علاقة الأستاذ بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كانت الأقوى والأقرب على الإطلاق فى مقابل علاقته ببقية الرؤساء التى شهدت موجات مد وجزر واتسمت بنوع من العداء والفتور، والدليل على ذلك إن تلك الصلة بالرئيس عبد الناصر كانت سببا لطرح تساؤلات عديدة من قبل زملاء هيكل والمقربين من عبد الناصر فى تنظيم الضباط الأحرار، على رأسها ما السر الذى يجمع بين هذا الصحفى وزعيم الأمة ولماذا يتقرب منه لدرجة توحى بأنه مصدر ثقته الوحيد فيلجأ إليه قبل أن يقبل على اتخاذ أى قرار ؟. حتى أصبح هيكل هو الشاهد الأول على التجربة الناصرية نظرا لاقترابه الشديد من مؤسسها وتفهمه المبكر لطريقة تفكيره وتخطيطه.
وقد مرت علاقة عبد الناصر بالأستاذ بمراحل عدة بدأت بمجرد رغبة صحفية فى تحقيق سبق ونشر معلومات فريدة من نوعها عن دور الجيش المصرى فى حرب فلسطين وانتهت بكون الثانى بمثابة الذراع الإعلامية اليمنى للزعيم الراحل، ووفقا لما ذكره الإعلامى فؤاد مطر فى حواره مع هيكل عام 1974 ودونه الصحفى جمال البنا، فقد رأى هيكل الرئيس عبد الناصر للمرة الأولى فى صيف 1948 حيث كان الأول هو الصحفى المصرى الوحيد الذى استطاع أن يخترق قرار منع سفر الصحفيين لمرافقة الجيش والذى كان قد أصدره وزير الحربية فى ذلك الوقت الفريق محمد حيدر باشا، على أساس أن يكتفوا بما يصدر عن إدارة الشئون المعنوية للجيش من بيانات ولكن هيكل استطاع أن يكون فى قلب الحدث مع القوات المصرية، بعدما انتقل إلى عمان ومنها إلى القدس ثم بيت لحم ومنها إلى الخليل، وكانت الجلسة الأولى التى جمعت بينهما عندما علم هيكل إن الكتيبة السادسة التابعة للقوات المصرية استطاعت صد الهجوم الصهيونى الذى كان يستهدف السيطرة على عراق المنشية على يد الصاغ جمال عبد الناصر.
وقتها أصر هيكل على مقابلة هذا القائد ففوجئ بشاب صغير السن طويل القامة يفترش خيمته ليرتاح قليلا بعدما بدا عليه أثار التعب ولكنه لم يستجب لرغبة الأول فى الحديث معه بسبب اعتراضه على التغطية الإعلامية المصرية وتقييمها لأداء الجيش فى حرب فلسطين، ولكن بعد عودة القوات لمصر التقى الطرفان مرة أخرى بعد الهدنة الأولى وفى نهاية عام 1949 زار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وبرفقته الصاغ صلاح سالم، هيكل فى مكتبه بمؤسسة أخبار اليوم بعدما اطلعا على سلسلة التحقيقات التى كتبها الأخير حول الانقلابات التى شهدتها سوريا آنذاك وكيفية استقبال الشعب لها.
ثم تجددت الزيارة مرة أخرى بشكل مفاجئ من قبل عبد الناصر بعدما عاد هيكل من إيران عقب تغطيته الإعلامية للأزمة هناك وكان السبب من الزيارة هذه المرة كما قال عبد الناصر له انه يريد الحصول على نسخه من كتابه إيران فوق البركان لأنه لم يجدها فى الأسواق. وبعد ذلك تكرر اللقاء مرة أخرى فى منزل الرئيس الراحل محمد نجيب بسبب القرار الذى أصدره الملك فاروق بحل مجلس إدارة نادى الضباط بعد نجاح المجموعة التى رشحها الضباط الأحرار فى انتخابات النادى.
حينها حث هيكل الضباط الأحرار على عدم الاستسلام لقرار الملك والدفاع عن حريتهم وكرامتهم عن طريق توجه ألف ضابط إلى السرايا، فعندما سأله عبد الناصر هل الحل من وجهه نظره القيام بإنقلاب فلم يعطيه ردا وافيا ولكن اقترح عليه ضرورة معالجة الوضع المتردى، ولكن عبد الناصر رأى إن هذا سيعتبر عصيانا فقال محمد نجيب إنه سيعد مذكرة تمهيداً لرفع دعوى أمام مجلس الدولة، من بعد هذا اللقاء زاد اهتمام عبد الناصر فى التعرف معرفة مستقبل الانقلابات فى البلدان العربية من هيكل الذى تابع تفاصيلها إعلاميا فى سوريا وسأله عن توقعه بشان تدخل القوات الانجليزية فى حالة حدوث انقلاب على الملك ولكن الأخير استبعد ذلك، ومع الاهتمام الزائد من قبل عبد الناصر وإصراره على التقرب من هيكل وطرح أسئلة تتعلق بمصير البلاد بعد حدوث انقلابا عسكريا فيها.
المثير فى الأمر إن اختيار هيكل على اعتباره المدنى الوحيد القريب من القيادة العسكرية كان بإصرار من عبد الناصر ورهانا منه عليه ومن هنا بدأ الأخير فى تكليف الأول ببعض المهام لخدمة أهداف الثورة ومن هنا جاءت اللحظات الفارقة فى علاقة استمرت ما يقرب من 18 عاما دون انقطاع يرافقه خلالها فى كل الاجتماعات والأوقات الصعبة.
