أطلق منذ شهور مجمع البحوث الإسلامية خدمة جديدة للرد على الفتاوى إلكترونيا، لكن المفاجأة التى توصل لها "انفراد"، أن بعضًا من تلك الفتاوى مخالف لما أفتت به دار الإفتاء المصرية، وهى الهيئة المعتبرة والمعنية بالفتوى فى مصر.. الفتاوى التى رصدها "انفراد" على موقع مجمع البحوث الإسلامية بها جانب من التشدد، بل وصل الأمر إلى نسف فكرة التمويل العقارى والتى تنادى به الدولة وتعمل على دعمه، بالإضافة إلى أن المجمع حرم القروض من البنوك، بخلاف ما أفتت به دار الإفتاء.
"أهل مكة أدرى بشعابها"، "إدى العيش لخبازه" وغيرها من الأمثلة الشعبية تفرض نفسها هنا فتلك الإشكالية التى قام بها وعاظ مجمع البحوث الإسلامية، والتدخل فى أمر الفتوى دون تدريب عليها، فيجب ترك أمر الفتوى للمتخصصين بدار الإفتاء، والذين استطاعوا أن يكتسبوا ثقة المسلمين فى مصر وخارجها، فمنذ أيام أعلن الأزهر عن افتتاح مركز آخر لتدريب الوعاظ على الفتوى، وهو خطوة فى الاتجاه الصحيح، حيث إن المتابع للشأن الدينى يعلم أن الوعاظ أصابهم ما أصاب الأزهر من ضعف فى العهود السابقة، لذلك انتبهت مشيخة الأزهر لهذا الأمر، وأصبحوا محل عناية من شيخ الأزهر الشريف الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، والذى لم يبخل عليهم بكل الدعم، إلا أن تصدرهم للفتوى قد يأخذ بعض الوقت.
عدم توحيد الفتوى بين مجمع البحوث ودار الإفتاء
ما رصده "انفراد" يكشف عن عدم توحيد للمنهج داخل المؤسسة الدينية الإسلامية، فنجد أن لمجمع البحوث الإسلامية رأيا فى مسألة، نراه مخالفا للرأى الذى عليه دار الإفتاء، مما يستوجب التنسيق بين قطاعات المؤسسة الدينية، وهو ما يقف عائقا فى جهود تجديد الخطاب الدينى الذى يعمل عليه شيخ الأزهر منذ توليه منصبه، وإعادة هيبة الأزهر، و"انفراد" أجرى بعض المقارنات فى الفتاوى التى تم رصدها وهى عن الصلاة بالمساجد التى بها أضرحة، وعن القروض من البنوك.
سؤال حول التمويل العقارى ورد مجمع البحوث بأنه ربا
ورد لمجمع البحوث الإسلامية سؤال كالآتى: تقدمت للحصول على شقة من شقق التمويل العقارى وتم التخصيص والشقة تكون ملكى، ولكن فوجئت بأن البنك يطلب منى عمل توكيل له بحقه فى البيع أو الرهن للشقة مقابل أن يقرضنى المال المكمل لثمن الشقة وقدره 94000 ألف جنيه، وذلك بفائدة 7% سنويا مقدارها الإجمالى 72000 ألف جنيه، فأكون مطالبا بسداد مبلغ 167000 ألف جنيه على مدار 17 سنة وغرامة تأخير إذا تأخرت فى سداد الأقساط.. هذا غير خصم ضريبة دمغة قدرها 84 جنيها كل ثلاثة أشهر.. فهل هذا قرض ربوى؟ وتعاملات ربوية أم لا؟ وجزاكم الله خير..
وجاءت الإجابة: فإن السكن من الحاجات الأصلية التى لا يمكن المرء أن يعيش بدونها، قال الله سبحانه وتعالى: "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا" وروى عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "ثلاث من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب الهنيء". وإن الحصول على المسكن الواسع المناسب أصبح اليوم فى مقدمة المشاكل التى يجابهها المرء فى حياته، ولا سيما فى المدن الكبيرة المزدحمة بالعمران، وذلك لتعقد الحياة وكثرة السكان وغلاء الأسعار، والذين يستطيعون أن يشتروا أو يبنوا لأنفسهم مسكنا يفى بحاجاتهم قلة قليلة بالنسبة إلى الذين لا يستطيعون ذلك.
