سألت الموسيقار عمار الشريعى فى لقائى به عام 1996 عن الموسيقار رياض السنباطى، فانطلق: «السنباطى هو الذى يعرف 999 أصلًا من ألف أصل للموسيقى، يعرف الشكل، التخريج، التوصيف، السنباطى تركيبة معقدة بالمعنى الإيجابى للتعقيد، عواطفه ليست سهلة، لا تستطيع قطعها بسكين كما تقطع قالب زبدة أو قطعة جاتوه، عواطفه مركبة، جملته اللحنية فيها مزيد من الكبرياء، فيها رصانة، عمق، شجن، جملة صعبة لا تستطيع ترديدها فور انتهاء اللحن».
يدلل «الشريعى» بلحن «الأطلال» لأم كلثوم: «لحن فيه كل ما قلته عن التعقيد، الكبرياء، الرصانة، العمق، أم كلثوم خافت منه رغم عبقرية اللحن، لكن ثقتها فى السنباطى كانت مقدمة على كل شىء، قالت له: خايفة يا أستاذ، فرد: «متخفيش»، أمدها بالثقة، فنجح اللحن وأصبحت القصيدة على كل لسان، وفى كل قلب، ورأينا ست بيت لا تكتب ولا تقرأ لكنها تغنى كلمات إبراهيم ناجى: «يا فؤادى لا تسل أين الهوى/كان صرحا من خيال فهوى/اسقنى واشرب على أطلاله طالما الدمع روى».
يواصل الشريعى: «رياض معمارى فى موسيقاه، النهاردة نرمى أساس العمارة، وبكرة نرفع الأعمدة، وبعده نرمى السقف، وبعد كده نسدد بالطوب، وبعدها ندخل على التشطيبات، وفى الآخر ننتهى بعمارة شيك كل حاجة فيها بالمقاس.. اللحن عند رياض تخطيط هندسى معمارى مدروس بالسنتيمتر».
قال «الشريعى» هذا الرأى لى عام 1996 فى منزله، أى بعد 85 عاما من مولد رياض فى فارسكور دمياط يوم 30 مارس 1911، وبعد 15 عاما من رحيله، حيث توفى فى مسكنه بـ«مصر الجديدة» فى القاهرة يوم 9 سبتمبر «مثل هذا اليوم» عام 1981 بتأكيد «صميم الشريف» فى كتابه «السنباطى وجيل العمالقة» عن «دار طلاس- دمشق»، مشيرًا إلى أنه استيقظ من نومه كعادته فى الساعة السابعة صباحًا، فنادى على زوجته السيدة كوكب، فدخلت عليه هاشة باشة وفى يدها فنجان الشاى فتناوله منها، وفجأة داهمته نوبة قلبية حادة زادها سوء الربو المصاب به، واستدعى طبيبه الخاص، وفى أول الليل داهمته نوبة مشابهة فأسلم الروح، ودفن فى اليوم التالى 10 سبتمبر».
«كان آخر عمل فنى أنهاه وسجله بصوته وعلى عوده قبل أن يأوى إلى فراشه فى ليل الثلاثاء الثامن من سبتمبر هو قصيدة «يا بعيد الدار»، وكأنه ينعى نفسه، طبقًا للشريف، وبين مولده وموته، جمعت رحلته بين عبقرية الإبداع الموسيقى، وبين العزلة، التى دفعت الكاتب والناقد الفنى، كمال النجمى، إلى أن طرح سؤالا فى كتابه «سحر الغناء العربى» عن «دار الهلال - القاهرة»: «هل يحاسب رياض السنباطى على ظروفه النفسية الخاصة؟ لقد اشتهر بالانقباض على الناس كأنما طبعه الجفاء، ولكن للنفس- وبخاصة نفس الفنان - أحوالا تبدو عجيبة عند من يأخذها على علاتها ويكتفى بظاهر أمرها، دون تعمق فيما وراءها».
غير أن هذه العزلة أثمرت عن إبداع يصف «الشريف» صاحبه بأنه: «آخر الكلاسيكيين المبدعين، لم تجرفه فوضى التجديد الارتجالى، ولم يجر وراء موجة الصراعات، التى قامت على اللاشىء، واجتاحت إلى حين كل شىء دون أن تعطى ثمرا، رياض هذا كان يحترم أسلافه الكبار، ويحترم العلم الذى جاؤوا به، والعطاء الذى بذلوا من أجل الارتفاع بالفن الموسيقى والغنائى، كان يقول: من يستطيع أن يفعل شيئًا بعد «سيد الكل» سيد درويش؟. ومن احترامه لأسلافه الكبار، تدفق إبداعه، بدءا من الأغنية الشعبية والطقطوقة، ومرورا بالأغنية الدينية والمونولوج، وانتهاء بالقصيدة، التى يعتبر سيدها المطلق».
ويراه «النجمى»: «صانع أجمل غناء فى عصرنا، ولا يمكن أن نسمع أم كلثوم بدون أن نذكر الملحن المتفنن الذى انبثقت من موهبته المدهشة تلك الفيوض من الروائع والشوامخ اللحنية، التى لم يسبق لغزارتها وسحرها مثيل فى الغناء العربى المسموع والمسجل، صنع غناء عربيا تخطى به الحدود، التى كان البعض يتصورون أنه يتوقف عندها تطريبا وتعبيرا، وأتى فى ذلك بما يحير العقول».
يضيف النجمى: «صحيح أن الغناء العربى خلع أهابه القديم منذ جدده عبده الحامولى ومحمد عثمان ومحمد المسلوب وأبو العلا محمد، ثم سيد درويش ومعاصروه، ثم عبدالوهاب والقصبجى، ولكن عمل السنباطى ارتبط بصوت أم كلثوم - وهو ظاهرة تاريخية نادرة - فكان من نصيب السنباطى أن يحقق إنجازًا نادرًا فى تاريخ الغناء العربى، وفعل ذلك على خير الوجوه»، وبالرغم من كلثومياته إلا أنه هناك 97 أغنية قدمها لآخرين، و12 غناها بنفسه إلى جانب 36 معزوفة كانت تبثها الإذاعة المصرية فى بداياتها لمدة ساعتين مرتين فى الأسبوع أشهرها معزوفة «رقصة شنغهاى» و«عرائس البحر» و«إليها» و«رحلة الفلك».