلتاجى" بتولى المهمة وصعد إلى الشباب، الذين كانوا فى غالبهم من أعضاء الجماعة والتيارات الموالية لها، ليتم إنهاء التوتر الأمنى بسهولة، كما اشتعل بسهولة ودون مبرر.
الخطوات التالية للجماعة كانت سريعة ومتلاحقة، بدأت منذ إعلان الرئيس الأسبق حسنى مبارك تخليه عن منصبه فى 11 فبراير، عبر تجهيز قواعدها وترتيب أوراقها وعقد اجتماعات تنسيقية مع حلفائها من السلفيين والجماعة الإسلامية والتيارات الدينية الأخرى، وتجلى التنسيق فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية فى مارس 2011، الذى مارست الجماعة ضغوطا كبيرة لتدفع برجليها، محمد سليم العوا والمحامى الفاشل صبحى صالح، ضمن لجنة صياغة التعديلات، ثم سوّقت الأمر لاحقا باعتباره معركة دينية وحربا على هوية مصر، وضللت المواطنين واستخدمت أدواتها التقليدية عبر الحشد الجماعى وتوفير سيارات النقل ورشاوى السلع الغذائية والتموينية، سعيا إلى فرض إرادتها وتأكيد المشهد المختل والمصنوع بعناية لإبراز الجماعة طرفا سياسيا مهما ومتصدرا للساحة، وتقديم الانتخابات البرلمانية على الانتخابات الرئاسية، حتى تستغل حالة السيولة والقوة المعنوية للمظاهرات والميدان، وتشتيت القوى السياسية فى الاعتصامات والمسيرات، لتسيطر على البرلمان بسهولة، وتقطع الخطوة الأكبر نحو السيطرة على مقاليد السلطة، بما يوفر لها فرصة لاحقة وسهلة للاستيلاء على رئاسة الجمهورية.
برلمان الإخوان.. الجماعة تستخدم المؤسسات لتفتيت الدولة
مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية سعت جماعة الإخوان لتأجيج الأوضاع فى الشارع، تدخلت بشكل ملتوٍ للحشد وتعبئة ميدان التحرير، تم لها ما أرادت بالفعل، إذ ضغطت بعناصرها فى اتجاه تأجيج الأوضاع، فكانت أحداث شارع محمد محمود الأولى فى نوفمبر 2011، التى انسحبت لها القوى السياسية الشبابية والحزبية دون وعى، واندفعت تحت الضغط الانفعالى الثورى والعاطفى لإعلان مقاطعتها للانتخابات البرلمانية، فتم للجماعة ما أرادت بانتخابات برلمانية منزوعة الدسم، منحتها فرصة سهلة لاقتناص أغلبية مقاعد البرلمان.
مع اكتمال الانتخابات واتضاح موازين القوى تحت قبة البرلمان، استكملت الإخوان خطواتها بحوارات وتفاهمات مع السلفيين والجماعة الإسلامية، وسيطرت على أغلب لجان المجلس، وبدأت تستخدم المؤسسة التشريعية فى التواصل والتنسيق مع جهات ومؤسسات دولية، وتعطيل بعض الإجراءات التنفيذية والتشريعية، وإقرار تشريعات تخص المنظومة الإدارية والقانونية للدولة المصرية، بما يوفر لها فرصة السيطرة على مفاصل البلاد، مع الضغط على الحكومة للاستجابة لرغبات وإملاءات الجماعة ومكتب إرشادها، وهو المؤشر الخطير الذى بدأ يتضح يوما بعد يوم، وأخطر ما فيه كان توظيف واحدة من أهم مؤسسات الدولة السيادية، فى تفتيت الدولة نفسها.
الأجندة المُحكمة لجماعة الإخوان، والتمويل غير المحدود، والاتصالات الدولية التى جمعتها بمنظمات وأجهزة أمنية وقوى إقليمية وعالمية، كلها وفرت للجماعة فرصة لمحاربة الدولة من خلال مؤسساتها، وتوظيف البرلمان كأداة لتقويض الدولة واختطافها، فعبر المجلس الإخوانى أحكمت الجماعة قبضتها على كثير من المؤسسات، ومارست ضغوطا على لجنة الانتخابات الرئاسية، وضمنت تسهيلات ومزايا لمرشح الجماعة محمد مرسى، وعبر وسائل الجماعة التقليدية من الحشد والرشاوى والشعارات الدينية وتزييف إرادة الناخبين، وابتزاز مؤسسات الدولة، عبر مرسى الجولة الأولى فى مايو 2012، ووصل لجولة الإعادة فى منتصف يونيو 2012، وتكفلت الجماعة بموازنة اهتزاز الصندوق ودوائر التأييد الواسعة للفريق أحمد شفيق، عبر ابتزاز مؤسسات الدولة وحشد عناصرها والتهديد بإحراق مصر.