ونظرا إلى هذا فقد ظهرت فى معظم البلاد مؤسسات تقوم بتمويل الناس لشراء المساكن أو بنائها، ولكن أكثرها تعمل فى إطار النظام الربوى - كما فى واقعة السؤال - فتقدم إلى عملائها قروضا، وتطالبهم على ذلك بالفائدة المعينة المتفق عليها فى عقد التمويل، وبما أن هذا العقد يقوم على أساس الربا، وهو من أكبر المحرمات التى نهى عنها الله سبحانه وتعالى فى كتابه المجيد، فإنه لا يجدر بأى مسلم أن يدخل فى عقد يقوم على هذا الأساس الفاسد، وحينئذ يجب على علماء المسلمين أن يقترحوا للناس طرقا للتمويل العقارى لا تعارض أحكام الشريعة الغراء، والتى يمكن أن تتخذ كبديل للتمويل الذى يقوم على أساس الربا المحرم شرعا، فإنه لا يجدر بأى مسلم أن يدخل فى عقد يقوم على هذا الأساس الفاسد، لذلك قرر مجلس مجمع الفقه الإسلامى المنعقد فى دورة مؤتمره السادس بجدة فى المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14-20 مارس 1990م، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (التمويل العقارى لبناء المساكن وشرائها) ، واستماعه للمناقشات التى دارت حوله، قرر الآتى:
إن المسكن من الحاجات الأساسية للإنسان، وينبغى أن يوفر بالطرق المشروعة بمال حلال، وإن الطريقة التى تسلكها البنوك العقارية والإسكانية ونحوها، من الإقراض بفائدة قلت أو كثرت هى طريقة محرمة شرعًا لمــــا فيـــــها مـــــن التعامـــــل بالـــربا.
هناك طرق مشروعة يستغنى بها عن الطريق المحرمة لتوفير المسكن بالتملك (فضلًا عن إمكانية توفيره بالإيجار)، منها أن تقدم الدولة للراغبين فى تملك مساكن قروضًا مخصصة لإنشاء المساكن، تستوفيها بأقساط ملائمة بدون فائدة سواء أكانت الفائدة صريحة أم تحت ستار اعتبارها (رسم خدمة) على أنه إذا دعت الحاجة إلى تحصيل نفقات لتقديم عمليات القروض ومتابعتها وجب أن يقتصر فيها على التكاليف الفعلية لعملية القرض على النحو المبين فى الفقرة (أ) من القرار رقم (1) للدورة الثالثة لهذا المجمع، أن تتولى الدول القادرة على إنشاء المساكن وتبيعها للراغبين فى تملك مساكن بالأجل والأقساط بالضوابط الشرعية المبينة فى القرار (53/2/6) لهــــذه الـــدورة.
أن يتولى المستثمرون من الأفراد أو الشركات بناء مساكن تباع بالأجل، أو أن تملك المساكن عن طريق عقد الاستصناع - على أساس اعتباره لازمًا - وبذلك يتم شراء المسكن قبل بنائه بحسب الوصف الدقيق المزيل للجهالة المؤدية للنزاع، دون وجوب تعجيل جميع الثمن، بل يجوز تأجيله بأقساط يتفق عليها، مع مراعاة الشروط والأحوال المقررة لعقد الاستصناع لدى الفقهاء الذين ميزوه عن عقد السلم.
الملاحظ فى الإجابة على تلك الفتوى أن مفتى المجمع استعانوا بفتوى قديمة من عام 1990، بالإضافة إلى أنها ليست صادرة من الأزهر الشريف أو دار الإفتاء، والذى من المؤكد أنهم يملكون الرأى الشرعى فى هذا الأمر وتعرضوا له، حيث استعانوا بفتوى لمجمع الفقه الإسلامى بجدة بالمملكة العربية السعودية.