شهادات هيكل عن عبد الناصر وتاريخ علاقتهما لا تقتصر فقط على الأحاديث السياسية والمعارك التى خاضها الاثنين معا لإنجاح الثورة ولكن إذا أردت أن تتعرف على عبد الناصر الإنسان فعليك باللجوء إلى صديقه لتسمع منه حكايات عن حياه زعيم الأمة الإيمانية وكان هيكل يحرص على التحدث معه فى الشعر والأدب والتاريخ والموسيقى وتربط بينهم صداقة قوية مبنيه على ثقة ولكن هذا لم يمنع هيكل من الكتابة على اداء وزراء عبد الناصر وانتقادهم يقول هيكل فى حواره مع الاعلامى فؤاد مطر : قد كتبت الكثير حول قضايا لولا الثقة التى بيننا لكان الأمر يختلف، وكان هيكل لا يكتب فى مقالاته ما يدور بينه وبين عبد الناصر على الرغم من الإشاعات التى روجها البعض فى هذا الوسط حول ذهاب هيكل إلى عبد الناصر كل خميس ليستسقى منه افكار مقاله فى اليوم التالى وفى غير ذلك لم أشعر أن عبد الناصر يضيق بما نكتب فى الأهرام، لأننا نكتب من موقع الحرص على الثورة، ولم أكن وحدى الذى يكتب.. فقد كتب توفيق الحكيم (بنك القلق) وسلمها لى وقال لى: هذه ليست للنشر، فقلت له: إذا كنت لن تنشرها فلماذا كتبتها؟ فقال: إذن أجّل نشرها، قلت: إن دور المخابرات وأساليبها مشكلة حقيقية، وما دمت أنت وجدت فى نفسك الشجاعة لتكتب فأنا عندى الشجاعة لأنشر. ونشرنا الحلقة الأولى من القصة فقامت الدنيا، ولم يكن عبد الناصر قد قرأها، لكنه سمع بالضجة التى أثارتها، فاتصل بى مستوضحا فقلت له إنهم يحاولون منعنا من نشر الحلقة الثانية.. وقرأ عبد الناصر الحلقتين الأولى والثانية بعد أن حملتها إليه، فقال لى: انشروا. وقال: إن توفيق الحكيم كتب أيام العهد الملكى (يوميات نائب فى الأرياف)، وإذا كان فى العهد الملكى يستطيع أن ينقد اجتماعيا من حقه أن يكتب أى نقد للتجربة.. ونشرنا بقية الحلقات.. ورويت لتوفيق الحكيم ما دار مع عبد الناصر.
الحالة التى يتذكرها هيكل جيدا بشأن حدوث توترات بينه وبين الرئيس الراحل كانت فى اليوم الذى أصدر فيه عبد الناصر قرارا بتعيينه وزيرا دون أن يفاتحه فى الأمر، فأرسل له رسالة اعتذار عن المنصب وكانت هذه هى الورقة الوحيدة المكتوبة التى رفعها هيكل إلى صديقه فأرسل له السادات فى محاولة منه لإقناعه وابلغه الأخير ان عبد الناصر قرر ولا مجال لقبول الاعتذار وأن المسألة ليست مسألة مفاتحة وإنما هى قرار صدر وانتهى الأمر فقبل المنصب وكان فى موقف صعب ما بين المحنة الحقيقية التى واجهها هيكل فى بداية توليه المنصب بشأن القبض على بعض زملاءه بالأهرام وشعوره بعبد الناصر الذى يحرص عليه.
ويضيف: وقبل هذه المحنة حدثت حالة توتر بيننا بسبب اعتقال جمال العطيفى، وأمضينا نحو أسبوع فى شبه قطيعة، هو لم يتصل وأنا لم أتصل، وفى هذه المرة أيضا كان السادات هو الذى تدخل، فقد كان مع عبد الناصر فى استراحة القناطر ومن هناك اتصل بى وقال: لماذا لا تطلب الرئيس وتصفى الموضوع معه لأنه متضايق، وبعد ذلك اجتمعت مع عبد الناصر وصفينا موضوع جمال العطيفى وتم الإفراج عنه.
يقول هيكل: طبعا كان هناك كثيرون يتضايقون من هذه الثقة التى وضعها عبد الناصر فى شخصى وقال لى السادات ذات مرة لولا سلك التليفون لكانوا أتعبوك كثيرا، وكان السادات يقصد بذلك التليفون الذى فى مكتب هيكل والمتصل بغرفة نوم عبد الناصر.
ويقول هيكل: عبر هذا التليفون جرت مناقشات واستفسارات كثيرة، وكان هذا التليفون معيارا لحالات التوتر بيننا، أحيانا لا يرن فيكون معنى ذلك أن عبد الناصر متضايق منى، وأحيانا لا أتصل به بسبب حالات من الضيق كانت تنشأ نتيجة حوادث معينة حصلت، وأشهد أن عبد الناصر كان نموذجا للرقة فى معالجته لحالات التوتر التى تحدث، وباستمرار لم يكن يخرج ضيقه عن حدود معينة، وأتذكر مرة أنه كان متضايقا جدا من أمور كتبتها، وخلال مناقشة بالتليفون سألته إذا كان يريد أن أحضر إليه فأجابنى: لا أريـــد أن أراك وأنــــا (متنرفز) نلتقى بعد أن تهدأ الأمور ونتفاهم.