إعلان فوز مرسى.. الإخوان تستكمل أدواتها لتنفيذ مخطط التفتيت
بعد أكثر من أسبوع على جولة الإعادة لانتخابات الرئاسة، أعلن المستشار فاروق سلطان، رئيس لجنة الانتخابات، فوز مرشح الإخوان محمد مرسى بنسبة تتجاوز 51% بهامش ضئيل، بينما قالت مصادر مطلعة إن النتائج كانت مغايرة لما أعلن، وإن الجماعة مارست ضغوطا بشعة على مؤسسات الدولة وأجهزتها، وهددت بإحراق مصر لو لم يُعلن فوز مرشحها، المهم أن النتيجة أعلنت كما أرادت الجماعة، ودخل محمد مرسى عيسى العياط قصر الاتحادية.
مع وصول "مرسى" للرئاسة اكتملت لجماعة الإخوان أدواتها السياسية والتنفيذية لاستكمال مخططها، بدأ الأمر بالتنكر لبنود اتفاق "فيرمونت" الذى جمع الإخوان بعدد من القوى السياسية قبل إعلان النتيجة بأيام، فى إطار ضغوط الجماعة على مؤسسات الدولة، وفى هذا الاتفاق تعهد مرسى وجماعته بتشكيل حكومة وفاق وطنى، وحضور القوى السياسية المختلفة فى الحكومة، وهو ما تجاوزه تماما منذ اللحظات الأولى لدخوله القصر الجمهورى.
فى المرحلة التالية شكلت الإخوان، عبر رجلها فى رئاسة الجمهورية، حكومة خاضعة لسيطرتها بشكل كامل، واختارت هيئة استشارية رئاسية من عناصر الجماعة والتيارات الدينية الموالية لها، وأصبح من اليسير أن تتواصل الجماعة مع التنظيمات والقوى الإقليمية والدولية بشكل يبدو رسميا ولا شبهة فيه، أى أنها استكملت مخططها لتوظيف مؤسسات الدولة فى هدم الدولة وتفتيها.
بحسب مصادر ومعلومات موثقة، رُصدت مكالمات هاتفية جمعت محمد رفاعة الطهطاوى، رئيس ديوان الرئيس الإخوانى محمد مرسى، بالقيادى الإرهابى محمد الظواهرى، شقيق زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهرى، وأحد النافذين فى دعم الإرهاب والعناصر المتطرفة فى سيناء، وكان النموذج الأبرز والأكثر فداحة الكلمة التى وجهها مرسى نفسه فى الشهور التالية، خلال اختطاف عدد من جنود الشرطة فى سيناء، مطالبا الأجهزة الأمنية بالحفاظ على سلامة "الخاطفين والمخطوفين"، هكذا بهذه الصياغة وبنفس الترتيب، مقدما سلامة الخاطفين/ الإرهابيين، على سلامة المخطوفين/ الجنود.
فى نوفمبر 2012 قررت الجماعة الكشف عن وجهها الحقيقى وتسريع خطواتها باتجاه السيطرة على البلاد، وهدمها من داخلها، أو تفخيخ مؤسساتها لتتكفل الصراعات المنتظر اشتعالها بين هذه المؤسسات بتفتيت الدولة، فصاغت إعلانا دستوريا تكفل مندوبها فى رئاسة الجمهورية بإصداره، يُحصّن البرلمان المطعون فى شرعيته، ويُحصن قرارات "مرسى" نفسه، ويفرض مظلة شمولية واسعة على فضاء مؤسسات الدولة، بما يضمن للإخوان التحكم الكامل فى مفاصل مصر وأجهزتها التنفيذية والسيادية، وهو ما واجهته القوى السياسية بموجة رفض عارمة وتظاهرات واعتصامات متصلة فى التحرير وغيره من الميادين، وفى محيط قصر الاتحادية، لتطلق الجماعة ميليشياتها المسلحة لتصفية المعارضين، فكانت أحداث الاتحادية فى ديسمبر التالى، التى راح ضحيتها عدد من الشهداء، فى مقدمتهم الصحفى الحسينى أبو ضيف.