رد دار الإفتاء التى تجيز التمويل العقارى
ونجد أن رأى دار الإفتاء المصرية فى القروض يوضح أنه يجب التنبيه على أن ما يسمى بالقروض التى تُعطَى من البنوك وغيرها من الهيئات العامة على ثلاثة أنواع:
الأول: ما يتم صرفه مالًا فى مقابلة مالٍ، مِن غير نظرٍ إلى توسطِ سلعةٍ أو استثمارٍ، بل غاية المعاملة أن يأخذ العميل مالًا ليرده بأزيد مما أخذه، وهذا النوع حرامٌ؛ لأنه يدخل تحت قاعدة "كل قرضٍ جرَّ نفعًا فهو ربًا"، ولا يحل أخذه إلَّا عند الضرورة أو الحاجة التى تنزل منزلتها؛ قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ البقرة: 173
الثانى: ما يكون البنك فيه وسيطًا فى شراء سلعةٍ أو عقارٍ ما؛ بحيث يشتريها هو بثمنٍ ويبيعها للعميل مقسطةً بثمنٍ أكبر، أو يُمَوِّل شراءها، وهذا نوعٌ من البيع بالتقسيط، وهو جائزٌ شرعًا؛ للقاعدة المقررة: "إذا توسطت السلعة فلا ربا".
الثالث: عقود التمويل الاستثمارية بين البنوك والهيئات العامة وبين الأفراد والمؤسسات، والتى يتقرر الصرف فيها بناءً على دراسات الجدوى للمشاريع والاستثمارات المختلفة، وهذه فى الحقيقة عقودٌ جديدةٌ تحقق مصالح أطرافها، والذى عليه الفتوى أنه يجوز إحداث عقودٍ جديدةٍ مِن غير المسمَّاة فى الفقه الموروث ما دامت خاليةً من الغرر والضرر، محققةً لمصالح أطرافها، كما رجحه ابن تيمية وغيره.
ويجب عدم تسمية النوعين الأخيرين بالقروض؛ لأن ذلك يسبب لَبسًا مع قاعدة "كل قرض جَرَّ نفعًا فهو ربا ،وبناءً على ذلك: فإذا كان القرض شخصيًّا لا علاقة للبنك فيه بشراء العقار فإنه لا يجوز شرعًا إلا عند الضرورة أو الحاجة التى تنزل منزلتها، وإذا كان قرضًا عقاريًّا يموِّل فيه البنكُ شراءَ العقار فهو جائزٌ شرعًا، ويجب حينئذٍ عدم تسميته بالقرض؛ لأن ذلك يسبب لَبسًا مع قاعدة "كل قرض جَرَّ نفعًا فهو ربا.
فتوى لمجمع البحوث الإسلامية حول الصلاة فى المساجد التى بها أضرحة
ما حكم الصلاة فى المسجد الذى فيه ضريح، سؤال ورد إلى مجمع البحوث الإسلامية، جاءت الإجابة عليه: اختلف أهل العلم فى حكم الصلاة فى المساجد التى بها أضرحة، فمذهب الأئمة الثلاثة (الأحناف والمالكية والشافعية) أن الصلاة فى المساجد التى فيها أضرحة صحيحة إلا إذا كان القبر أو الضريح فى جهة القبلة، فتكره الصلاة مع الصحة، ويرى الحنابلة حرمة وبطلان الصلاة فى مثل هذه المساجد.
وترى اللجنة أن الصلاة فى المساجد التى بها أضرحة صحيحة، ما لم يكن قصد المصلى تعظيم القبر أو صاحبه، أو كان القبر أمامه، بدون حائل، كباب أو حائط مثلا، فإن وقعت الصلاة تعظيماً لصاحب القبر، أو لم يكن بينه وبين القبر حائلاً كانت الصلاة باطلة، حتى ولو كان صاحب القبر نبياً.
رد دار الإفتاء على الصلاة فى المساجد التى بها أضرحة
إن الصلاة فى المساجد التى بها أضرحة الأولياء والصالحين جائزةٌ ومشروعةٌ، بل ومستحبة أيضًا، والقول بتحريمها أو بطلانها قولٌ باطل لا يُلتَفَتُ إليه ولا يُعَوَّلُ عليه.
لابد من توحيد الفتوى والاستفادة من خبرات دار الإفتاء فى هذا الأمر المهم، حتى لا نجد أن الناس منقسمون حول أمر ما وكل منهم مرجعه إلى جانب وهما فى النهاية جميعهم تحت مظلة الأزهر، مما قد يعرقل جهود الأزهر فى السعى نحو تجديد الخطاب الدينى، فلابد من التنسيق والعمل المشترك.