موقعة الاستاد.. مرسى والإخوان يخونون مصر فى سوريا
فى الشهور التالية تجلت فداحة الوجود الإخوانى وأثر الجماعة السلبى والمهدد للدولة ومصالحها وأمنها القومى، تصاعدت موجات المعارضة، دشن الشباب حركة "تمرد" للمطالبة بالإطاحة بالجماعة وعزل مندوبها المشبوه فى رئاسة الجمهورية، وطوال أبريل ومايو ويونيو 2013 تواصل جمع التوقيعات، حتى وصلت إلى حوالى 27 مليون توقيع قبل أيام من الموعد المحدد للتظاهر فى 30 يونيو.
بينما كان الغضب والرفض الشعبى للجماعة ونظامها يتصاعدان فى الشارع، كانت تواصل سياستها المعدة سلفا لتقويض الدولة، وكشف رد الجماعة ورجلها فى الرئاسة، محمد مرسى، على التحركات الواسعة الرافضة لسياساتهم المشبوهة والمهددة للدولة، عن طبيعة المخططات التى ترمى لها الجماعة ومنظومة العلاقات التى تدور فى فلكها، إذ دعا "مرسى" لمؤتمر فى استاد القاهرة تحت مسمى مزعوم "نصرة سوريا"، دعا فيه قيادات التيارات السلفية والتنظيمات الدينية وعناصر الجماعة الإسلامية المتورطين فى جرائم إرهابية ثابتة، ومنهم عاصم عبد الماجد وعبود وطارق الزمر، وفتح الباب خلال المؤتمر لتهديد القوى السياسية وسبابها، وأعلن "مرسى" قطع العلاقات السياسية والدبلوماسية مع سوريا، فى خطوة لا يمكن تفسيرها إلا باعتبارها دعما مباشرا للجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة الناشطة على أرض سوريا، وهو ما يمثل تهديدا مباشر وخطيرا للمصالح المصرية والأمن القومى للبلاد، الذى تمثل سوريا دائرة أساسية مهمة من دوائره، ولا يمكن بحال تخيل أن تقويض الدولة السورية أو تفتيتها أو تسليمها للعناصر والميليشيات الإرهابية يمكن أن يكون فى صالح مصر، أو أن يكون هدفا لأحد إلا من يريد تفتيت مصر نفسها.
30 يونيو.. معركة ممتدة لإفساد سيناريو تفتيت الدولة المصرية
لم تُسفر خطوة الإخوان ، وحلفائها من الجماعات الإرهابية، لاستعراض القوة وتهديد الخصوم السياسيين، عن أى تغير فى موقف القوى السياسية من الجماعة وضرورة الإطاحة بها حفاظا على الدولة المصرية وصيانة لها من التفتيت، بل زادت حدة الغضب الشعبى والرفض القطعى والنهائى للجماعة وبقائها، فكانت ثورة 30 يونيو، التى مثلت حالة بالغة الاتساع والقوة من الوعى وتوافق القوى السياسية المدنية، وقراءتها الناضجة للمشهد ودوائر الأمن القومى المصرى ومقتضيات صيانته.
الوعى الشعبى لم يكن له أن يقتنص حظا من النجاح أو يصيب أهدافه دون استعادة المؤسسات الوطنية لنفسها، واستعادة الشعب لها، ورغم محاولات الإخوان طوال سنة لتقويض الدولة ومؤسساتها، واستخدام هذه المؤسسات فى تكسير بعضها وتفتيت مصر، إلا أن قدرا من التماسك الذى توفر للقوات المسلحة والمؤسسات الأمنية الأخرى، ضمن أن يجد التحرك الشعبى ظهيرا قويا، يوفر آلية حماية للشعب الثائر ضد الإخوان من ميليشيات الجماعة، التى فعلتها من قبل وغدرت بخصومها وقتلتهم أمام القصر الجمهورى، وكانت على استعداد لفعل الأمر نفسه دون حالة التكاتف الشعبى والتوافق بين المواطنين ومؤسسات الدولة.
أسفرت ثورة 30 يونيو الكاسحة، وما اشتملت عليه من توافق سياسى وترابط عميق بين الشعب ومؤسسات الدولة، عن كبح جماح الجماعة الإرهابية، وكسر مخططاتها وأجنداتها ضخمة التمويل وواسعة التأييد إقليميا ودوليا، فى مفاجأة لم توفر متسعا للداعمين بالداخل والخارج لرد الموجة الشعبية وإنقاذ الجماعة، التى واصلت عنادها ودفعت فى اتجاه التصعيد وإشعال الشارع، فكان اعتصامها وحلفائها من التنظيمات الدينية الإرهابية الأخرى فى رابعة العدوية ونهضة مصر، وما تلا ذلك من أعمال إرهابية واستهداف للمنشآت والأفراد والمؤسسات الأمنية، وهى الموجة الإرهابية الممتدة حتى الآن، ولكن معركة "30 يونيو" الممتدة حتى الآن أيضا، مثلت قوة ردع مهمة لهذه المحاولات، وأداة سيطرة مكافئة لتحركات الإخوان وحلفائهم ومموليهم على كل الأصعدة، ما ضمن للدولة المصرية عبورا آمنا من منعطف الجماعة ومخططاتها، وأمّن هذا العبور حتى الآن.
فى المرحلة التالية لخروج الجماعة من السلطة بشكل مهين، عبر ثورة شعبية كاسحة، لم تعد لديها أوراق للعب بها، فاضطرت لكشف كل أوراقها المخبوءة طوال الفترة السابقة من عمر ثورة يناير وحتى ما بعد ثورة يونيو، وجهت الجماعة كثيرا من قياداتها وعناصرها لوجهات آمنة لدى الحلفاء والداعمين فى قطر وتركيا، استخدمت أموال الدوحة وأنقرة فى فتح نوافذ إعلامية عديدة تستهدف تشويه الدولة المصرية وإشاعة حالة من التضليل بشأنها، وجهت عناصر التنظيم الدولى فى لندن وواشنطن وعدد من عواصم العالم للتحرك ضد الخريطة السياسية الجديدة فى البلاد، ووصل الأمر لمحاولة مقاضاة مصر دوليا، وتحريك دعاوى أمام المحكمة الجنائية الدولية، بحسب ما صرح به المستشار طاهر الخولى فى حوار سابق مع "انفراد".
أحدثت 30 يونيو الأثر الأكبر والأهم فى الواقع المصرى، الآن ومستقبلا، وربما منذ فشل ثورة 23 يوليو 1952 فى القضاء على جماعة الإخوان رغم ما تورطت فيه من جرائم وممارسات ضد الدولة المصرية ومصالحها، ورغم ما يبدو أنه استمرار طويل الأمد لممارسات الجماعة وقنوات تمويلها، وتعميق لأواصر علاقتها بمموليها ومشغليها فى أنقرة والدوحة وغيرهما من العواصم، فإن النظرة الجادة تكشف حقيقة وعمق ما أنجزته ثورة 30 يونيو، وتقويضها لمشروع الجماعة المشبوه بشكل يقترب من القضاء الكامل على كل أمل لعودتها للساحة، سواء من بوابة السياسة، أو عبر العمل الدعوى والاجتماعى الذى استغلته طوال سنوات حكم السادات ومبارك للتمدد وزيادة نفوذها فى بنية المجتمع المصرى.
رغم استمرار جهود الجماعة لإشاعة حالة من القلق وانعدام الأمن، وإصرارها على مواصلة عملياتها الإرهابية وتحريك أذرعها بالداخل لتنفيذ عمليات نوعية خاطفة، تظل ضئيلة جغرافيا وفى نطاق الأثر، بفضل منظومة أمنية تقطع الطريق على كثير من التحركات والخطط وتحصرها فى أحوزة محدودة وهامشية، فإن استمرار معركة "30 يونيو" وفق انحيازاتها العليا المواجهة للراديكالية الدينية ولاستغلال العقائد فى خدمة السياسة، والعمل وفق أجندت إقليمية ودولية لا تضع المصلحة الوطنية فى اعتباراتها، تمثل أكبر أداة ردع للإخوان وكل من يدور دورتهم ويعمل بطريقتهم، وهى الضمانة القوية لإفساد أى سيناريو أو مخطط يستهدف ضرب ركائز الدولة الوطنية، وتفتيت قلبها الصلب.